نورمان فنكلستين… اليهودي الأخير
رغم الدوامة المستجدّة التي تلفّها، أبقت بيروت موعدها مع صاحب «صناعة الهولوكوست». في الجامعة الأميركيّة غداً، يتحدّث الأكاديمي والمثقف الراديكالي الذي تلاحقه لعنات اللوبي الصهيوني في أميركا، عن احتمالات حرب إسرائيلية على لبنان
خليل عيسى
لعلّ الجمهور اللبناني يعرفه من خلال حلقة تلفزيونية بثّتها قناة «أخبار المستقبل» في 20 كانون الثاني (يناير) 2008. يومها، قالت له الإعلامية نجاة شرف الدين إنّ الأمور تغيّرت بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، ولا يحقّ لطرف واحد (حزب الله) اختيار المقاومة العسكرية ضد إسرائيل بسبب «الانقسام الداخلي حول السلاح». جاء ردّه صاعقاً: «إذا أردت إقناع نفسك بأنّ كلّ شيء انتهى في 2000، يمكنك فعل ذلك! لكن الحقيقة أنّ إسرائيل والولايات المتّحدة لن تسمحا بأيّ مقاومة عسكرية في المنطقة. كلّ العقلاء يعرفون ذلك. يريد الناس أن يعيشوا؟ أتفهّم ذلك. لكن كيف لي ألّا أحترم هؤلاء الذين يفضّلون الموت وقوفاً بدلاً من العيش راكعين؟ أحترم من يرفض أن يكون عبداً».
للوهلة الأولى، يبدو شخصاً غريباً بسبب برودة طبعه، لكنّه يفاجئك بقدرته الفائقة على إيراد الحجج المنطقية والمحكمة. إنّه نورمان فنكلستين، المثقف الأميركي والأكاديمي الذي يحلّ غداً ضيفاً على العاصمة اللبنانية بدعوة من «دار الآداب» والنادي الثقافي الفلسطيني في الجامعة الأميركية في بيروت.
الأكاديمي الذي درّس في العديد من الجامعات الأميركية، بدأ يثير الجدل منذ نشره «صناعة الهولوكوست» (2000). في كتابه هذا، أثبت كيف استغلّت المنظّمات الصهيونية المحرقة ورمزيتها لابتزاز المصارف السويسرية والحكومة الألمانية بغية الحصول على تعويضات خيالية، لا يصل إلا النزر اليسير منها إلى الناجين من المحرقة. تعدّه الطبقات الحاكمة في إسرائيل «عدوّها». منعته من دخول الكيان الصهيوني عام 2008. ولا يكلّ «استابليشمنت» النخبة في الولايات المتحدة عن محاولة تحييده عن الحوار السياسي المهيمن الدائر هناك، كما حصل مع أستاذه نوام تشومسكي. لم تحمه مسألة كونه يهودياً وابناً لأهل ناجين من الهولوكوست من أن ينعته الإعلام الأميركي المتصهين بـ«اليهودي الكاره لذاته». مع ذلك، استطاع أن يخلق له مكاناً محايداً لما يعرف باليسار الأميركي، وهو يعمل اليوم باحثاً مستقلّاً. يتضامن مع الفلسطينيين كإنسان أوّلاً ويهودي ثانياً، ويرفض أن يستغلّ الإسرائيليون والصهاينة المحرقة لتبرير قتل الفلسطينيين. حين عاش مع الفلسطينيين لإتمام كتابه «نهوض فلسطين وسقوطها: جردة حساب شخصية لسنوات الانتفاضة»، أسرّ بأنّه «يستحيل على الفرد أن يجد لذاته تبريراً عقلانياً يفسّر لماذا يمكنه أن ينعم بحياة كاملة وهانئة، بينما يقاسي الفلسطينيون حياة رهيبة لا تطاق».
يتّفق فنكلستين مع تشومسكي في أنّ الولايات المتحدة هي التي تقرّر مسار إسرائيل في الشرق الأوسط. ويتّفق أيضاً معه بالنسبة إلى الحلّ الأعدل في فلسطين، فيميّز فنكلستين بين «مثالية» مطلب الدولة الواحدة وواقعية الممكن السياسي. هو يدافع دفاعاً كاملاً عن حقّ العودة الذي جاء نتيجة التطهير العرقي الذي مارسته إسرائيل. إلّا أنّه يرى أنّ الحلّ الأكثر إنسانيةً لتخفيف محنة الفلسطيني هو حلّ الدولتين الأقرب إلى التحقّق سياسياً. ولذلك، يرى أنّ القول بالدولة الواحدة هو في العمق موقف ساقط أخلاقياً، لكونه يرجئ الحلّ إلى ما لا نهاية، بسبب ميزان القوى الحالي، وبالتالي يزيد عذابات الشعب الفلسطيني.
أمّا حق العودة، فيرى فنكلستين أنّه ينبغي لإسرائيل الاعتراف به، لكن يجب إيجاد اتّفاق في هذا الصدد بين الجانبين، لأنّ إسرائيل لن تقبل بأن تهدّد ديموغرافياً. هكذا، يمكنك أن تختلف مع فنكلستين أو تتّفق معه، إلّا أنّه لا يفعل سوى التعبير عن رأيه في المسألة، هو الذي يقول دوماً: «هذه الأمور يقرّرها الفلسطينيون وحدهم في النهاية.»
لا يجب الحكم على مواقف فنكلستين بمقدار التطرّف الكلامي الذي نتوقعه أو قد نتمنّى أن نسمعه عندما يتحدّث الآخر عن فلسطين. في النهاية، فنكلستين أميركي يهودي، يتكلم عن الموضوع من موقع مغاير للعرب أو للفلسطينيين خارج كلّ محرّمات مجتمعه الإيديولوجية والسياسية. وهو يدفع ثمناً لأنّه يقف مع الحق، ويجب علينا أن نقدّر ذلك.
وتكمن أهمية فنكلستين في أنّه صوت غربي ويهودي يخاطب تحديداً الغربيين واليهود الأميركيين بنحو أكثر تأثيراً مما قد يفعله أيّ مثقف عربي. هكذا كان الراحل إدوارد سعيد، الذي وصف نفسه مرّة بأنّه «المثقف اليهودي الأخير» بالمعنى الإنسانوي الكامل للكلمة. أما فنكلستين القادم إلى بيروت، فهو مثقّف يهودي إنسانوي آخر يحاول أن يساعد القضية الفلسطينية قدر استطاعته. أن يكون فلسطينيّاً قدر إمكانياته. إنّها في حدّ ذاتها مسألة تدعونا إلى الإنصات والاحترام… وخصوصاً في هذا الزمن.
وريث الهولوكوست فاضحاً «دموعَ التماسيح»
تلميذ نوام تشومسكي معروف بعمله الدؤوب على تفكيك الخطاب الصهيوني. مترجم نورمان فنكلستين وناشره اللبناني، يسلّط الضوء على منهجه ومعاركه
سماح إدريس
«لا أحبُّ أن أشْهرَ بطاقة الهولوكوست النازيّة، لكنّي الآن… أقول إنّ أبي الراحل كان في آوشفيتز؛ أمّي الراحلة كانت في مايدانك؛ كلُّ أفراد عائلتي، من جانبيْ أبي وأمّي، كانوا في معسكر آوشفيتز، وأبيدوا… ولا أجد أمراً أحقرَ مِن استخدام معاناتهم واستشهادِهم من أجل تبرير استخدام التعذيب والوحشيّة ضدّ الفلسطينيين.»
لعلّ هذا الاقتباس هو أشهر ما عُرف به نورمان فنكلستين لدى الجمهور العربيّ، الذي تناقل على «يوتيوب» تصويراً متكرِّراً لتلك المواجهة بينه وبين طالبةٍ في جامعة «واترلو» كانت تذْرف ـــــ على حدّ وصفه ـــــ «دموع التماسيح» على ضحايا الهولوكوست، من غير أن تنبسَ ببنت شفةٍ إزاء اضطهاد إسرائيل للشعب الفلسطينيّ. هذا الاقتباس يلخّص جانباً واحداً، وإنْ رئيساً، في عمل فنكلستين، وقد عبّر عنه جزئياً في كتابه الأشهر «صناعة الهولوكوست: تأمّلاتٌ في استغلال المعاناة اليهوديّة» (2001 ـــــ دار الآداب). لقد استَخدمت المنظّماتُ الصهيونيّة، والأميركيّةُ، الهولوكوست سلاحاً، لا لحرْف الأنظار عن التطهير العِرقيّ وسياسةِ الأبارتهايد الإسرائيليّة ضدّ الشعب الفلسطينيّ منذ 1948 فحسب، بل لتحريض العالم «الحرّ» لاحقاً على غزو العراق، وإيران، ولبنان، ورام الله وغزّة وحصارها، لأنّ صدّام حسين، وأحمدي نجّاد، وحسن نصر الله، وياسر عرفات وخالد مشعل «هتلراتٌ جددٌ»، يمثّلون تهديداً وجودياً لإسرائيل، موطنِ الناجين من الهولوكوست. بل إنّ فزّاعة الهولوكوست، على ما أوضح فنكلستين لاحقاً، نُصِبتْ في وجه حقوقيّين دوليّين كريتشارد غولدستون الذي يقارنه القادةُ الإسرائيليّون بهتلر من أجل نقض تقريره الموضوعيّ عن مجازر غزّة بين نهاية 2008 وبداية 2009.
غير أنّ ثمة جوانبَ أخرى لا تقلّ شهرةً في أبحاث فنكلستين، وكان فيها طليعياً في ما يُعرف بـ«دراسات الهولوكوست». أهمُّ هذه الجوانب توثيقُه الغزيرُ لكيفيّة ابتزاز المنظّمات الصهيونيّة لأموال أوروبا، أو ما سمّاه «تنفيض جيوب أوروبا»، بدعوى تعويض الناجين من الهولوكوست ممّا تعرّض له أهلهم وأقاربُهم هناك أيّام الحكم النازيّ.
والجانب الثالث المهمّ من عمله ملاحقته الدؤوبة لكلّ عملٍ بحثيّ أو تصريحٍ يصْدر عن حلفاء إسرائيل، ونقضُ ذلك بدقة تقارب الوسوسة (قد تتعدّى هوامشُ بعض أوراقه مئة وخمسين). والحال أنّ أطروحة الدكتوراه التي تقدّم بها إلى جامعة «برنستون» هي التي فتحتْ أعينَ أعدائه الصهاينة عليه؛ فقد بيّن بالتفصيل أنّ أحد أكثر الكتب الصهيونيّة مبيعاً في الولايات المتحدة، ألا وهو «منذ زمن سحيق» لجوان بيترز، قائمٌ على التشويهات والانتحالات والاقتباسات الخاطئة. ويواصل فنكلستين نقدَه لهذا المنحى التزويريّ في الدراسات الأكاديميّة حتى اليوم. وقد قام قبل أعوامٍ بمواجهةٍ حادّةٍ مع الكاتب الصهيونيّ البغيض ألان ديرشوويتز (أستاذ القانون في هارفرد)، متّهماً إيّاه بأنّه انتحل في عمله «دفاعاً عن إسرائيل» (2003) أقساماً كبيرةً من كتاب بيترز (المنحول أصلاً!) بدلاً من أن يعود إلى المصادر الأصليّة التي اقتبستْ بيترز منها. بل يتّهمه بأنّه نقل عن تلك الكاتبة الأخطاءَ ذاتَها (بما في ذلك تعبيرٌ توهّمت أنه لجورج أورويل)، وأساء النقل عن كتابٍ لبني موريس، وتجاهل كلّ التقارير الدوليّة (والإسرائيليّة غير الرسميّة) التي تؤكّد أنّ إسرائيل مارست التعذيبَ وقتلت المدنيين في جنين عمداً. وهذه المواجهة التي لم تطاولْ ديرشوويتز وحده بل قضّت أيضاً مضجعَ مزوّري التاريخ من أنصار إسرائيل، دفعتْ بالأوّل إلى تحريض جامعة «ديبول» على فنكلستين الذي كان يدرِّس فيها، فأعفته من منصبه خشية إغضاب اللوبي الصهيونيّ. وها هو صديقي ورفيقي نورمان بلا عملٍ منذ سنوات في «بلد الحريّة»، أميركا.
من يقرأْ فنكلستين، يقفْ على شخصيّتين أساسيّتين طبعتا أخلاقيّاتِه المهنيّة والسياسيّة: أمّه الراحلة ماريلا، ونوام تشومسكي. أخذ عن أمّه، الناجيةِ من معسكرات الاعتقال النازيّة، كراهيةَ الظلم والتعذيب، ونبذَ الحروب (يَذْكر أنها كانت تشيح بوجهها عن التلفزيون كلّما ظهرتْ مشاهدُ من الحرب على فييتنام)، واعتبارَ ضحايا العدوان من أيّ مكانٍ «ضحايا هولوكستيّة». وتأثّر بمعلّمه وصديقه الأكبر تشومسكي في الدقّة البحثيّة، وتنوّعِ المصادر، وحسِّ العدالة… وإنْ كنتُ أعتقد أنه تأثّر به أيضاً في أمريْن لا أشاطرهما الرأيَ فيهما بكلّ تواضعٍ واحترام: عدم تبنّي خيار الدولة الديموقراطيّة العلمانيّة الواحدة على كامل فلسطين التاريخيّة، وعدم تأييد مقاطعة إسرائيل بمختلف الطرق حتى تنصاعَ للقانون الدوليّ.
وإنصافاً لفنكلستين، ينبغي القولُ إنّ سلبيّته تجاه الدولة الديموقراطيّة الواحدة لا تستند على الأرجح إلى موقفٍ مبدئيّ، بل لأنه يعتقد أنها حلٌّ غيرُ عمليّ: فهو ما زال يؤمن بواقعيّة «حلّ» الدولتين، مع أنّ إسرائيل (في رأيي) قَضَتْ عبر المجازر وتهويدِ القدس وتكثيفِ الاستيطان على مقوِّمات أيّ دولةٍ فلسطينيّةٍ مستقلة ذاتِ سيادة على حدود 67؛ فضلاً عن أنّ «حلّ» الدولتين غيرُ عمليّ بالمعنى الاستراتيجيّ العميق للكلمة، لأنّه لا يحلّ مأساة اللاجئين (وهي جذرُ المشكلة الفلسطينيّة) ولا مشكلةَ التمييز العنصريّ في حقّ فلسطينيّي الـ48. وفي ظنّي أنّ دعوة فنكلستين وغيرِه من مثقفي «الغرب» التقدّميين لدولةٍ ديموقراطيّةٍ علمانيّةٍ واحدة على كامل فلسطين التاريخيّة المحرّرة من الاحتلال والتمييز العنصريّ (لا إلى المساواة على أساس المواطَنة داخل أراضي فلسطين الـ48 وحدها)، ولحقّ عودة اللاجئين إلى كلّ فلسطين (لا إلى أراضي ما يسمّى «السلطة الفلسطينيّة»)، ليست ما ينبغي أن نتوقّعَه من هؤلاء المثقفين فحسب، بل تُعزِّز في ذاتها أيضاً فرص نجاح هذا الحلّ الأخلاقيّ العادل، على الأقلّ من خلال ترويجه في وسائل الإعلام والأوساط الأكاديميّة والناشطين في الغرب.
أمّا عن مقاطعة إسرائيل، فإنّ الرجلين يتشاركان الرأيَ في تأييد مقاطعة منتجات المستوطنات وشركاتِِ الأسلحة الغربيّة التي ترسل منتجاتِها إلى إسرائيل. لكنّهما يَجْهران بعدم تأييد مقاطعة إسرائيل أكاديمياً. وحجّةُ فنكلستين أنّها ستجرّ إسرائيلَ وأنصارَها إلى الحديث عن قمع الحريّات الأكاديميّة، «فيضيع موضوعُ الاحتلال سريعاً». وبذلك، يتناسى صديقي النبيه نورمان أنّ المؤسّسة الأكاديميّة (والطبّيّة…) جزءٌ لا يتجزّأ من نظام الأبارتهايد، وهي تساعد الاحتلال. كذلك يتناسى أنّ معظم الأكاديميين الإسرائيليين لم يجْهروا حتى اليوم بمعاداتهم للاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلييْن بل يتمتّعون بمزاياهما!
• رئيس تحرير مجلة «الآداب»
أن تهزم الموت بعد هتلر
… ينبغي القول إنّ والديّ لم يمارسا دوماً، بل ولا غالباً ربما، ما كانا يبشّران به. صحيح أنّ أمّي كانت شديدة الإعجاب بمالكوم إكس، وتحتقر السود الذين يتملّقون المؤسسة البيضاء ويذكّرونها باليهود المتعاملين مع النازيين في صفوف المجالس اليهودية، إلا أنّ والديَّ لم يكن لديهما أصدقاء سود: فقد خشيا أن يقلّل وجود جار أسود من قيمة العقارات. (…)
ومثل حال معظم الزيجات السيئة، كان والداي يتناقران على الدوام. فحين يصرّ أبي على أن الطقس حار، تصر أمي على أن الحرارة ناجمة عن البخار المتصاعد من مراوح التهوئة في الشتاء، فيما كان الموضوع بالنسبة إلى عقلي الساذج لا معنى له أساساً: إذ في معظم الأحيان لم تكن ثمة حرارة أصلاً (ففي بيتنا تضع لحمَ الستيك في الثلاجة لإزالة الثلج عنه، وتخرج منه (بيتنا) في الشتاء لتتدفّأ).
وبعد 30 سنة من الزواج ذهب كلّ من والديّ في طريقه، مع أنهما بقيا قريبين جداً واحدهما إلى الآخر حتى النهاية. وكنتُ أقول إن زواجهما صُنع في الجحيم، لكن طلاقهما صنع في الجنة. ولم يتزوج أيّ منهما من جديد، ربما لأن أيّاً منهما لم يثق إلا بالآخر: فشأن محبي البشر الذين يكرهون جيرانهم (كما جاء في المَثَل)، كان والداي يحبان البشرية على مستوى التجريد فقط. وقد شَرَحتْ أمي، المعروفة باقتصادها، أن أبي بقي عازباً بعد الطلاق «لأنني إذا رميتُ شيئاً فلن يلتقطه أحد» (المقصود أنّها لم تكن لشدّة بخلها ترمي شيئاً إلا بعد أن تستنفده تماماً).
وحين ذكرتُ لأبي أن صديقاً وعدني بمساعدتي على الانتقال إلى بيت آخر، تلفَّظَ بازدراء: «الأصدقاء!»، ولقد أثبت تقاسمهما العذاب أثناء الحرب العالمية الثانية أنه رابطٌ لا تنفصم عراه. فعلى الرغم من أن أمي كانت تقاوم السرطان، فإنها واصلت الاعتناء بأبي كأنه طفلها الوحيد، فيما راح هو يعاني مرضاً دماغياً انحلالياً. وحين أُلزمَ البقاء في مستشفى عام ينقصه الموظفون إلى حد فظيع، أمرتني أمي بالتأكّد من وضعه الصحي مرات عديدة في اليوم، قائلةً: «لقد كان في (معسكر اعتقال) أوشفيتز، فلا ينبغي أن يموت ميتة كلب». وفي نهاية المطاف استضافته في بيتها، إلى أن بات عنيفاً إلى حد استحالة السيطرة عليه. ولعلّ حافزاً أنانياً كان أيضاً وراء تصرف أمي: فهي كانت تعلم أن أبي هو وحده مَن يقف بينها وبين الأبديّة، فتعمّدت أن تتصرف كأنها تستطيع هزيمة الموت بعدما هزمت هتلر. وما زلتُ أذكر تعبيرها الخالي من أي إحساس حين أبلغتها بنبأ رحيل والدي: فلقد عَلِمَتْ أن دورها حلّ، بعدما عجزتْ عن أن تبعده عن براثن الموت. وبعد أشهر ماتت.
من كتاب نورمان فنكلستين «إسرائيل، فلسطين، لبنان: رحلة أميركي يهودي بحثاً عن الحقيقة والعدالة» (دار الآداب)
الأخبار