مذبحة الإسكندرية إذ تختبر التماسك الوطني المصري ومراجعاته
حسن شامي
سرت قشعريرة من نوع خاص لدى تلقي نبأ مذبحة التفجير الانتحاري التي طاولت مدنيين أقباطاً لدى خروجهم من كنيسة القديسين في الإسكندرية، وأودت بحياة أكثر من عشرين وجرحت العشرات. وقد أشارت تقارير صحافية وتصريحات أمنيّة إلى أن الانتحاري كان ينوي تفجير نفسه شمشونياً داخل الكنيسة لإيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا وللتشديد على استهداف الكنيسة في ذاتها، تدليلاً على الطابع الاستئصالي والشمولي لجريمة موصوفة يحاول القتلة تسويقها حرباً قبلية لا تبقي ولا تذر من دون أن يعرف ضحاياها سبباً لاستهدافهم سوى هويتهم الدينية. لا حاجة الى التذكير بأن قوة القشعريرة وخصوصيتها، إذا كان للفظاعة هذه الصفة، هي على قياس الموقع الخاص والحيوي لمصر، حديثاً وقديماً، في المخيلة التاريخية والثقافية لعرب ومسلمين كثيرين. والخصوصية هذه لا تتعلق فحسب بموقعها الجغرافي والسياسي وبدورها البارز في احتضان كبرى المناظرات والتطلعات التي تلخص شواغل العصر الحديث والاحتكاك بالغرب، بل كذلك بتوليد صورة المجتمع المركّب والمتعدد وتبلور الهويات الاجتماعية وتخالط تقاليد ثقافات شعبية، على التباساتها.
وهذا، كما يبدو، ما يسعى قتلة الأقباط، والمسيحيين العراقيين قبل أسابيع، إلى تقويضه. ويرجح في الظن أن ردود الفعل على جريمة الإسكندرية، مصرياً وعربياً في الأقل، والتي أجمعت على إدانتها باعتبارها تهديداً للنسيج الوطني المصري كله إنما هي من مفاعيل القيمة الباقية لصورة التركيب والتعدد هذه. أما تعهد هذه الصورة ورعايتها، وإثبات القدرة على الاضطلاع بمقوماتها، فهي محك الاختبار الوطني القاسي والفعلي.
لقد حصل بالفعل إجماع أو شبه إجماع على استفظاع الجريمة، وفق ما يستفاد من إدانات الهيئات الرسمية والشعبية والدينية، بما في ذلك حركة «الإخوان المسلمين» الناشطة في تديين المجتمع والثقافة. كما انطلقت مبادرات مدنية عدة تناقلتها المواقع الالكترونية وغيرها لتأكيد «العيش سوياً والموت سوياً»، ولاقت هذه المبادرات تأييداً ملحوظاً شمل آلاف المصريين.
مع ذلك، لا يعدم المراقب تولد انطباع عن وجود مفارقة بليغة: إذا كان هناك مثل هذا الإجماع، ولا داعي للشك في صدقيته، مع ما يحمله من التدليل على أن مرتكبي المجزرة مجموعة قليلة العدد ومعزولة، فلماذا يتعاظم الخوف من الفتنة بين المسلمين والمسيحيين؟ بل حتى يخشى من نشوء دعوات، بين الأقباط، إلى الانفصال على غرار ما سيحصل في جنوب السودان هذه الأيام، في ما يشبه وقائع استفتاء على انفصال معلن، أو إلى احتشاد أبناء الديانة الواحدة في معازل ومحميات بشرية مع ما يعنيه من تقويض مساحات الاختلاط المتبقية. وسيكون ذلك مبرراً. لا أحد يحب العيش وسط خوف صحراوي، كما لو أنه يلوذ لوذاً بخيمته المنصوبة في العراء. إذا حصل هذا فستتحول مصر إلى أرض بملايين الجدران العازلة. ولن يكون مقنعاً ولا مقبولاً أن يعرض التسامح والعيش المشترك كما لو أنهما تعبير عن تنازل أو منّة أو فائض شهامة. ينبغي التقاط الرسائل التي تفصح عنها تظاهرات الأقباط الغاضبين عن حق والصارخين في وجه السلطات والشرطة ملقين مسؤولية تردي مكانتهم وأوضاعهم واستضعاف جانبهم على الدولة. وأقل ما يفترض بالأخيرة أن تقوم به، خصوصاً بعد انتخابات تشريعية معلّبة مما يزيد الاحتقان والاضطغان، هو الكشف بسرعة عن ملابسات الجريمة وبأكبر قدر ممكن من الشفافية.
صحيح أن السلطات المصرية اتخذت إجراءات متشددة لحماية الكنائس عشية الاحتفال القبطي بالميلاد، وأن الهيئات الإسلامية الرسمية تبذل جهوداً للتشديد على الوحدة الوطنية والعيش المشترك… على أن هذا لا يكفي لرأب التصدعات التي يخلفها حدث بهذا الحجم. ففي خلفية الخوف من اتساع الهوة بين المسلمين والأقباط وما يصحبها من تناسل المواقف والسلوكات الغريزية، الزاعمة الجذرية والمغالاة الخلاصية، يكمن شعور بهشاشة النصاب الوطني وبقابلية المجتمع المركّب إلى فقدان عناصر تماسكه ولحمته وإلى التحلل والانفراط بالتالي. الإجماع الخائف هو شيء من هذا القبيل: تأجيل الاستحقاقات الوطنية داخلياً وخارجياً بدعوى الظروف. ويمكن القول إن أداء النظام منذ عقود يميل إلى إدامة الظرفي وإعادة إنتاجه إلى أن يقضي الله أمراً… ويخشى في هذه الحالة ألا يعود أمام المصريين، والعرب استطراداً، سوى الترداد اليائس لعبارة سعد زغلول: «ما فيش فايدة، غطيني يا صفية».
لا غرابة في أن ترتفع الأصوات المطالبة بإجراء مراجعة نقدية وإن كانت قاسية. فحمولة الحدث وتبعاته القاسية هي أيضاً تقتضي ذلك، تحديداً في مصر التي خبرت نخبها وفضاءاتها المدينية منذ قرنين بعض وجوه العلاقة المضطربة بين الإسلام والغرب والرضوض التي أحدثتها هذه العلاقة بالنظر إلى شروط انعقادها التاريخية المثقلة بالعنف الكولونيالي. وما خبرته مصر تاريخياً يتوازى، بل حتى يتصادى، مع ما خبرته مراكز مدينية إسلامية أخرى مثل اسطنبول العثمانية وطهران مع ثورتها الدستورية المعروفة باسم «المشروطية». نرجح أن تنحو المراجعة هذه، على ضرورتها، منحى التفسيرات شبه الجاهزة للحدث المروع الذي طاول الأقباط كاشفاً عن وهن الرابطة الوطنية وساعياً إلى تقويضها. فالقول بوجود أيد خارجية، أياً تكن صفتها، تقف خلف المجزرة وخلف التسبب بالفتنة، يعطي وجاهة للتساؤل عن قابلية الجسم الاجتماعي لمثل هذا «الاختراق» واستدخاله. وهذا التساؤل يذكر بتساؤل الباحث الجزائري مالك بن نبي عن القابلية للاستعمار. على أنه يستحسن أن تتوقف وجاهة التساؤل وشرعيته عند هذا الحد، إذا شئنا تفادي الوقوع في متاهة الوعي الشقي والابتزاز الذاتي حيث الرغبة الجارفة بمحاكمة النفس والتمرد عليها تحجب توقاً إلى الامتثال لنموذج جاهز ومخلّص يحرمنا ثقل التاريخ من تحقيقه. والحال أن شروط المراجعة النقدية المستقلة تبدو ضعيفة في ظل الاصطفافات العريضة وتجوف الأبنية الوطنية فيما تتعزز حظوظ نظرتين متقابلتين لا تخلوان من خطأ منهجي في المقاربة. نظرة تميل إلى المنافحة وتأثيم الآخر، وأخرى تعتبر أن المراجعة ستبقى ناقصة إذا لم تطاول الصفة الإسلامية بالذات باعتبارها حاضنة المثال القبلي المعولم الذي تستلهمه القاعدة وأخواتها من السلفيات الجهادية.
ثمة دوائر إعلامية ودعوية ناشطة في الغرب هذه الأيام لتغليب القراءة الجوهرانية والثقافوية النازعة إلى محاكمة الأصل المفترض والعابر للتاريخ والذي تصدر عنه تمظهرات العنف الإسلامي العبثي اليوم. المنافحة ستفعل ذلك بالمقلوب، وإن بعدّة فكرية أقل لمعاناً. في كلا الحالين لن يكون للتاريخ وسياقاته المتنوعة والمختلفة بين مجتمع وآخر سوى دور الخادم المطيع للإيديولوجيات الواعظة. فالقول مثلاً بأن الصفة الإسلامية تغطي في الواقع ظواهر مختلفة جداً، سيبدو ضرباً من الفذلكة.
الحياة