نحن نقبلهم فهل يقبلوننا؟
منى فياض
من اللافت الاستسهال السائد في استخدام النعوت والتعابير واستعارتها من أفواه المحيطين بنا وتكرارها. ينتج من ذلك ما يعرف بالتنميط والتعميم والآراء المسبقة؛ وهي جميعها العدة الضرورية التي توصلنا الى الممارسة العنصرية المتحيزة. من الأفكار والآراء الشائعة، ما يتعلق بتعبيري ليبيرالية وعلمانية. يكفي أن يُنعت أحدهم بأنه ليبيرالي لكي يشعر بأنه مخطئ. وعندما يتفوه بها متعصب او متدين تصبح أقرب الى الشتيمة، والعلماني يصبح كافراً.
تلقيتُ بالـ”مايل” مقالاً لأحد الكتّاب الإسلاميين المعروفين إثر اكتشاف جاسوس مصري يطالب فيه، قبل محاكمة الجواسيس الصغار، بمحاكمة الكبار منهم. ويسمي من بينهم سعد الدين ابراهيم وأحمد زويل. صاحبا هذين الإسمين يصبحان جاسوسين لمجرد أنهما يختلفان عن الكاتب في الرأي. يحذّرنا ذلك، مرة أخرى، من وصول هذا الكاتب وأمثاله الى السلطة.
التيارات الدينية السلفية والمتعصبة والرافضة للآخر انبثقت من رحم المجتمعات والأنظمة السياسية التقليدية السائدة، ونحن نقبل التعايش معها عندما لا تلجأ الى العنف والسلاح والتكفير والتهجير؛ لكن السؤال الذي يطرح، هل تقبلنا على ما نحن عليه اذا ما سيطرت على السلطة؟ التجارب من حولنا تدحض هذا الزعم.
تنقل الكاتبة الإيرانية آذر نفيسي في كتابها “لوليتا في طهران” الآتي: “حدثنا نيما لاحقا عن ابن أحد أصدقائه، وهو طفل في العاشرة، كان قد أيقظ والديه مرتعباً ذات ليلة، واخبرهما بأنه كان يحلم حلماً غير شرعي! قال إنه رأى نفسه في الحلم وهو على شاطئ البحر، وحوله نساء ورجال يقبّل بعضهم بعضاً، ولم يكن يدري ما عليه أن يفعل، وبقي يردد لأبويه أنه يحلم أحلاما ممنوعة”. وتكتب نفيسي أن معظم الجماعات الثورية كانت قد التقت مع الحكومة الإسلامية في موضوع الحريات الفردية وعدّتها “بورجوازية” و”منحطّة”، ويجب محاربتها. وتم ذلك عبر القبول بإمرار بعض القوانين الأكثر رجعية.
فالليبيرالية “الملعونة والمخيفة” هي تيار فكري فلسفي وعقيدة سياسية ظهرت في القرن التاسع عشر، تطالب بالحرية السياسية والدينية والاقتصادية بحسب روح مبادئ الثورة الفرنسية. أحد أوائل روادها جون لوك الانكليزي الذي جعل من الفرد وحقوقه غير القابلة للتفاوض (الحرية، والملكية…) مركز العلاقات الاجتماعية وأصلها.
الليبيرالية تعني في أيامنا موقفاً مدافعاً عن الديموقراطية السياسية وعن الحريات الفردية المعادية للتوتاليتارية. اقتصاديا تدعم حرية السوق وحرية التعهد. وهي ترتكز على فكرة امتلاك كل كائن انساني الحقوق الأساسية التي لا يمكن أي سلطة ان تنتهكها. في النتيجة يريد الليبيراليون تحديد الواجبات الاجتماعية المفروضة من السلطة والنظام الاجتماعي لصالح الخيار الحر لكل فرد. بشكل عام، تمتدح الليبيرالية مجتمعاً مؤسساً على حرية التعبير عند الافراد وعلى احترام الحقوق والتعددية والتبادل الحر للافكار.
الوضعية النظرية لليبيرالية تتضمن، لاحترامها التعددية، التكيّف مع التطور الاجتماعي. وهو ما لا تستوعبه التيارات الأصولية، كونها تتمظهر بأشكال مختلفة وحتى متعارضة. فالليبيرالي يمكنه، بحسب المكان واللحظة، ان يطلب من الدولة ان تكسر تقليدا دينيا او اجتماعيا قامعا للفرد: نظام طائفي طبقي، تمييز او امتياز. وهو قد يدافع عن ممارسة دينية او ثقافية او تراثية في مجال آخر. فالليبيرالي يقف ضد قمع صدّام لحق ممارسة الطقوس الشيعية في عاشوراء، لكنه يقف أيضاً ضد حركات العنف الشيعية التي تقتل الآخرين باسم الأئمة الشيعة أنفسهم، في محاولتها تسلم السلطة. الليبيرالية قد تطالب بتدخل الدولة من اجل اعطاء الحق لكل واحد لكي يحصل على قدرة ممارسة نشاط اقتصادي (تعليم، محاربة الفقر او كسر الاحتكار)، ويمكن ان تكون ضد تدخل السلطة ايضا بمعنى تحديد تدخل الدول وسيطرتها بالذرائع الأمنية المعروفة، وآخر مثال “ويكيليكس” المثير للجدال.
لكن التيارات المتشددة والأصولية، بمن فيها بعض الأصوليين من الشيوعيين أو الماركسيين، يستغلون النقد الموجه إلى الليبيرالية من الديموقراطيين واليساريين الغربيين بسبب مشروعها العام في الثمانينات الذي سخّر المجتمع لكي يستجيب متطلبات الرأسمالية المتوحشة: حرية حركة رؤوس الاموال، المنافسة بين العمال وتحديد الأجور بحدّها الأدنى وكذلك الحقوق الاجتماعية، تقليص الخدمات العامة، والسيطرة المطلقة للاقتصاد. وكانت في أساس انطلاق المؤسسات الدولية كالمنظمة العالمية للتجارة التي استطاعت التفلت من كل شرعية ديموقراطية. وهذا ما أدى إلى الأزمة الاقتصادية العالمية التي جعلت المطالبة بعودة الدولة الراعية على الطريقة الفرنسية ممكنة.
من هنا نجد أن الاعتراض الذي تواجهه الليبيرالية يرتكز على الفصل بين أوجهها المتعددة وحصرها في الوجه الاقتصادي. وعندما يطالب واحدنا بالحفاظ على النظام اللبناني على عواهنه، وحتى قبل أن نتمكن من إصلاحه، فلأنه يحفظ لنا حق الوجود في الحد الأدنى المعقول، بينما البدائل المقترحة تعني القضاء على التعددية وعلى الاختلاف وسيطرة الاستبداد.
أما علمانية المجتمعات الغربية المتهمة بالكفر والالحاد، فهي التي سمحت لمؤسسي الحركات الأصولية بالاحتماء بها لممارسة الحق المقدس في التعبير الحر عن نفسها؛ وهي التي تستقبل الجاليات الاسلامية بين ظهرانيها. هي الحركات نفسها التي يناضل بعض تياراتها المتعصبة لتغيير وجه البلدان المضيفة وللحصول على أكثر من الحقوق الممنوعة عنهم في بلدانهم الأصلية التي هربوا من تخلفها واستبدادها. في هذه البلدان تحرص الدولة على حفظ أمن جميع مواطنيها بمن فيهم المسلمون وتحمي دور عبادتهم من مثل تفجيرات كنائس بغداد او الاسكندرية.
الدين، وخصوصاً الدين الإسلامي، لا يدعو الى حرمان الآخرين من حرية التعبير ولا يكره الآخرين على اعتناقه ولا يدعو الى تفجيرهم. المجتمعات الاسلامية لم تعرف بدعة حكم رجال الدين من قبل. إن الغرب العلماني، لم تقض علمانيته على الدين. الغرب قضى على تسلط رجال الدين، واستطاع المؤمن الاتصال بربّه مباشرة؛ وأُلزمت الكنيسة أن تكون على مستوى أطروحاتها ومبادئها.
في تاريخنا الإسلامي لم تُعرف شعارات الإسلام ديناً ودولة والدعوات الى أسلمة الاقتصاد والعلوم أو الأنظمة سوى مع “الاخوان المسلمين” والأنظمة والحركات الإسلامية المستحدثة. ليس أمام الدول المتعددة الشعوب والاتنيات كحالتنا سوى القبول بالصيغ الديموقراطية بمعناها الغربي التي تتضمن الليبيرالية غير المجتزأة والمشوهة، والعلمانية التي لا تعني عدم الإيمان بل تعميقه ¶