بداهة الدولة واستثنائية السلطة
ماجد الشيخ
بين أن نكون بلدانا طبيعيّة، تحكمنا أنظمة أو سلطات طبيعيّة؛ وبين أن نكون محكومين وتتحكّم في رقابنا ورقاب بلداننا أنظمة سلطويّة إستبداديّة، بون شاسع، تتحدّد على تخومه إمكانيّة تحوّلنا إلى دول طبيعيّة، بمعنى إستكمال الدولة أو الدول لمسيرتها، وسيرورتها وصيرورتها دولة/أمّة في الحالة الأولى، كما في تحقّقات التّحوّل إلى نظام بوليسي “إستثنائي” كما في الحالة الثانية.
ليس هناك من شعب أو أمّة، ترفض أن تسير حياتها نحو صيرورة تحوّل تنسجم أو تتماثل وبداهة الوضع الطبيعي، فترفض بالتالي التماهي مع حكّامها “الإستثنائيّين”؛ “إستثنائيّة” إستنسابية أحيانا، وشمولية في أحايين كثيرة، وإزاء كلّ شئ؛ من ممارسة السلطة إلى ممارسة الحياة، إلى كلّ ممارسة تفرضها طبائع الحياة الكاملة؛ المكتملة في وطن أو في دولة مكتملة نسبيا.
الطبيعيّة هنا نقيض “الإستثناء”؛ الحاكم، الحكومة، السلطة، القانون، القضاء، الأخلاقيّات والقيم؛ رفض لكلّ “إستثنائيّة” تستجرّها السلطة الطارئة، سلطة “الإستثناء” وعقيدتها وإعتقاداتها، وأوهامها بخلود ذاتها، أو ديمومتها على الأقل، تلك الدّيمومة التي تتيح لها تحقيق أحلامها وطموحاتها هي، دون غيرها من الناس المحكومين لطبيعيّة مفترضة، إفتقدت وتفتقد مقوّماتها؛ جرّاء “إستثنائيّة” شرسة، همجيّة وسمت وتسم عنف السلطة الفاقدة كلّ شرعيّة.
تحويل الدّولة إلى مجموعة من الأجهزة، الخاضعة لسلطة “إستثنائيّة”؛ لم يبق لحزب السلطة (أو لأحزابها الطّيّعة) سوى هوامش لا تُذكر، وضعته/ووضعتها على الرف، لتتباهى فيه السلطة بـ “شعر إبنة خالتها”، حيث لا سلطة للحزب على السلطة، فيما “كلّ” السلطة “الإستثنائيّة” تمارس سطوتها وسلطانها على الحزب الذي أمسى يفتقد “هيبة القيادة”، مستبدلا إيّاها بـ “هيبة” الأجهزة.
“إستثنائيّة” الأجهزة، وليد كونها ناتج وضع “إستثنائي”، ووليد سلطة “إستثنائيّة”، كرّست وتكرّس دورا “إستثنائيّا” لذاتها، ولكلّ ما ومن يتماهى معها من “تمؤسسات” ما يوازيها من سُلط بطركيّة، في مجتمع إحدى سماته الأبرز “الإستثنائيّة البطركيّة” بامتياز، تلك التي باتت تمثّلها قمة أو قمم الهيمنة السلطويّة، بدءا من تأميمها السّياسة وصولا إلى تأميم الإقتصاد والتجارة لصالح الذات وللأقرباء المتنفّذين والمحظوظين، وحتّى “تأمين المجتمع” بمعنى الهيمنة عليه، وضمان عدم خروجه من أغلال وقيود “إستثنائيّة” السلطة المؤبّدة هيمنتها بالقوّة، وبالقهر وبالغلبة.
وإذا كانت (الديمقراطيّة الليبراليّة) أو (الدّيمقراطيّة التوافقيّة) على ما نعايش ونرى في بلادنا، واقعات غير واقعيّة، بل غير حقيقيّة؛ واقعات إفتراضيّة في مجتمعات تقترب من كونها إفتراضية، أكثر من كونها واقعيّة أو طبيعيّة، فإنّه وفي أبرز ما يمكن البحث عنه؛ وقد نجده وقد لا نجده في العديد من النماذج، هي تلك (الديمقراطيّة المغدورة): (ديمقراطيّة الإستثناء) المفصّلة على مقاس حكم “الإستثناء”. فأيّ مجتمع مدني يمكن أن ينشأ أو ينتج معانيه أو مبانيه في ظلّ مثل هذا الحكم، المعمّم إستثنائيّته؛ وكأنّها سمة نظام يخضع للنظام؛ نظام الدول والمجتمعات والأوطان، فيما هو خارج النّظام؛ شموليّة “إستثنائيّة” تتغذّى من بيروقراطيّة سلطة إستبداديّة، تغذّي هي الأخرى “إستثنائيّة” الأجهزة التي أمست تشكّل القاعدة الإجتماعيّة والأمنيّة والسياسيّة للنظام .
المحورة “الإستثنائيّة” حول الذات، أنتجت محورة موازية حول اللغة المستخدمة، ومنها إنتقلت إلى كلّ ما يصدر عن النظام، وبالتالي صارت السلطة هي المحور- المركز الذي يتعالى عن كلّ ما ومن حوله: بشرا أو جمادا، أقوالا أو أفعالا؛ ذلك أنّ التعالي ناتج “إستثنائيّة” المحورة السلطويّة المتعالية بدورها على كلّ أنساق الأنظمة/الحدود/الدّول والأوطان.
النزوع الإمبراطوري، القطبيّة الأحاديّة، الواحديّة، السلطة الشموليّة، أنظمة “الإستثناء”، ولاية الفقيه، ديكتاتوريّة البروليتاريا، الدولة الدينية، سلطة الفقهاء.. إلخ من تسميات الإفشاء التّمحوري للغة، أو التّمركز “الإستثنائي” للذات “الإستثنائيّة”، هذه كلّها بمثابة شيفرة (كود) لتمركز هيمني أو لهيمنة ممركزة، تعلي من شأن الذات في مواجهة الموضوع، السلطة في مواجهة الدّولة، آليّات إستبداد تقويضيّة في مواجهة المجتمع، أواليّات ديكتاتوريّة إخضاعيّة في مواجهة الشعب/الأمة. ذلك أنّ “الإستثنائيّة” هنا لم تعد في مواجهة ما هو طبيعي وبدهي، بل في مواجهة كلّ إمكانية بالإستقرار والسّلام والأمان، في ظلّ سويّة فردية وإجتماعيّة ومجتمعيّة وسياسيّة؛ وهذه كلّها أقانيم إنسحقت أو تنسحق، أو بالأحرى تبغي إنسحاقها تلك “الإستثنائيّة” المضللة، والمظللة هيمنتها وسلطاتها بلغة التّكاذب المتناسلة من محورة ذاتها في قلب السلطة، وفي إبقاء ذاتها متعالية بعيدا في طبقاتها العليا؛ “الإستثنائيّة” طبيعة وطبعا!.
السؤال البدهي هنا.. كيف الخروج من دائرة “الإستثناء”؟ التّمرّد على السلطة لصالح نزوع دولتي، الخروج على “مجتمعات الإستثناء” الأبويّة لصالح مجتمع الذات الجمعيّة أو الذوات الفاعلة، الحرّة، المدركة إستقلالها، رغم كلّ قيود التبعيّة والتفنّن القمعي التي تجيدها أنظمة “الإستثناء” على اختلاف طبائعها وتلوناتها، مع الفارق في إجادة كل طرف لدوره، ولممارسته استثنائيته الخاصة.