السياسة والحفاظ على السلطة
غسان المفلح
لم ينته بعد دور الدولة القومية في العالم، رغم كل ما يقال عن تراجع دورها، وانحسار سيادتها على مجتمعاتها، خاصة في الدول المتقدمة، وليس أدل على ذلك سوى دول الاتحاد الأوروبي، التي تتنافس دوله على الصعيد العالمي من أجل تحقيق المزيد من المكتسبات والنفوذ لكل دولة على حدة في بقية مناطق العالم، لا بل يمكننا ملاحظة التنافس الفرنسي الألماني الإنكليزي داخل سياسة الاتحاد ومؤسساته، ومثال آخر التفارق المصلحي بين الولايات المتحدة، والكثير من دول أوروبا، ولازال هنالك تحد واضح من قبل الدولة القومية للمؤسسات المافوق قومية، وحتى لما يسمى الاحتكارات العالمية. هذه الدولة مؤسسة أصلا للحفاظ على سيادتها على مجتمعها، هذه السيادة – السلطة تسلمها الدولة للنخب السياسية التي تأتي الى الحكم عن طريق التمثيل الانتخابي المعروف حتى اللحظة، هذه النخب تأتي الى الحكم بمشاريع لتحسين وضعية المجتمع والدولة معا، تقدم تصوراتها للناخب، وهو يختار الأنسب، هذا نظريا، وإلى حد كبير مطبق عمليا في هذه الدول، وتحسين وضع المجتمع يطال الجميع مع حفظ الفارق بالطبع أن التحسينات نادرا ما تتجاوز الوضع الطبقي، ولكنها لا تسمح للتمايز الطبقي بتدمير البنية الاجتماعية كما يحدث في بلداننا. إنها ببساطة معركة الديمقراطية المفتوحة، التي لا تتوقف طالما أن المجتمع يغلي بالحياة واحتياجاتها اليومية، وقدرة هذا المجتمع على التعبير عن مطالبه في كل لحظة، لهذا السياسة في هذه الدولة نجد لها قواعد يمكن للباحث أن يتلمسها، وعندما تفشل نخبة ما، فلا يعاد انتخابها مرة أخرى، أو إن أعيد انتخابها تواجه معارضة قوية، لكي تنجز برامجها التي من شأنها تحسين المجتمع.
وبالطبع هنالك ما يمكننا تسميته بأمراض المجتمع الديمقراطي في هذه الدول، التي يتحدث عنها باحثو هذه الدول أكثر مما يتحدث عنها أي طرف آخر، وفي كل دولة على حدة.
إن تغير النخب والوجوه والبرامج، هو بأي حال تناولناه يكون في مصلحة المجتمع والدولة، وليس أدل على ذلك من فرنسا التي تعطي نموذجا لتفاعل المجتمع مع كل قرار يصدر عن النخبة الموجودة حاليا في الحكم. والمظاهرات التي عمت الشارع الفرنسي هذا العام توضح ذلك. وتعرف هذه النخب الحاكمة، مهما حاولت التلاعب بالناخب، ان هنالك من يترصدها ولا تستطيع منعه من ذلك، المجتمع يراقبها، وكم من الفضائح لحقت بهذه النخب؟
في أمريكا على سبيل المثال يعرف الرئيس المنتخب وطاقمه أنه مهما حاول التلاعب سياسيا فإن مدة رئاسته محددة بأربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، ولا يستطيع تغيير الدستور على مزاجه، ومزاج عسكره ومخابراته.
عندنا في عالمنا العربي مع حفظ التمايز بين دولة وأخرى، نجد أن السياسة لها قاعدة واحدة واضحة، هي حفاظ النخب المزمنة في الحكم على سلطتها على مجتمعها وما تبقى كله يحسب بناء على هذه القاعدة، ويتداخل في السياسي الشخصي والمصلحي الفردي ليطغى على كل مصلحة أخرى، سواء للدولة أو للمجتمع.
في تلك الدول تنتج العديد من المؤسسات تصوراتها السياسية والرئيس يختار، أم لدينا فالمؤسسات باتت تعرف وهي مشكلة أصلا، على مقاس ما يريده الحاكم عندنا، وما يريده الحاكم معروف تماما، وهو استمراره إلى الأبد.. لهذا شعار ‘قائدنا إلى الأبد’ يتردد في الأجواء العربية، أو شعار ‘القائد الخالد’.
لم يخرج مجتمع غربي ليهتف مرة واحدة، أن ساركوزي مثلا قائدنا للأبد، أو أوباما.. فتصيغ هذه المؤسسات تصوراتها بناء على شعار ‘قائدنا إلى الأبد’. ما حدث عندنا أن القداسة التي منحتها الدولة القومية لنفسها ولسيادتها انتقلت إلى فرد أو حزب، وجل همه الاحتفاظ بها، بالقوة والإكراه، بالرشوة والارتجال، بالفساد أو بالإرهاب، باللعب على تناقضات المجتمع وكأن المجتمع طرف وهو طرف آخر خصم له.
تسود في هذه الفترة دعوات للإصلاح هنا وهناك، وكأن المشكلة تقنية لا اصلاح بدون ان تقتنع النخب الحاكمة، بما يمكننا تسميته ببساطة تداول السلطة، ما دون ذلك ينتقل الإصلاح من إصلاح النظام السياسي إلى انتظار هذه النخب حتى تصلح مجتمعاتها، وفي ما بعد تفكر بالديمقراطية.
السياسة السورية على سبيل المثال تبدو نشيطة كما يكتب كثر هنا وهناك، على عكس ما كانت عليه في العقد الأخير من حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد، كان يعتريها البطء، والسبب الأساسي هو وضع الرئيس الشخصي، أما الآن فلدينا رئيس شاب لديه المقدرة على أن يتابع شخصيا كل الملفات كما كان يفعل والده في العقدين الأولين من حكمه، حتى على هذا المستوى، وضع الرئيس وعمره يلعبان دورا في سياستنا، لأن الهدف الواضح الأكيد لدى هذه الأنظمة هو الحفاظ على استمرار وجود هذه النخب بالذات حاكمة وتتصرف بالمجتمع كما تريد، من دون حسيب أو رقيب، هل كان يقبل الرئيس الراحل حافظ الأسد مجرد التفكير بأن هنالك مؤسسات تراقبه ويمكن لها أن تحاسبة مثلا؟ لا يمكن قياس السياسة في العالم العربي من دون الأخذ بعين الاعتبار قاعدتها الأساس، وهي أن السلطة محتكرة لنخبة واحدة عائلية أو طائفية أو فرد واحد، وهذا هو المشروع السياسي الوحيد الذي يمكننا تلمسه في عالمنا العربي.