إرهاب على شاطئ المتوسط: دلالات «تفجير الكنيسة في الإسكندرية»
رفعت سيد احمد
إن ما جرى ليلة رأس السنة الميلادية الجديدة، في مدينة الاسكندرية على شاطئ المتوسط، لا يحتاج ـ في ظني ـ إلى مجرد الإدانة، ولكنه يحتاج إلى وقفة جادة، وجديدة، لتأمل ما مضى، في مجال مقاومة الإرهاب الديني والسياسي، وللاحتراز مما هو قادم من مثل تلك العمليات الخطيرة والجديدة في مجال الفعل المسلح لقوى وتنظيمات تستهدف الأمن القومي لهذا الوطن ككل وليس لمسيحييه فحسب!! بهذا المعنى تطرح هذه العملية ثلاثة تساؤلات:
أولا: هل كانت العملية الإرهابية ذات رسالة طائفية أم سياسية؟
والإجابة: العملية الارهابية التي جرت على شاطئ المتوسط والتي خلفت أكثر من مئة وعشرين بين قتيل وجريح كانت بمثابة رسالة سياسية بامتياز. توقيتاً، وهدفاً، ومحتوى، فالتوقيت: هو بداية عام جديد وفي لحظة احتفال كنسي بهذه المناسبة، وتحديداً عند منتصف الليل، حتى يسهل للإرهابي تفجير نفسه أو وضع المتفجرات وتضعف القبضة الأمنية أمام أبواب دور العبادة، وهي بالمجمل لحظة فرح وأمان لا يتوقع أحد أن يكون هناك من سيغدر فيها بالآمنين. وفي التوقيت أيضاً هي تأتي والبلاد خارجة لتوّها من أتون معركة سياسية انتخابية خلفت جراحاً عدة وطالب فيها البعض بالثأر مما أسماه عمليات التزوير التي جرت، وتمنى فيها البعض الآخر، إيلام النظام، والحكومة بأي شكل وفي أي مكان.. توقيت كانت فيه النفوس ملأى بالغضب، والعنف المكبوت، وفي التوقيت أيضا، تأتي العملية بعد سلسلة من عمليات الشحن الطائفي، من قبل الغلاة، على طرفي المعادلة، المسيحي/المسلم.
÷ أما الهدف، ففي تقديرنا لم يكن إرهاب (أقباط مصر) فحسب بقدر ما كان يستهدف إرهاب مصر ذاتها، نظاماً، ودوراً، مجتمعاً، وثقافة، وإدخالها مستنقع الفتن ببعديه المذهبي، والطائفي، وربما العرقي الذي تغرق فيه العديد من بلداننا العربية والإسلامية، وذلك خدمة لأجندات، دول وتنظيمات دولية تكنّ العداء لهذا البلد وتكره تماسكه الوطني الممتد عبر القرون.
أما المضمون، فرغم أنه كان رسالة كتبت بالدم والضحايا، فإنه كان مختلفاً هذه المرة في قوته وآلية تنفيذه سواء بعملية انتحارية ـ كما قال البيان الأول لوزارة الداخلية المصرية ـ أو آلية تفجير سيارات وهي وسيلة جديدة نسبياً على عمليات الارهاب الديني أو السياسي في مصر.
ثانيا: للإجابة على سؤال من أرسل رسالة عيد رأس السنة الدامي على شاطئ الاسكندرية الآمن، نحتاج إلى تأمل نوعيتها، وتوقيتها، وإلى أن نعيد قراءتهما بدقة، ونربطهما بما سبق من تهديدات (قبل نحو شهرين) لتنظيم القاعدة وأيضاً ربط الرسالة بحالة الشحن الطائفي المستمرة منذ أكثر من عام، لأوهن الأسباب، وأتفه الدوافع (تنصير مسلمة أو إسلام مسيحية)، إن مرسل الرسالة في تقديرنا لا يخرج عن اثنين، وجدا في البيئة (الاسكندرانية) مجالاً وقبولاً، والاثنان هما وبشكل مباشر: (القاعدة وأخواتها في مصر) وأجهزة المخابرات المعادية (إسرائيل نموذجاً)، وعلى المراقبين أن يلاحظوا جيداً أن التيار السلفي المتشدد في مصر نشأ في الاسكندرية، وأن كتلته العددية الأكبر والأشرس لا تزال موجودة في هذه المدينة. وفي موازاة ذلك علينا أن نعلم أيضاً أن عمليات إرهاب الموساد وبعض الأجهزة الغربية، كان لها وجود مؤثر في هذه المدينة، ذات الصبغة التاريخية الخاصة التي كانت تمتاز بالتنوع والثراء الإنساني (أقليات وطوائف متعددة صنعت تاريخ الاسكندرية). إن من أرسل (الرسالة الدامية)، أراد أن يزلزل هذا التعايش المشترك وأن يضربه في القلب، وأن يدخل مصر إلى مرحلة من القلاقل والتوترات الطائفية الداخلية، تحقق له أهدافاً إقليمية ودولية، مهمة، وهنا علينا أن ندرك جيداً أنه لو أن من قام بالعملية كان هو ما يسمى بتنظيم القاعدة او من يلتحق به من تيارات ارهاب تلتحف زيفاً وكذباً برداء الإسلام، أو كانت أجهزة مخابرات أجنبية لدول مثل (إسرائيل)، فلسوف ينكشف بعد حين ان محركهما واحد، وربما يأتي حين من الدهر ليس ببعيد نكتشف من خلال وثائق شبيهة بوثائق (ويكيليكس) أن من يحرك هذا الارهاب سواء باسم الدين أم باسم السياسة في أغلب بلادنا العربية كان واحداً، وأنه استخدم في سبيل ذلك كل الوسائل والحيل، التي تضللنا عنه، ولكن مرسل الرسالة سواء أكان (الموساد العربي) أم الموساد (الإسرائيلي) ما كان له أن يحقق هدفه، إلا إذا كانت ثمة (خلايا نائمة) تسانده تنظيمياً، وبيئة شحن طائفي ديني تحتضن فعله الآثم، وهنا مصدر الخطر المستقبلي، من أن تتكرر مثل هذه الحادثة، لأن أسباب استمرارها لا تزال مستمرة، ولأن سبل علاجها لم تكن جادة وشاملة، وكانت في أغلبها محصورة في العلاج الأمني ولم تتجاوزه ـ رغم النصائح والدراسات ـ إلى العلاج السياسي والاجتماعي بمعناه الشامل، وهذا ما ينقلنا إلى السؤال الأخير، كيف نتصدّى لمثل هذه الجريمة، ونمنع تكرارها، مستقبلا؟
ثالثاً: نحسب أن (العلاج الأمني) ضروري ومهم، خاصة إذا استند إلى استراتيجية شاملة للردع والحماية، وإلى مفهوم أمني أكثر اتساعاً مما هو حاصل اليوم، ولكنه ليس العلاج الوحيد، إنه جزء من استراتيجية أشمل نحتاجها لمواجهة هذا الإرهاب العابر للحدود والقيم والأخلاق والمتسق مع فكر الغلو والشحن الطائفي الشاذ. إن المطلوب وباختصار هو إبداع وسائل جديدة داخل استراتيجية المواجهة المطلوبة، تبدأ بحصار الخطاب الديني المتخلف والمتشدد وإبعاده ـ فوراً ـ عن ساحة التأثير، سواء كانت هذه الساحة هنا هي (الكنيسة أو المسجد)، وهذا الخطاب للأسف موجود، ومؤثر، ولا ينبغي أن ندفن رؤوسنا في التراب، بدعوى ان من يطلقونه ويتبنونه أقلية غير مؤثرة، فهذا للأسف غير صحيح، ومن (الحصار) إلى ضرورة إعادة انتاج وتجديد خطاب ديني (إسلامي ـ مسيحي) جديد ينطلق ويتمحور حول فقه المواطنة، بحيث تصبح فيه الكنيسة والمسجد جزءاً من الوطن، وليست ـ كما حدث للأسف خلال الأعوام الماضية ـ هي الوطن ذاته، أو هي الوطن البديل.
رابعاً: قضية المواجهة ينبغي أن تفهم، وتتحول إلى قضية مجتمع، لا قضية دولة أو نظام، وهذا يستلزم مراجعة الأدوار والعلاقات السياسية وحالات الخصام والقطيعة والثأر بين النظام والقوى الوطنية الحزبية ومنظمات المجتمع المدني، والنقابات والمراكز البحثية الجادة والمستقلة، والمثقفين، ومكونات النسيج السياسي كافة للدولة، والمراجعة ليست مطلوبة فحسب، بل هي ضرورية خاصة بعدما جرى في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ومن جملة المراجعات المطلوبة لبناء استراتيجية المواجهة، مراجعة الموقف المتردّد وأحياناً الرافض لقوى المقاومة العربية (سواء في العراق أم لبنان أم فلسطين)، فإذا صحّ أن ثمة أصابع لأجهزة مخابرات معادية (الموساد نموذجاً) فإن سبل مواجهة بل وقطع هذه الأصابع لن يكون بجهود مصرية فقط، فقوى المقاومة العربية (خاصة في لبنان وفلسطين)، كان لها فضل السبق في مواجهة هذه الأجهزة وبنجاح مشهود ومعلوم، ومن الخطأ بل الخطل السياسي، عدم التنسيق معها في معركة مثل هذه، طويلة المدى ومعقدة تتصل بالأمن القومي المصري، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى إذا ما ثبت أن تنظيم القاعدة وخلاياه النائمة من القوى السلفية المتشددة في مصر، كان خلف هذا الحادث الإجرامي، فمن المفيد على نطاق المواجهة الاستراتيجية ان تتعاون مصر، مع القوى المقاومة التي عانت من التنظيمات الإرهابية نفسها.
÷ إن المواجهة، إذن تحتاج، إلى استراتيجية مركبة، استراتيجية تحتوي (الأمني) ولا تقتصر عليه، وتضيف إليه الثقافي والديني والسياسي، استراتيجية تربط الداخل بالخارج، وتستفيد من أوراق القوة التي أُهملت في العقود الماضية، ونعظمها، وتحاصر نقاط الضعف، لتقضي عليها، ونحسب ان مصر الدولة والدور ـ كما قلنا ـ هي المستهدفة، وهي تستحق أن يبذل في سبيلها كل غال ونفيس!
السفير