( حوار مع سيد قمني ): العلمانية من منظور آخر
كامل عباس
أعترف ان المحرض على كتابة هذا المقال هو قراءتي لكتاب المفكر المصري سيد علي القمني الذي صدر عن دار الانتشار العربي في بيروت عام 2010 تحت عنوان – انتكاسة المسلمين إلى الوثنية – وفيه يجادل قمّني الاسلاميين بوصفه علماني لبرالي كما يقول في الكتاب , ولكن علمانيته لا تمنعه من الاعتراف بإله خالق لهذا الكون ص 287 ( العلمانيون هم الذين أخلصوا لربهم فقاموا يكتشفون قوانينه في الكون , وتوظيفها من اجل كرامة الإنسان الذي كرّمه ربه , فالمخلصون لهذا الرب هم علماء العلمانية ) ولا عن النطق بالشهادتين ص 216 ( وهو ما أدى ببعض كتاب الحوار المتمدن للدعوة لوقف حملة الموقع لتأيدي , بعد ان اعترفت للنبي بأنه سيد الخلق وقلت الشهادتين في التلفزيون المصري ) .
يتلاقي القمني في هذا الفهم مع مثقفين كَثر يفهمون العلمانية أنها اشتقاق من العالم وليس من العلم , ويأخذون بتعريف جون لوك لها ( الإيمان بإمكانية إصلاح الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول او الرفض ) أو بتعريف د . فؤاد زكريا لها كما جاء في كتابه – العلمانية تحت المجهر ص 219
(( الدعوة الى التحرر من القيود الدينية على المعرفة , وافتراض الكون مستقلا تفسره قواه وأنماط انتظامه الخاصة , والحركة غير المنقطعة للطبيعة والمجتمع , ومقالة التطور المستمر الذي ينتفي معه ثبات القيم الأخلاقية والروحية , والقول بأن الدين يستهدف العالم الآخر وليس الدنيا ))
هؤلاء العلمانيون ربما لم يحسموا بعد مسألة الخلق في أذهانهم ولا تعنيهم المسألة , المهم بالنسبة لهم هو عدم تدخل الدين بالسياسة .
لكن نفرا من العلمانيين العرب ومنهم انا يقول باشتقاق العلمانية من العلم وليس من العالم . في هذه الحالة يصبح لزاما علينا التطرق الى قضية الخلق وتفسيرها علميا على أساس القاعدة التالية – لا مادة بدون حركة ولا حركة بدون مادة – وحركة المادة تمت وفقا لقوانين معينة كانت السبب في الانتقال من الجامد الى الحي .
باختصار العلم يقول بأن االانسان خلق الله في حين يقول الدين بان الله خلق الانسان .
ما من شك في ان تعميم هذا المفهوم والجهر به صراحة سيكلف صاحبه الكثير على المستوى الرسمي والشعبي وقد يعزله عن وسطه , فمجتمعاتنا ما زال القانون في أغلبها يحاسب صاحب هذه الرؤيا بوصفه كافر وزنديق يجّذِف على الذات الإلهية , أما على المستوى الشعبي , فأبناء شعبنا تعلموا عبر قرون ربط القيم بالدين , وغالبيتهم تظن بان من هو كافر هو بلا قيم ولا أخلاق ولا يحلل ولا يحرم الا بما يتوافق مع مصلحته .
مع معرفتي بذلك أرى أن الزمن مناسب لبلورة تيار علماني عربي ينطلق من هذا الفهم , وهذه بعض من حججي .
1- بيّنت تجربة الاشتراكيين في القرن المنصرم ان حاجة عربة التقدم الاجتماعي للحرية تتفوق على ما عداها من حاجات , وحدها الحرية تستطيع توظيف طاقات الانسان المتجسدة لديه سواء عبر عقله ام ضميره لخدمة قضية الانسان , في مقدمة الحرية يأتي احترام الرأي والرأي الاخر , لابل ان حضارة المجتمعات تقاس الآن بمقدار احترامها للرأي الآخر , وهذا الفهم يُسّهِل علينا العمل من اجل قضية الانسان سواء عبر العقل كما يريد العلمانيون او عبر الضمير كما يريد المؤمنون . لماذا لايعمل التياران من أجل قضية الانسان ويتناغما كما يتناغم جناحا الطير لكي يُحلِق بهما في الجو بدلا من التراشق بينهما ؟. بهذا المعنى التقي مع فهم سيد قمني الذي يقول في الكتاب ص 286 ( ان ما أصر عليه باستبعاد الدين من المجال العام كله ليس لمجرد المعاندة , وإنما لكي يتفرغ الدين والعلمانية كل منهما لتحقيق المراد منه لخير الناس , كلُ بأسلوبه وكل بطريقته , هذا عبر الروح , والآخر عبر العلم والعقل المادي , واذا اتفقنا على أن هدفهما إسعاد البشرية , فان الهدف الأول اذا كان صادقا فلن يجعل احد الطرفين يختلق المعارك والصراع ضد الطرف الآخر . ) .
ان قضية الخلق والموقف منها تقف في مقدمة قضايا الحرية في عصرنا , وحاجة العلمانيين العرب لفرض وجودهم في الساحة لها أهمية كبرى لمجتمعاتنا , فهي تخلصنا من قضية التلفيق بين النظريتين التي يروج لها في مناهج طلابنا وأذهان شبابنا , وتجعل كل منهم حرا في أن يعتنق المذهب الذي يشاء دون تعصب او إكراه .
ليست المهمة بالأمر السهل خصيصا اذا علمنا ان مجتمعاً متقدماً كالمجتمع الأمريكي لم يستطع ان يصل إلى عرض النظريتين جنبا الى جنب في مدارسه وجامعاته الا بعد صراع مرير كما يخبرنا الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في مذكراته المعروضه في كتابه (حياتي) ترجمة حسام الدين خضور ص 304
( عارض الأصوليون نظرية الارتقاء والتطور معظم القرن العشرين لكونها تتناقض مع حرفية الكتاب المقدس عن خلق البشر , وفي أوائل القرن العشرين حرمت العديد من الولايات الأمريكية بما فيها أركنساس تدريس نظرية الارتقاء , حتى بعد ان أسقطت المحكمة العليا مثل هذه المحظورات , ولم تناقش معظم النصوص العلمية نظرية الارتقاء حتى ستينات القرن العشرين , وفي النهاية توصلوا لفكرة دعوة المدارس التي تدرس الارتقاء الى ان تمنح علم الخلق عند اللاهوتيين أهمية متساوية )
لكنه الطريق الصحيح لمساهمتنا في تطوير مجتمعنا , وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة .
2 – ان العلمانية بمفهومها الأول هي بنت التاريخ الأوروبي وقد نشأت هناك ردا على تدخل الكنيسة في الشؤون الدنيوية بعد ان وصل الأمر إلى وجود سلطتين متوازيتين سلطة الكنيسة وسلطة الملك , ولم يكن المجتمع والعلم قد تطورا بما فيه الكفاية ليساعدا هذا التيار على الجهر صراحة بآرائهم التي تجعل من الله وليد الانسان وليس العكس , وربما لم تكن محسومة لدى بعضهم قصية الخلق يشكل نهائي , أضف إلى ذلك طبيعة الدين المسيحي المنتشر في اوروبا آنذاك والذي يفصل ما بين ما لقيصر وما لله , ووجود رجال دين مسيحيون يفهمون الدين بأنه علاقة بين الانسان وربه كما يقول هؤلاء العلمانيون ولذلك لا يجدون حرجا في أن يتبنوا قضية العلمانية سياسيا بالشكل المطروحة فيه , واستنادا الى هذا الفهم نجد رجال دين عرب مسيحيين يوافقون المطران غريغوار حداد على قوله عن العلمانية المنشور في صحيفة النهار اللبنانية بتاريخ 25/ 9/ 2005
العلمانية الشاملة تشتمل على :
– العلمانية الشخصية , التي تؤكد قيمة كل انسان بدون الرجوع الى معتقده الديني
– والعلمانية السياسية , التي تؤيد استقلالية الممارسة السياسية عن الانتماء الديني
– والعلمانية الوظيفية , التي تؤكد استقلالية الوظيفة الحكومية عن الانتماء الطائفي
– والعلمانية المجتمعية , وهي في المعنى الحصري استقلالية المجتمع المدني بأفراده وتجمعاته عن الطوائف
– والعلمانية المؤسسية , وهي استقلالية المؤسسات التربوية والصحية والاجتماعية عن الطوائف ومجلسها وسلطاتها
– والعلمانية القانونية , أي استقلالية قوانين البلاد عن الشرائع الدينية
– والعلمانية القيمية , أي استقلالية القيم الإنسانية كالعدالة والمساواة والديمقراطية والحرية عن المصادر الدينية واللادينية
انا مؤمن بالله , ومؤمن بالعلمانية الشاملة
مؤمن بالله ولذلك أنا علماني , ومؤمن بالعلمانية دعما لإيماني بالله .
وإيماني المسيحي على مسافة واحدة من جميع الأديان وأنا مقتنع بأنه كلما أصبح المسيحيون مؤمنين بالإنجيل حقا , والمسلمون مؤمنين بالقرآن حقا أصبحوا قادرين على تكوين وطن علماني حقا .
3- الاسلام كدعوة اقرب الى الماركسية منه الى المسيحية فهو نظام مغلق ومتكامل على الأرض من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .
الاسلام دين ودنيا كما يقول عنه كل فقهاؤه , ومن يحاجج بأن الاسلام رسالة دينية فقط ويفصل بينه وبين السياسة لا يمكن ان يقنع عامة الناس المسلمين . كل المحاولات التي جرت من أجل الفصل بين رسالة الاسلام الدينية وبين السياسة باءت بالفشل وأهمها على الإطلاق محاولة الشيخ علي عبد الرازق في كتابه الشهير – الإسلام وأصول الحكم –
إنّ أكبر انشقاق جرى في داخل الدين الاسلامي بين سنة وشيعة لم يكن سببه دينيا بل كان سياسيا محضا على ما أعتقد .
ان نظرتنا العلمية للإسلام بهذا الشكل تساعدنا على فهمه تاريخيا ضمن زمانه ومكانه , فالإسلام كان ثورة اجتماعية في حينه . بهذا المعنى كان للإسلام آثار ايجابية على المنطقة والعالم نذكر منها .
– على الصعيد الاجتماعي : حارب الاسلام العصبية القبلية والعشائرية وخاصة عادة الأخذ بالثار وحرّم وأد الأنثى وهي حية , ونّظم علاقة الرجل بالمرأة في أسرة لها دستورها وشريعتها الجديدة .
– وعلى الصعيد السياسي تعايش المسلمون مع اليهود والمسيحيين , واحترموا عقيدتهم وشعائرهم .
– وعلى الصعيد الاقتصادي أقّر الإسلام نظام ضرائبي جديد ومتطور تجبى فيه الأموال الى بيت مال المسلمين عن طريق الزكاة والفيء …الخ .
بالطبع شهد الاسلام في داخله صراعا مريرا بين قوى تقدمية- إمامها العقل – تريد توظيفه لمصلحة دفع التطور الاجتماعي الى الأمام على قاعدة – تغير الأحكام بتغير الأحوال – وبين قوى رجعية تريد تقديس النص وإعلاء سلطة النقل على سلطة العقل , وقد حسمت المعركة منذ زمن الخلبفة العباسي المتوكل لنصل الى اسلام جديد يصح فيه قول عبد الرحمن الكواكبي – اللهم ان المستبدين جعلوا دينك غير الذي أنزلت , وتحويله من اسلام القرآن الى اسلام الحديث ,وهل كان الرسول يبول قائما ام قاعدا ؟ لنصل الى الاسلام الحالي وفتاويه عن رضاعة الكبير وزواج المسيار وسواها.
ان نظرتنا الى الاسلام من ضمن هذا المنهج العلمي يدعم الإسلاميون الذين يرغبون باستئناف المسيرة العقلية داخل الاسلام , أكثر مما يدعمهم النظرة اليه كدعوة دينية خالصة من اجل معرفة الله وتحض على احترام الانسان وتدعوه الى فعل الخير ونبذ الشر , ومن ثم نحاكم غزوات النبي محمد ومن بعده صحابته على أساسها , فهي علاوة عن انها ليست قراءة تاريخية صحيحة ضمن زمانها ومكانها – لن تزيد المسلمين الا كرها بنا
: يقول القمني في كتابه ص 196
0 وقد حققت مجزرة قريظة بعد ذلك دورها في إرهاب الجزيرة كلها بعدما تسامعت بخبرها مما سرع عملية الخضوع الطوعي لسيادة المسلمين )
ويقول أيضا ص 265 ( يتبادر الى الذهن السؤال حول قيم سبي الجواري ونكاحهن في أرض المعركة كما حدث في غزوات النبي وبخاصة في خيبر حيث فشا اتيان الحبالى بجوار الأب والزوج المذبوح )
ويقول أيضا ص 275- 276
( وماذا حدث عندما سمع أهل مدينة – أليس – جنوبي الفرات بما حدث لغيرهم على يد الغزو العربي , فقرروا المقاومة صيانة للأموال والأغراض ؟ وهو ما اغضب خالد بن الوليد , فاقسم بالله ان يجري نهرهم بدمائهم , وأمر بسد مياه النهر , ثم أمر جيشه بأسر أهل أليس لا قتلهم , حتى يفي بقسمه لله , فجمع منهم سبعين ألف أسير , وأمر بذبحهم في مجرى النهر الجاف , واستمر الذبح ثلاثة أيام يأتون مصفدين بالحبال ارسالا – أي جماعات – ليذبحوا في مجرى النهر كي يجري بدمائهم وحتى يبر خالد بقسمه )
ربما تكون هذه الأقوال مفيدة حاليا في الساحة المصرية لمحاربة المتاجرين يالدين امثال الاخوان المسلمون المصريون الذين يصرون على رفع شعار – الاسلام هو الحل – فهم يحتاجون االى صدمهم في صميم تاريخهم , ولكنها لا تصلح على ما اعتقد لمخاطبة جماهيرنا الدينية العفوية المؤمنة بالرسالة المحمدية والتي لا ترى في تاريخنا شيئا يذكر سواها .
– اللاذقية