في علمانية اللاعلمانية
راتب شعبو
الحقيقة التي تغيب دائماً عن أذهان اللاعلمانيين في السجال العلماني-اللاعلماني هي أن العقل البشري الاجتماعي هو الدينمو والمرجع على الجبهتين، العقل البشري الاجتماعي في سعيه لنقد أو تبرير أوضاع اجتماعية وسياسية معينة خدمة أو طعناً في مصالح فئات اجتماعية معينة. وأنه ليس ثمة من يمكنه الزعم أنه يمثل في مسعاه خيرة إلهية، وربما كان أبعد الناس عن هذه الخيرة أكثرهم ادعاء بتمثيلها، والله أعلم! فالجميع في هذا الصراع السياسي الفكري يعكسون مصالح دنيوية بشرية لا تستطيع أن تخفيها الأغلفة اللاهوتية المزعومة.
والحقيقة التي يجب أن ينظر إليها اللاعلمانيون (أصحاب مشروع الدولة القائمة على مرتكزات دينية) بشجاعة ومسؤولية هي أن ما يسعون إليه ويدعون له إنما هو خيار بشري لا يقل في دنيويته وانقطاعه عن “الأصل الإلهي” عن الخيار العلماني اللاديني (وليس المضاد للدين). وذلك ببساطة لأن الله لم يعط علمه لأحد ولأن النص المقدس الإسلامي لا بد له أن يمر في آلة العقل البشري، قبل أن، ولكي، يترجم إلى أفكار سياسية واجتماعية معينة، هذه الآلة المكونة أصلاً وفق شروط تاريخية اجتماعية محددة والمشبعة بالغايات المسبقة والمصالح والأهواء. لذلك إذا كان النص القرآني ما قبل دخوله هذه الآلة واحداً ثابتاً جامعاً فإنه يخرج منها وقد تحول إلى نصوص وفرق واتجاهات وألوان ليس لأحد أن يحكم أيها “خيرة الله”. هذا عدا عن كون النص المقدس إياه إنما هو قابل لأكثر من فهم وحامل لأكثر من وجه في نظر العقل المجرد، أقصد دون أن يكون ثمة مصالح اجتماعية وسياسية تفرض نفسها عليه وتظلله بألوانها (على افتراض وجود مثل هذا العقل المجرد).
وإذا كانت نصوص صريحة في القرآن مثل قطع يد السارق تشكل محط خلاف واجتهادات لا تنتهي، فكيف باشتقاق نظام حكم إسلامي لم يرد به نص أصلاً. ومن أين تأتي الجرأة لمن يزعم أن تصوره وأفكاره إنما هي معنى حاكمية الله؟
على هذا الضوء لا بد أن نقول لمن يقول مثلاً: “لست علمانياً.. ولا أرتضي المشروع العلماني. وأبذل ما وسعني الجهد لتكون خيرة الله فوق خيرة البشر” ( زهير سالم : (كلنا شركاء) 13/2/2010): إن الزعم بمعرفة ما هي خيرة الله مقابل خيرة البشر إنما هو، في أحسن الأحوال، غرور لا حدود له، واطمئنان خادع وضلال. أو فهو خبث واستثمار سياسي غير نظيف ولا أحسب أن الله يرتضيه.
يتعين بالدرجة الأولى جر النقاش مع اللاعلمانيين من الدائرة التي يصرون على البقاء فيها بكونه نقاشاً بين كفار وأصحاب دين، إلى دائرته الحقيقية بكونه نقاشاً بين أصحاب مصالح متضاربة أو مختلفة. ويتعين على خصوم فكرة العلمانية أن يبرهنوا لنا على “ألوهية” ما يذهبون إليه أولاً قبل أن يرموا خصومهم بنيران الكفر. إن إسقاط الدرع “الألوهي” المزعوم عن صدر اللاعلمانيين يشكل الخطوة الأولى على طريق بناء جدل حقيقي معهم. أي ينبغي في المقام الأول إظهار علمانية اللاعلمانيين، إذا صح القول، أي إظهار انتماء أفكارهم وأطروحاتهم إلى العالم الدنيوي المحض الذي قطع الله، لحكمة من عنده، صلته به عبر الرسل الذي كان محمد خاتمهم.
لا شك أن عين اللاعلمانيين تعمى عن هذه الحقيقة دون وعي منهم، رغم وضوح هذه الحقيقة وبداهتها، ذلك لأن غياب هذه الحقيقة هو حجر الزاوية في البنيان الإيديولوجي الذي يبنونه ويستثمرونه. ومن الطبيعي أن تعمى العين عما إذا رأته تداعى الصرح الذي يملؤها. وربما كان هذا العمى آلية نفسية معرفية غير واعية وقد تكون هي نفسها الآلية التي تجعل المرء يعمى عن “الخشبة التي في عينه” كما يقول السيد المسيح. حتى أنك ما عدت تسمع من هؤلاء اللاعلمانيين تعبير “الله أعلم”، وذلك هرباً من مجرد التذكير باحتمال خطأ ما يذهبون إليه باسم الله. فقوة ما يطرحون تقوم على دعامتين: الأولى هي اطمئنانهم (المخيف) بأن ما يختارونه هو “خيرة الله” ونبذ أي بادرة شك مهما صغرت، والثانية هي إرهاب من يعارضهم بوضعه في دائرة معارضة خيرة الله وجذب من ينقاد لهم على أنه يوالي خيرة الله.
اللاعلمانية تنطوي على ضرب من العنصرية
إن التمييز الذي يعانيه الناس تحت ظل الديكتاتوريات هو عموماً تمييز قائم على الولاء أو عدمه، قائم على ما يقع تحت سيطرة المرء وضمن دائرة وعيه، أي قائم بالمحصلة على اختيار المرء. الديكتاتورية هي بذلك مصادرة لحرية اختيار الفرد وقسر الناس بالقوة على ممارسة وإظهار الولاء للسلطة الديكتاتورية. أما التمييز الذي تفرضه اللاعلمانية (المفهومة على أنها إقامة دولة وفق أسس فهم معين لدين أو حتى لمذهب معين) هو تمييز قائم على الانتماء العضوي للفرد، أي على ولادته في أسرة من هذا الدين أو ذاك، من هذا المذهب أو ذاك، وهو بداهة أمر لا يختاره المرء، وهذا بالتالي تمييز يشبه التمييز العنصري وهو أشد وطأة وأكثر تخلفاً من التمييز الذي تمارسه الأنظمة الديكتاتورية. وهو ينطوي على تخصيص الدولة دستورياً لجماعة من الناس (هي الأكثرية العضوية في الغالب) وتغريبها عن غيرهم. وبطبيعة الحال يجري في الوقت نفسه ممارسة التمييز الديكتاتوري ضمن دائرة الأكثرية العضوية نفسها وضمن الأقليات بحسب الولاءات. أي إن النظام السياسي اللاعلماني هو مزيج مقيت من التمييز العنصري والقسر الديكتاتوري. ولا يقلل من وطأة هذا الأمر القول بحقوق الأقليات واحترام المذاهب والديانات الأخرى، لا بل ربما يزيد هذا الكلام في ثقل النظام اللاعلماني على نفوس رعاياه حين يفتتهم على أساس عضوي ويصنفهم إلى درجات على هذا الأساس، ويحصر بعضهم في دوائر أقليات وينزع الأرضية الوطنية المشتركة من تحت أقدامهم، مستحضراً ما يفرق بين الناس ومقصياً القاسم الوطني الموحد إلى مرتبة أدنى. كما لا يقلل من وطأة هذا الأمر وظلمه القول بأن أبناء الديانات والطوائف الأخرى يمكنهم الوصول إلى مراتب عالية في الدولة، طالما أن هناك ولو مرتبة واحدة لا يحق لأحد رعايا الدولة بلوغها لأنه ولد في هذه الطائفة أو ذاك المذهب. وإذا كان من الطبيعي مثلاً أن يكون الرئيس في بلد ذي أغلبية مسلمة مسلماً، وفي بلد ذي أغلبية مسيحية مسيحياً، فإنه من غير الطبيعي أن يكون ذلك مكرساً في دستور أو قانون يحرم المواطن من منصب في الدولة مهما علا هذا المنصب. لماذا نرتضي مثلاً أن يضحي المواطن المسيحي بنفسه دفاعاً عن بلد يضم غالبية مسلمة (هل هناك من يستنكر تضحية جول جمال مثلاً؟) ولا نقبل، نظرياً على الأقل، أن يكون مسيحياً على رأس جهاز الدولة في بلد غالبيته مسلمة؟
مشكلة اللاعلمانية أنها تخلق تعارضاً مدمراً بين أولوية الانتماء إلى الجماعة الدينية والأولوية الوطنية التي يفرضها الواقع السياسي المعاصر الذي يقسم العالم إلى دول تقوم على حدود سياسية معينة لا تراعي الانتماء الديني أو المذهبي. وإذا كان تماسك الدولة وإعادة إنتاجها يعتمد على مدى تقدم الرابط الوطني بين رعاياها، فإن التشديد على الانتماءات الدينية من شأنه أن يفتت هذا الرابط وأن يزعزع تماسك الدولة أو يدفعها إلى التقهقر إلى دولة بطش تلتمس التماسك بوسائل قهرية وغير شرعية.
وإذا كانت الحركات السياسية الدينية (الجهادية) في الآونة الأخيرة قد ازدهرت، على خلفية تراجع وتفكك الحركات اليسارية السابقة من شيوعية وقومية، وأعطت نموذجاً جهادياً لامعاً في مقاومة الاحتلال في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان، فإن سبب نجاحها نفسه (حساسية الشعور الديني تجاه الآخر وقوة هذا الشعور في لحم الجماعة وصهرها) هو ما يضمر سر أزمتها ومحدودية مشروعها. حيث يبدو الجهاد “المقاومة” في لبنان مثلاً خاصية طائفية أو مذهبية تثير ردود فعل تفكيكية في المجتمع اللبناني وتجعل من انتصارات المقاومة قيمة غير متفق عليها وغير جامعة للبنانيين على خلاف ما شهده التاريخ من مقاومات كانت نتيجة انتصاراتها على المحتل أن أجمع المجتمع عليها وسلمها قيادته. مؤدى القول إن لاعلمانية هذه الحركات هي الحائط الذي يغلق الأفق في وجهها والذي سترتطم به وتنكفئ تاركة للمجتمع معالجة التداعيات.
الإسلام دين ودنيا!
تستند الكثير من حجج اللاعلمانيين على هذا الحديث لتبرير هجومهم على العلمانية وتبرير ضرورة الدولة الإسلامية، ولكن يتساءل المرء: هل هناك دين بلا دنيا؟ أليس حَمَلة الدين (أيّ دين كان) هم بشر يدخلون فيما بينهم ومع الآخرين بعلاقات لا حصر لها؟ ألا تنعكس قناعات المرء (ولاسيما الدينية منها) بالضرورة في علاقاته ومواقفه اليومية؟ وألا يشكل هذا حضوراً دنيوياً للدين؟ ألا يمكن للإسلام أن يمارس “دنياه” من خلال المعاملات ومن خلال المنظمات المدنية والجمعيات وما إلى ذلك؟ ألا يكفي أن يكون المسلم متقناً لعمله، كما يأمر الله، ونظيف اليد وطالباً للعلم وصائناً لأخيه ومعبراً عما يراه حقاً وصادقاً ونظيفاً وأميناً، كما يأمره دينه، كي يكون وجه المجتمع الإسلامي مختلفاً تماماً في ظل الدولة العلمانية؟ ألا يكون ذلك تعبيراً جلياً عن أن الإسلام دين ودنيا؟ ألا يكون ذلك حضوراً دنيوياً وازناً للإسلام؟ أم أن الدنيا تعني فقط السلطة السياسية واستخدامها لفرض اجتهاد إسلامي ما على أنه الشريعة الإسلامية بألف ولام العهد (حسب تعبير المرحوم الباحث نصر حامد أبو زيد)؟
إن عالمية ونهائية الإسلام تقضي بانسجامه مع قوانين العقل البشري وباستيعابه لكل ما ينتجه العقل البشري في سعيه إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الرفاهية والعدل لأفراد المجتمع. وعلى ذلك ينبغي أن يكف اللاعلمانيون عن نسبة أفكارهم وتصوراتهم الاجتماعية إلى مصادر لا يدركها العقل البشري – بما فيه عقولهم بالطبع! – وأن يتخلوا عن “معصوميتهم” المزعومة والموهومة (وهذا أخطر!) ويستووا مع الآخرين على أرض مشتركة هي أرض الصراع السياسي المستقل بالكامل عن المساند الإلهية إلا بقدر ما تساعد هذه، مثلها في ذلك مثل أية مساند فكرية أخرى، على حل المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها الناس.