استنزاف العالم الإسلامي
محمّد الحدّاد
إثر التفجيرات الإرهابية عام 2011، وبصرف النظر عما أحاط بها من غموض من بعض النواحي، لم نفتأ ننبه إلى الآثار العميقة المتوقعة لهذا الحدث في العالم الإسلامي، وندافع عن أطروحة اختزلناها في ثلاث مقولات: أولاً، كل المجتمعات الإسلامية فاقدة الأسباب الحقيقية للقوة التي أصبحت قائمة على العلم والتكنولوجيا. ثانياً، غياب القوة مع استمرار ثقافة القوة (الجهاد، الثورة، المزايدات والشعارات بمختلف أصنافها، إلخ) يؤدي إلى إنتاج العنف الفوضوي الذي هو غير القوة. ثالثاً، فائض العنف مؤهل إلى أن يصدر الجزء الأقلّ منه إلى الخارج فيتخذ ذريعة للأقوياء كي يبرروا مشاريعهم للمزيد من إضعاف فاقدي القوة الحقيقية، أما الجزء الأكبر من هذا الفائض فسيرتدّ ضد المجتمعات الإسلامية نفسها.
كان المطلوب منذ ذلك الحين مواجهة هذا الوضع ورفع هذا التحدّي بمسار إصلاحي شامل ذي أبعاد فكرية وسياسية واجتماعية، كي نخرج من الحلقة المفرغة لتبرير العنف بالعنف ونتفادى الوقوع في فخ الاستنزاف الهيكلي للعالم الإسلامي، لكن ذلك لم يحصل.
فقد اتضح أولاً، أن نزعة المحافظة في المجتمعات الإسلامية قوية متأصلة بأكثر مما كنا نظنّ، والثقافة النمطية السائدة لا تواجه الأوضاع الجديدة بالتفكير والتحليل والفهم والنقد وإبداع المخارج والحلول، وإنما تميل دائماً إلى القياس على الماضي والتحصّن بالمألوف.
واتضح ثانياً، أن التناقضات داخل المجتمعات الإسلامية ذاتها أكبر مما كان متوقعاً، وأن التجانس الظاهري الذي كانت تبدو عليه هذه المجتمعات أكثر هشاشة من المنتظر. فقد تراكمت على مدى قرون كميات من التوجس والنقمة والحقد الدفين انفجرت مع أول سانحة وستواصل انفجارها عقوداً أخرى. ولما كان الحوار ممارسة غير مألوفة لدى العدد الأكبر، ومنهم الزعماء والقادة والمثقفون، فقد عسر بلوغ حلول وسطى في كل القضايا الكبرى المطروحة، وأصبح العنف أو الاستقواء بالأجنبي المطيتين الأكثر يسراً لتحقيق الغايات، المشروعة منها والأقل شرعية.
واتضح ثالثاً، أن التمسك الجنوني بالسلطة مهما كان الثمن مرض يصيب العالم الإسلامي أكثر من غيره من العوالم، مع أنه في ذاته مرض كوني توجد بعض آثاره خارج العالم الإسلامي. وقد يصعب أن نجد في التاريخ البشري مثالاً أفضل مما أقدم عليه الرئيس العراقي السابق الذي فضّل أن ينهار بلده ثم يقتل هو وأبناؤه على أن ينسحب من السلطة في الوقت المناسب. وقد نشهد بعد أسابيع مثالاً آخر لا يقل ندرة وغرابة، إذ المرجح أن يقبل حاكم السودان بتقسيم بلده مقابل تراجع جزئي للغرب عن التضييق عليه كي يتنحّى عن السلطة.
واتضح رابعاً، أن الغرب لا يعبأ بشيء غير مصالحه، وقد استقرت في أذهان قادته ونخبه أنه يواجه صدام حضارات، وأن العالم الإسلامي لا يقبل الديموقراطية والتقدم والعلم وحقوق الإنسان، فاتخذ هؤلاء ما وضعوه لأنفسهم من قناعة مطية لتبرير كل أنواع السياسات الماكيافيلية. فمن جهة تدعي تلك الدوائر أنها تدع العالم الإسلامي وشأنه بعد أن اتضح لها أنه من حضارة غير حضارتها، وأنها لا تطلب منه أكثر من ضبط أمنه وحدوده بما لا يعكّر صفو أمنها، ومن جهة أخرى تنقضّ مثل الكواسر على كل فرصة لاستنزافه بأي شكل كان. وكان آخر الأمثلة على ذلك قرار تنظيم مونديال كرة القدم في دولة قطر، مع ما سيترتب على ذلك من تحويل عشرات المليارات من عائدات النفط والغاز على مدى عقد من الزمن لبناء تجهيزات رياضية ضخمة لن تستعمل إلا على مدى أيام معدودات. بيد أن المؤسسات الغربية القادرة وحدها على توفير التكنولوجيات الضرورية هي التي ستستفيد للخروج من الركود الاقتصادي الحالي الذي تردت فيه هي وبلدانها، بينما سيكسب العرب شرف تنظيم أول مونديال في بلد عربي، وأيّ شرف، كأن النهضة العربية المنتظرة رهينة مباراة كرة قدم.
ثمة تقاسم تلقائي للأدوار حسب المصالح القصيرة لكل الأطراف المعنية، ويصعب في ظل هذا التقاسم أن ينشأ تفكير عميق واستشراف على مدى طويل وتبلور لرؤى إصلاحية جادة تأخذ بعين الاعتبار المستلزمات الحقيقية للمجتمعات المعنية وترسم لها دوراً واقعياً في هذا العالم المتلاطم. وإذا اتخذنا سقوط حائط برلين أواخر 1989 بداية رمزية لما دعي آنذاك بالنظام العالمي الجديد، فإننا نرى أغلب المجتمعات في العالم قد اتخذت لها بعد فترة من التردد منحى واضحاً: الصين، روسيا، بلدان أميركا الجنوبية، جنوب أفريقيا، الخ. أما العالم الإسلامي فلا يزال إلى اليوم مثل السفينة التائهة لا يتضح مساره ومنحاه ولا يعلم أين مستقره ومرساه، وهو عصي عن الاستشراف سوى من جهة كونه فضاء استنزاف لما بقي له من بعض الخيرات الطبيعية مثل النفط والغاز والمنتجعات السياحية.
وكل عام ونحن بخير.
الحياة