إعلان دمشق في وعي الضرورة وضرورة الوعي
محمد بركة
(حيث كان الاستبداد توقف التاريخ وتوقف العقل: ستيوارت ميل )
إن ظاهرة غياب الحرية في المجتمع العربي المعاصر ليس في أنظمة الحكم الشمولي الاستبدادي فحسب , بل في الأنظمة السياسية والاجتماعية المؤسسة على الإجماع في الرأي وتحريم النقد والحوار مع الآخر ، فكيف به بعد أن لم يعد له رأي ، وبعد أن سحب منه حق العمل بالشأن العام .
إن هذا الغياب للحرية في مجتمعنا مفهوماً وممارسةً كان نتيجة التأخر التاريخي العربي الذي أفضى إلى أنظمة الاستبداد الشمولي التي غيبت وعي الضرورة وضرورة الوعي ، حيث يقول روسو : ” إن ماهية العقل أن يكون حرا ً ، وعندما يخضع لسلطة الاستبداد لا يكف عن كونه عقلا ً حرا ً فحسب , بل يكف عن كونه عقلا ً عقلانيا ً .” حيث يؤكد هنا , أن لا عقل بدون حرية ولا استقلال ولا ديمقراطية ولا تنمية ولا عدالة اجتماعية ولا وحدة ولا تقدم بدون حرية . كما ويربط هيغل بين نظرية الحرية ونظرية العقل مع نظرية الدولة حيث يقول: ” عندما نقر بالحرية ، علينا أن نقبل أنه من واجب الإرادة الفردية الحرة أن توجد ما هو ضروري عقلا ً في المجتمع والدولة ” وبالتالي فإن الحرية بدون نظام تماما ً كالنظام بدون حرية . يشتركان في جريمة تخريب المجتمع والدولة , بحيث أن الحرية تحتاج إلى وعي القوانين والتشريعات المتمثلة بالدستور , وإن الوعي بكل هذه القوانين يحتاج إلى جو من الحرية الاجتماعية والسياسية حتى ينطلق ويبدع .
فإذا كان النظام الشمولي العربي بشكل عام , والسوري بشكل خاص قد وصل إلى وضع كل أفراد المجتمع , بمن فيهم الموالين له , متهمين تحت الطلب , من أصغر موظف إلى أعلى درجات السلم الوظيفي , وذلك في جو من الفساد والإفساد , على قاعدة إفساد من لم يفسد بعد حسب الطبيب تبزيني … وضمن خطة الترغيب والترهيب التي أشعرت كل الموالين , أن عليهم المحافظة على هذا الوضع الراهن , وأن لكل واحد منهم , من الناحية العملية حصة في تنفيذ سياسة القمع والاستبداد الذي يفرضها النظام , مقابل أن لكل واحد منهم حصته من الفرص , الرخيصة منها أو الخيالية وغير الشرعية على كل المستويات , الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ومن ثم إيصال هؤلاء المستفيدين إلى درجة من الخوف , ليس على النظام فحسب , بل الخوف على مستقبلهم , وليس الخوف من النظام فحسب , بل الخوف من درايتهم بحجم الفساد والخراب الذي يوقعونه بحق إنسانية ومواطنية المجتمع , إلى درجة أن أصبح الخلاص الوطني لا يساوي شيئا ً أمام الخلاص الفردي , والهم العام معطل أمام شراهة الهم الخاص , والحقوق المدنية والسياسية لا قيمة لها أمام تعطيل الدستور في ظل حالة الطوارئ والأحكام العرفية , وهكذا إلى أن باتت ثقافة الخوف هذه , هي الثقافة السائدة في السلطة والمجتمع .
أمام هذا الخراب المجتمعي والسياسي, وأمام ثقافة الخوف هذه كان لابد من إطلاق مشروع ثقافة الحرية والديمقراطية , ثقافة الدولة الوطنية لكل مواطنيها وكان ذلك من خلال إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي .
فكما هو معروف أن أي مشروع ثقافي أو اجتماعي يتم التعبير عنه بحرية وشفافية مطلقة بوعي الضرورة, يصبح بصورة, تلقائية فعلا ً سياسيا ً وتاريخيا ً بامتياز ومن هنا كان مشروع إعلان دمشق كذلك ,فعلاً سياسياً وتاريخياً نوعياً , وأعتقد أنه استحق اسم معارضة وطنية ديمقراطية .
أولا ً: لأنه دفع ضريبة غالية ملاحقة ً وفصلا ً وسجنا ً وتهديدا ً . وثانيا ً: لأنه يمثل النقيض الفكري والسياسي والاجتماعي لنظام الاستبداد الشرقي المحدث , ثالثا ً: لأنه تجرأ على إعلان الحقيقة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلاد , التي يعمل نظام الكذبة على تغطيتها بكل أساليب القمع والإلغاء والإقصاء , وجعل من هذه الحقيقة طريقا ً عاما ً يتسع للجميع ويعمل من أجل الجميع , ورابعا ً: لأنه لم يدّع امتلاك الحقيقة مرة ً واحدة ً , بل أعلن وأكد على أن عملية التغيير الوطني الديمقراطي هي عملية تدريجية , وذلك من خلال تسليط الضوء على الحقيقة الوطنية بشكل تدريجي , وخامسا ً: لأنه أعلن أن من كان يمنعنا عن رؤية الحقيقة والعيش معها وفيها , ليس نظام الكذبة وأدواته الاستبدادية فحسب , بل جهلنا وضعفنا أيضا ً . وبالتالي إن الحقيقة موجودة أمامنا وحولنا , بل موجودة فينا , لكن ما كان ينقصنا للبحث عنها والعيش فيها هو الوعي . وعي الحقيقة وامتلاك الإرادة, وأن الجهل والضعف المتمثل بالخوف لا يلغيهما إلا الوعي والحرية . سادسا ً: لأن هذا التوافق الذي تم بين مجموعة ٍ من الموقعين عليه من أحزاب وهيئات وأفراد مستقلين ومثقفين وأدباء , قد جاء من أراءٍ وخلفيات ٍ فكرية وسياسية واجتماعية متباينة , استطاع أن يطلق حالة الصحوة من حلم اليقظة (الكذبة) إلى حالة العيش ضمن الحقيقة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. سابعا ً: لأن هذا التوافق على العيش ضمن حقيقة التغيير الوطني الديمقراطي لم يقتصر على الموقعين عليه فقط بل تعداهم إلى دوائر واسعة من المجتمع في الداخل والخارج , الذين أدركوا بدافع الحاجة إلى الحقيقة وبدافع الحاجة إلى التعبير عن ذواتهم بوصفهم كائنات بشرية حرة ومتضررة من استمرار العيش ضمن الكذبة , وبدافع الحاجة إلى الدولة الوطنية دولة الحق والقانون , وقد جاء ذلك في كل وثائقه, نعم لقد أضحى الانتصار الأول على نظام الكذبة الذي سيطر على عقول وحياة الناس , وحولها إلى حالة من الركوع والامتثال واستباحة الحق العام على مدى عقودٍ من الزمن .
وبالتالي في ظل أسئلة الناس على ما حققه الإعلان , وما يمكن أن يحققه على المدى القريب , هناك أسئلة معاكسة : هل يعتقد أحدنا أنه يستطيع إزالة هذه الكذبة المركبة اجتماعيا ً وسياسيا ً واقتصاديا ً بين ليلة ٍ وضحاها ؟ فمن يعتقد ذلك أضنه لم يدرك حجم الممانعة الاجتماعية التقليدية والسياسية الشمولية من جهة , وما سببته هذه الممانعة من خراب ودمار مجتمعي وسياسي واقتصادي من جهة ثانية . ولم يدرك دلالة الإعلان السياسية المدنية السلمية المتدرجة من جهة ثالثة , يكفيه أن يكون محاولة جادة لإخراج المجتمع من حالة الأحلام غير الواقعية حالة السبات ألسريري إلى عالم الحقيقة في كل الاتجاهات التي تؤدي إلى درجة المواطنة في وطن الكل الاجتماعي , فهل هذا انجاز تافه في ظل نظامٍ يغيب هذا الكل الاجتماعي ؟ .
لقد أكد الإعلان على روح الشراكة الوطنية المتخطية للأحزاب والهيئات الذين يسعون وراء الحقيقة التي تمثلت في الوعي والشجاعة , والحرية الشخصية واحترام الآخر , والحق والعدالة ، والقانون والدستور , وبذلك كان حدثا ً تاريخيا ً في زمن اللاتاريخ , وبالتالي هذا النجاح النسبي خلق كثيرا ً من الأسئلة ومن الشكوك المقصودة منها : من يدعم الإعلان في الداخل والخارج ؟ ومن أين يأتيه الدعم المادي ؟ ناسين أن ما قامت به سلطة الاستبداد من شن حملات التخوين والتكفير للإعلان واعتقال أمانته العامة ورئاسته , قد ساهمت في كثير أو قليل من التعاطف والتأييد في الداخل والخارج على حد ٍ سواء , فكل ذلك العسف الذي أوقعته السلطة على الإعلان لم يؤد إلا لخلق روابط جديدة من الثقة والتأييد الذاتي والموضوعي , وإيقاظ المجتمع من سباته , ولأول مرة في تاريخ سوريا الحديث , تسأل الناس عن أخبار المعتقلين السياسيين , لا بل أكثر من ذلك أن معظم هؤلاء الناس سعى للسلام عليهم بعد إطلاق سراحهم بشكل علني وأمام أعين الأجهزة الأمنية , لا لشيء إلا لأنهم علمونا كيف نعيش مع الحقيقة , وكيف يصمد الإنسان المنسجم مع هذه الحقيقة , أمام الجلاد الذي يعيش الكذبة ويصدقها , وكان ذلك الصمود واضحا ًإن كان في غرف التحقيق ولغته غير المنطقية وغير المنسجمة مع الاتهامات , أو في داخل المعتقل والخوف من هؤلاء الأفراد الأحرار , من خلال محاولة عزلهم عن باقي السجناء , بالتهديد لكل من يتعامل معهم أو يسلم عليهم أو يتشارك معهم في الطعام أو في الكلام , أم في طريقة الإفراج عنهم بعد أن دفعوا ضريبة الأحكام الجائرة , فكانت بالتهديد والوعيد ” إن عدتم للعمل السياسي المعارض فسنعيدكم هذه المرة بتهمة الخيانة العظمى ” .
فكما هو واضح قد هزّ الإعلان ضمير المجتمع معارضة وموالاة , لأنه شكل صدمة إيجابية لهذا السبات العميق في الرأي العام , ومهما تكن هذه الصدمة غير مرئية ومهما كان التعتيم المقصود عليها كبير , فإنه ما من أحد , ولا حتى أولئك الذين يحاربونه , يشك أو يشكون في فعالية هذه الصدمة ودلالتها السياسية , نعم إن كتلة المجتمع الأكبر قد أصبحت على علم بالإعلان وبحقيقته، وردا ً على المعادلة المذلة ” في وضع كل أفراد المجتمع متهمين بالقوة تحت الطلب ” لقد وضع الإعلان معادلة مضادة ومشرفة ” أن أغلبية أفراد المجتمع معارضة ً وطنية ً بالفعل تحت الطلب ” ولقد وضع الإعلان أمام نظام الكذبة , سلسلة من الحقائق ذات الطابع الاجتماعي الإنساني والسياسي الديمقراطي ، والاقتصادي الوطني , وأمام رد السلطة بكل أدوات القمع , لم يختر الإعلان الدفاع عن نفسه فحسب , بل اختار الدفاع عن الحقيقة على قاعدة , مقابل المزيد من الكذبة المزيد من الحقيقة, ومقابل المزيد من الاستبداد المزيد من الحرية , ومقابل المزيد من القمع المزيد من الرد السلمي المدني والهادئ الشفاف والشجاع , وذلك من خلال المزيد من الكشف عن كل آليات القمع من صغائرها إلى كبائرها ضمن خط العلم والخبر لدى كل أفراد المجتمع احتراما ً له وللحقيقة, التي يجب أن تكون ثقافة المجتمع والدولة , وبما أن الإعلان هو إحدى تجليات الماضي وتراكماته, والحاضر وضروراته , والمستقبل وممكناته, فإنه بذلك سيستمر بأشكال ٍ مختلفة طالما إنه يقوم على وعي الضرورة وضرورة الوعي , حتى ولو انتهى كما يشتهي البعض نتيجة اختلافات يتمنى هذا البعض أن تتحول إلى درجة الخلافات التدميرية , أو أن ينتهي بفعل عنف السلطة ومجتمع السلطة فإنه حتما ً سيعاود الإعلان تحت الاسم نفسه أو أسماء أخرى ما دام هو متمسّك بوعي الحرية وحرية الوعي ، وهكذا دواليك إلى أن تتم إزالة آثار العدوان على المجتمع والدولة , ويتم إصلاح كل القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كانت سببا ً في ولادة إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي . وهيهات أن يقلع عن الحقيقة من اكتشفها .
السويداء 2 / 1 / 2011