انفجار في الدولة الرخوة: كوابيس حـرب أهلية في مصر
«ماذا حدث؟»، الصوت المشروخ لخّص ما عبّرت عنه صرخات وآهات وبكاء استطاعت الكاميرات تسجيله بعد لحظات من انفجار رأس السنة، أمام كنيسة القديسين في سيدي بشر بالإسكندرية.
الذاكرة لن تنسى المشهد، والآلام لم تعد حكايات شفوية تتناقلها العائلات المسيحية في السر عن اضطهاد، وصل إلى ذروته، مع صرخة مسيحية أمام الكاميرا: «ها نسيبلكم البلد ونمشي… وإنتو ها تدبحوا بعض زي العراق».
ذاكرة مصوّرة لكابوس رأس السنة، الذي يشير إلى تحوّل «القتل على الهوية» من أسلوب عابر إلى منهج لم يعد «غريباً» على مصر منذ حوادث الكشح 1997. الموت في انفجار كنيسة القديسين لم يكن حادثة إرهابية عادية، لكنه لعب خطر على بناء المجتمع في مصر. وسواء كان الجناة «أفعى» لها رأس في الخارج وجسم في الداخل، أو وحش محلي يكبر في السر منذ سنوات، فإن قنبلة المسامير أشعلت الفتنة التي لم تعد تنام طويلاً. أشعلتها ومعها شعور بالخطر تحركه كثير من عواطف الفزع من الموت، وقليل من عقل يقفز فوق النار الطائفية.
البحث عن الأفعى
بداية من الرئيس إلى أصغر ضابط في الشرطة، يبحث نظام حسني مبارك عن أفعى تسرّبت من التجمعات الأمنية، وأشعلت السنة الجديدة كلها. سنة «الحسم» بدت حاسمة فعلاً في كشف «رخاوة» في جسد الدولة. وبعد ساعات من انفجار كنيسة القديسين، هاجم ملثّم نقطة شرطة وقتل شرطياً وسرق سلاحه الرسمي. وفي سياق الاحتجاج على الانفجار، قطع أقباط طريق الاوتوستراد، ومنعوا مرور السيارات.
«الطريق» و«السلاح» هما من رموز الدولة التي تحاول استدعاء المجتمع لنصرتها في المحنة بحديثها عن الأفعى، والمجتمع خارج السيطرة، يشعر بالخطر، ويدافع بفوضوية عن تماسك ما.
كل العناصر موجودة في حال الدفاع ضد الخطر: في المقدمة تعصّب يرفع شعارات دينية. الأقباط يصرخون بشعار تهتز له الكنائس: «بالروح بالدم نفديك يا صليب» و«مهما يعملوا فينا… العدرا ها تقوّينا».
المسلمون في العادة يردّون في العلن بهتافات «الله أكبر»، وفي السر بشماتة ساذجة: «لكي يتوقفوا عن الاحتفال برأس السنة في دولة مسلمة».
صوت التطرف الإسلامي خافت، لم يكن أمامه إلا البحث عن عدوّ خارجي. أشار الدكتور محمد سليم العوا مثلاً بإصبع الاتهام إلى «الموساد» ليلتقي مع الدولة في بحثها عن الأفعى، وليغسل يديه شخصياً من صنع موجات تحريض ضد المسيحيين ومعهم في مصر. دعوات صنعت له نجومية أخيرة، تأتي في سياق وضع توازن مع الكنيسة ونجومها.
العوا لمع أخيراً لأداء دور في تحجيم قوة الكنيسة عن طريق عناصر من خارج المؤسسة الدينية التابعة للدولة. في اللعبة البابا، أب روحي، وأمير طائفة تتفاوض باسم «شعب»، في دولة تعيش بعقلين، أحدهما عسكري يلغي مع حداثته كل آخر، والعقل الثاني يخصّ قروناً وسطى إسلامية، تنزع إليها عواطف الحكام ورجال الدين، يبحثون فيها عن متعة الحكم المتعالي عن المحاسبة.
متعة يريدها المغرمون بمزاج القرون الوسطى بدون صداع الفتنة الطائفية، يريدون إذعاناً وتواطؤاً، لا صراعاً يكشف المتعة السرية. الكنيسة تفهم وتلتقط إشارة الرغبات، وتتأهب دائماً للعب الواضح، وهي لا تخوض حرباً ضد الإسلام، لكنها تخوض حرباً بالمسيحيين لمصلحة موقعها في السلطة.
الإسلام ليس في خطر، «الإسلاموفوبيا» لها قرينها الذي يحوّل المسلمين إلى الخوف المفرط على موقعهم الاجتماعي، رغم أنهم مثل المسيحيين يشعرون بالضعف في مواجهة سلطة غاشمة، جبروتها مفرط. وبدلاً من البحث عن الخصم الحقيقي، من السهل تصنيع عدو. وبدلاً من الصراع على وضع قواعد ديموقراطية تضمن الاحترام للجميع، يبحث المصري عن ميزة، أو ريشة توضع على رأسه ليهرب من مصير الضحايا.
مناخ يعلي الطائفة ويغوي كل من يجد في نفسه ميول زعامة سهلة. زعامة طائفة أكثر سهولة من زعامة سياسية تتصادم مع السلطة. وهكذا، فإن الحزازات الصغيرة بين المسلمين والأقباط تحولت إلى قاعدة متينة يركب عليها كل طلاب الزعامة في الطائفة.
رجل دين عادي، مثل الأنبا بيشوي، يترك موقعه الكهنوتي ويتحدث قبل أسابيع من الانفجار كزعيم سياسي عن ضيافة المسيحيين للمسلمين في مصر. ثم يفجّر قنبلته بالحديث عن آيات القرآن الكريم التي تكفّر المسيحيين، ويتساءل عن وجود الآية من عدمه، لتمرّ فكرته في إطار كلام عن تحريف القرآن.
تصريحات تغلي بسببها الدماء في العروق، وتتوقد عواطف الدفاع عن العقيدة، فتخرج التظاهرات (بمباركة ما من الدولة)، وتتفعّل ماكينة القضايا، وماكينات أخرى، اعتذارات مبطّنة، وتصريحات وبيانات، وشحنات متطايرة هنا وهناك.
الأنبا زعيماً، بالطريقة نفسها التي صنع بها الدكتور العوا زعامته بالحديث عن وجود أسلحة في الكنيسة. كلاهما اعتمد على كسر الحديث الناعم، والتوافقات المتأنقة، ونقل لغة الشارع إلى العلن.
الأنبا والدكتور ركب كلّ منهما موجات التطرف من أسفل، التي تشعل الحرائق بعيداً عن صانع الاستبداد والمستمتع بجنته الخالدة.
«يا بو دبورة»
البحث عن أفعى خارجية يبعد التهمة عن ذئاب تنام وسط الكروم. المسلمون الطيبون في المناصب الرسمية تحدثوا عن «أشقاء» أقباط، بمنطق الضيافة نفسه الذي تحدث عنه من قبل الأنبا بيشوي، كأنها حرب مواقع.
الدولة تتحلل، بينما يكاد مخزون العنف ينفجر في مواضع خطرة هذه المرة. الكنيسة ليست ملعب الكرة الذي حجّمت فيه الشرطة صراعاً بين نسخ فاشية من مشجّعي الأهلي والزمالك، كلّ منهما يرى فريقه فوق الجميع. صراع نقل لعبة الكرة لتكون ساحة حرب المواقع في مجتمع لا يثق بالدولة، ويبحث عن حقه بذراعه.
للضحايا أصوات تطيّر النوم من العيون، وصورهم مؤرّقة لمجتمع يشعر بالخطر، لكن بدون تأثير كبير للعقل. الهتافات من أجل الصليب كانت قوية وصارخة، لكنها لم تكن كل شيء في تظاهرات الاحتجاج على «الأمان الغائب».
هتفت جموع مسيّسة ضد أسطورة الأمن التي لم تعد مهتمة إلا بتأمين المقاعد العليا، بينما أمن المجتمع مشروخ ومفزع. الهتافات اتهمت الدولة وأمنها مباشرة بالإرهاب «يا بو دبورة ونسر وكاب… إنتو الي عملتوا الإرهاب». ورأت أن المجتمع يحمي مصر وليس الدولة في رسالة «قولوا للحاكم جوا القصر إحنا الي بنحمي مصر».
والعلامة المهمة هنا أن الإرهاب عاد بعد هزيمته في التسعينيات، لكنه هذه المرة ضد المجتمع، ليس في مواجهة الحاكم، ولكن من أجل صناعة صورة للمجتمع عن نفسه، في ظل غياب للدولة ورضوخها لمنطق فوضى الكوارث، حيث يبحث كل ضعيف عن جماعة توهمه بالقوة.
قنبلة رأس السنة أزالت أقنعة متعددة، لم يعد فيها مقبولاً إنكار الدولة: ليس هناك مشكلة طائفية. مصر وطن خال من التعصّب. وبعد كل فتنة يقبّل الشيخ القسيس و«اللي في القلب في القلب يا كنيسة… أو يا جامع».
بعد التصوير يعود المسلم إلى البحث عن قلعة للمسلمين ويختبئ المسيحي تحت خيمة الكنيسة. هي حرب أهلية غير معلنة، لكنّ تفاصيلها أصبحت واقعاً يومياً يزداد ضراوة، ولا سيما عندما يضاف إليه الأمان العادي. أمان الشخص الصغير في أنه يعيش تحت مظلة دولة توفر له الحدود الدنيا للحياة الطبيعية.
حياة على الهوية لم تصل إلى درجة تكوين ميليشيات، لكنها أصبحت عادة، في المدرسة وإشارة المرور، والصراع على التجارة، بل ومنافسات بناء دور العبادة. الجديد أن الدولة، التي تشيخ مع حكامها، تتعامل بالهوية، وما لا يعلنه المسيحيون هو أنهم يشعرون بضعف الهمّة في حماية الكنائس رغم تلقّي التهديدات، لأنها (التهديدات) تخصّ مسلمين وتسبّب للضباط المسلمين شرخاً في الوعي.
هذا عنصر جديد أضيف إلى التمييز التقليدي المتوارث، منذ أن تراجعت رغبة المجتمع كله في الدولة المدنية الحديثة التي لا فرق فيها بين مسلم ومسيحي ولا بين بحراوي وصعيدي أو غني وفقير. لا فرق في الحقوق الأساسية، ولا توزيع مناصب حسب الحصص الطائفية. في مصر تتوزع المناصب حسب حصة طائفية. ولا يمكن مسيحياً أن يتجاوز حدود مناصب معينة في الدولة أو الجيش أو في المناصب الحزبية.
هذا واقع موجود من بعد تموز ١٩٥٢. ولا أحد يريد أن يواجهه، ولا أن يتعامل معه. وعندما اشتعلت فتنة الزاوية الحمراء قبل اغتيال الرئيس المصري أنور السادات، رفعت كل صحف النظام شعاراً: «وحدة عنصري الأمة».
السخافة ليست في الشعار. ولكن في أنه كان مرفوعاً في ثورة 1919، لحظة تكوّن الأمة المصرية، وانصهار الطوائف في دولة حديثة لا تعترف باللون والجنس والدين. وبعد ما يقرب من 100 عام، عندما يُرفع الشعار نفسه، فإنه إشارة إلى تغلغل الطائفية إلى حدّ تشتعل فيه حرباً أهلية تحت كل سرير وفي كل زاوية ولا يشعر المجتمع بالنار. الرصاصات والقنابل تعميد للكراهية، وصور الشهداء تكريس للفرقة والانشقاق.
عندما يكون ضحايا المذبحة «شهداء المسيحيين»، فهذا يعني أن هناك انتقاماً آتياً أو دماً معلّقاً يخصّ طائفة ضد طائفة أخرى.
ومن هذا تلمع فرصة أمراء سريين لكل طائفة يلعبون فيها على العاطفة الدينية. لا تصلح الشعارات القديمة هنا. ولا القبلات التلفزيونية.