عــن قصيــدة النثــر
عباس بيضون
كان بودلير اول منشئي قصيدة النثر الفرنسية بعد برتران شاعر وزن كما هو معروف وسعى فيكتور هيجو لنشر اول كتاب لقصيدة النثر، غاسبار الليل لألوزيوس برتران. أي ان قصيدة النثر ولدت وسارت في جوار قصيدة النثر بدون سؤال عن شرعيتها لأنها من البداية اعتبرت نوعا آخر لا يباري على الشعر ولا يجتهد لاحتكاره.
قصيدة النثر العربية بدأت من حيث بدأت القصيدة العربية الحديثة، من نقد للتقليد الشعري وسارت أبعد فيها. لقد استثمرت خلوها من الوزن والقافية للتخلص من اواخر لوازم الشعر وقيوده البرانية المسبقة للسير به نحو شعر خالص او شعر جوهري او نواة شعرية. هذه التجربة لم يكن لولا ان حد الشعر وحد النثر مشتبكان في اللغة العربية. القرآن هو المثال النموذجي لهذا الاشتباك، ولكم احتاط القرآن لذلك ونبه اليه ولم يكن ليتبرأ من الشعر لولا ذلك الالتباس. الأرجح ان المباراة على الشعر بين الشعر والنثر الشعري بقيت ضامرة في أدبنا. ولربما طاقة النثر الشعرية هذه وراء استعداد النثر للسير فورا في طريق الشعر ومباراته الوزن عليه. إن ارثنا اللغوي يحمل في داخله كثيرا من الشعر لا في القصائد وحدها ولكن في ذاكرة الكلام وفي تشكيله ونبرته. وانه ارثنا من بداوة لغوية يتعالى فيها الكلام على موضوعه ويخرج بسرعة الى حماسة صوتية وترجيع ملحمي وايقاع واحدا. لم ينفصل الشعر عندنا عن النثر كليا، ليس قرب الخطابة من الشعر مظهره الوحيد. ولم يكن عجيبا ان يكون النثر الجبراني الذي ثوّر الكتابة العربية محلا لالتباس الشعر بالنثر ولنقل ان هذه الصعوبة النسبية في فرز الشعر من النثر هي التي اشعلت المنافسة بينهما بحيث بدت قصيدة النثر طامحة لاحتلال موقع الشعر وقصيدة الوزن لا تقبل ان تشاركها فيه. لقد بدأت قصيدة النثر اذن عندنا من شعرية مفرطة، وهذه بداية خاصة استمرت في جانب كبير من تراثها. القصيدة الأدونيسية والبركاتية من امثلتها الاساسية. هذا النتاج الذي الزم قصيدة النثر بالتخلص من الحوشي والتفصيلي والتفسيري والاستطرادي والبرهاني، بطبيعة الحال، السردي والوصفي والخبري والبراني ليس قليلا. انه جزء من ديوان القصيدة النثرية اذا جاز التعبير، ونقضه تحت أي عنوان والرجوع عنه امر لا يتصل بتاريخ الأدب في شيء. لقد بدأ الأمر هكذا بدأ في انحراف اذا جاز القول ولا بأس ان يتأسس تاريخ القصيدة النثرية على انحراف وان يسترسل فيه ثم يرتد عليه او يراجعه. تلك لن تكون بداية أخرى ولن تكون قطعا بالتأكيد. لقد وصل الى شعراء آخرين تراث كامل تمثلوه وجعلوه في ارثهم اللغوي والشعري لم يكن وحده بالطبع في هذا الارث، لا بد ان ترجمات او قراءات لأصول اجنبية شاركت فيه. لكن من قال ان الشعر يأتي من الشعر فحسب. ان هذه نظرة تقنية حرفية لأبعد حد. يأتي الشعر من الشعر ومن سواه، من الثقافة ومن الواقع ومن الظف والمرحلة ومن التجربة. بل ان محاكمة الشعر لا تتم على محك الشعر وحده كما ان قراءته لا تبقى في هذا النطاق. لا بد ان لحظة القراءة المختلفة والمحاكمة هي بنت تظافر ظروف، انها لحظة مركبة لكنها على نحو ما لحظة تاريخية. ان نقد الشعر يشكل جزءا من نقد الواقع ومن نقد الثقافة ومن تظاهر التاريخ. أما نقد الشعر العربي فخرج من توق الى الحداثة والعالمية بدا، لأمر ما، ان الشعر وحده قادر على الوفاء به اقول لأمر ما، لأن ليس من سبب معقول يدعو الى التفكير بأن الشعر وحده يمكنه ان يقفر الى الحداثة والعالمية بدون ان يتصل ببيئة ثقافية اجتماعية قابلة لذلك. لعل السبب غير المذكور هو تلك العقيدة القديمة التي تقول بامتياز العرب بالشعر وتفوقهم الفطري فيه وهي العقيدة التي جعلتهم يترفعون عن ترجمة الشعر اليوناني في الوقت الذي كان فيه الاغريق هم المثال الثقافي. هكذا تنقلب المعادلة. بدلا من ان يخرج الشعر من الحداثة والعالمية كتب عليه ان يولّد هو بنفسه الحداثة والعالمية. لقد انيط بالشعر ان يكون بطاقتنا الثقافية. طلب منه وحده ان يقوم عن الثقافة وربما عن المجتمع والتاريخ بالتجديد والثورة. ربما نفهم من هنا انقلاب الموازين، بدلا ان يخرج الشعر من التاريخ بات عليه ان يصنع التاريخ. بدلا من ان يصدر عن الثورة والتجديد بأن عليه ان يكون هو الثورة والتجديد. هكذا أمكنه ان ينفرد بنفسه في سياق الثقافة والتاريخ، وان يشكل ملكوته الخاص، وان يتكلم الشعراء بنرجسية وبطولية كاملتين، وان يتماهى الشاعر مع الأمة والتاريخ والثقافة.
إذ شئنا ان نصل بين وهم الشعر عن نفسه وبين اللحظة التاريخية يومذاك أمكننا الكلام عن زمن شعري. انه زمن ثورات التحرير والانقلابات العسكرية. زمن النشوء من عدم سياسي واحالة الواقع الى التقاعد وقيام انظمة ايديولوجية والحلم بالقوة وانتاج مجتمع عسكري ورسالي ودعوة المستقبل. سيضاف اليها بعد هزيمة حزيران حرب الشعب. لم يكن كل الشعراء متعاطفين مع زمنهم وبعضهم انكره لكنهم مع ذلك كانوا ابناء تلك الحقبة التي نبتت فيها الأحلام بدون أي مقابل ويجد فيها الكلام القوة في نفسه وحدها. كانت قصيدة النثر اذا قابلناها لشعر الوزن حصيلة موقف متباين وربما مضاد، لم يكن في قصيدة النثر اساطير فيما كان جانب مهم من قصيدة الوزن يتكلم بالأساطير، ولم يكن فيها الاحتفاء بالشعب ولم تكن فيها دعوة سيبرمانية او مستقبلية، ولم يكن فيها شيء من تغني الشعر بسلطانه والشاعر بسحره. لنقل ان الشاعر النبي سواء أكان رجيما ومبشرا، الشاعر خالق الاساطير، الشاعر المتغني بالشعب، الشاعر السيبرماني والمستقبلي، هؤلاء الشعراء افتقدوا في قصيدة النثر التي كانت لا توكل للشعر أي مهمة تأريخانية او احيائية او جماهيرية او مستقبلية، وبالتالي فهي لا تسند للشعر أي مهمة تتعداه، وان يكن موقف الشعر بالنسبة لها هو موقف الاعتراض الانطولوجي والسياسي في اعمال محمد الماغوط تخصيصا. اذا عدنا الى قصيدة النثر، اذن في مرحلتها الريادية الاولى من خلال الماغوط والحاج وابي شقرا فإن الشعر المستقيل هنا من أي مشروع احيائي او مستقبلي او جماهيري، والبعيد عن انتداب نفسه بديلا عن التاريخ، لا يزال مع ذلك سادرا الى ابعد في مشروع حداثوي وثوري. وهو مشروع خرج من قطع تاريخي وثقافي لم تكن قصيدة الوزن اقدر عليه وان ادعته وتطلعت إليه، لقد زال من الشعر أي التزام تاريخي ناهيك عن الالتزامات الأخرى والتي غالبا ما تتفوق على الشعر وتتعداه. تحرر الشعر مما يجعله اكبر من نفسه واحيانا غريبا عنها، يمكننا القول ان الشاعر صار اقرب الى الاكتفاء بالشعر وان حمل في نفسه جرثومة الاعتراض والتحديث والعالمية الحرة. يمكن القول ان قصيدة النثر المتحررة من أي التزام تراثي في مرحلتها الاولى فتحت الباب لتجريب بلا حدود ولالتحاق عالمي لا يعترف بالخصوصيات، لكنها أحلّت محل النبي والمحيي والسباق اسطورة اخرى هي اسطورة البطل المضاد، الصعلوك عند الماغوط والتدمير الذاتي عند الحاج واللعب الحر بلا أي دعوة او تشخيص كما عند شوقي أبي شقرا. لم تكن قصيدة النثر الاولى مديحا للشعر وللشاعر وللغة كما كانت قصيدة الوزن لكن هذا لا يمنع من انها جعلت للشعر وللشاعر مقاما خاصا وكان لها هي بيانها والثوري. لقد جعلها القطع حرة في التجريب لكن مغامرتها الكبرى كانت في مصارعة الأب اللغوي وانكار اللغة كسلطة وكهوية. قصيدة النثر الاولى كانت في هذا الاستفزاز والتجديف فقد جعلت معركتها مع اللغة الحادا بها وتحطيما للمقدس وانكارا لها. قصيدة النثر الاولى كانت ايضا في نوع من البراءة التي تكلم عنها أدونيس في حديثه عن أنسي الحاج ولم تكن هذه البراءة في الواقع سوى الحاد وانكار فج. لذا كانت المعركة في احيان أكثر صخبا من ان تنتج، بل كانت في احيان هجوماً اعمى واعتداء واستفزازاً لكنه بالطبع كان في احيان اقل إنجازاً وتحويلاً واجتراحاً. لقد حدث تحطيم كبير ولي ومعاضلة كما يقولون في البلاغة القديمة ولم يخل الامر من تمحل واصطناع. لكن «ماضي الأيام الاتية» لأنسي الحاج و«سنجاب يقع من البرج» لشوقي أبي شقرا مثلين لنجاح حقيقي، لقد ولدت من هذه البراءة لغة ليس لها سابق لغة لها سمتها وايقاعها ومتعتها الخاصة. لن يكون محمد الماغوط في هذا السياق، لقد اهتدى الى لغته في الغالب من دون معركة بل وصل اكثر من سواه الى «لغة طبيعية» بدت هكذا لشعراء النثر وشعراء الوزن معا ذلك الحين. كان يمكن لقصيدة الماغوط ان تؤمن لقصيدة النثر مروراً سهلاً كما فعلت قصيدة بودلير وويتمان على سبيل المثال، لكن قصيدة النثر اختارت المعركة. العالمية بلا حدود وانكار التراث والقطع الحر والتعالي على السياسة في عز الموجة الجماهيرية، كل ذلك كان في جانب منه استفزازاً سياسياً قبل كل شيء، بل يمكن القول انه نقد متعال للعقل القومي العربي. نفهم من ذلك سبب الحرب الثقافية التي قامت ضد شعر والتي لم تكن شعر متفاجئة بها وان تظاهرت احيانا بأنها جاءتها على حين غرة. كان العددان اللذان صدرا عن الجزائر وفلسطين من أكاذيب شعر المعلنة فقد اشتمل العددان من حيث على الشعر قصائد قاصرة ومفتعلة، ومصنوعة للمناسبة. اما في الحقيقة فقد كانت شعر «جزيرة» وسط محيط معاد، لم يكن للمجلة دليل نظري واضح بل كانت في الغالب اجتماع مختلفين ان لم نقل اضداداً، مسيحيين مع وثنيين نيتشويين مع عدميين اذا جاز القول. كان هذا نوعاً من اليمين الثقافي اذ لم يبد ان الثورة الشعرية والقرابة السيريالية قد اخذت المجلة خطوة نحو اليسار، كان للماضي السوري القومي الاجتماعي الحديث لعدد من اركان «شعر» أثر اكيد في ازدراء السياسة والجمهور. فالقوميون الاجتماعيون يرون ان عملهم هو النهضة لا السياسة. انه احيائي ومستقبلي وهم ابناء الحياة وجيش المستقبل. في ذلك ما فيه من نقد الحاضر وازدراء اليوميات السياسية. لقد كانت «شعر» ثورة في اليمين اما في اليسار الملتحق بالموجة الشعبية او المسبوق بالمد الشعبي فلم يستطع ان يكمل ثورته. ذلك من غرائب الايديولوجيا، لقد حصنت العزلة يمينا ثقافيا من الاستتباع واعطته بالتالي قدراً اكثر من الاستقلال الثقافي، فيما لم يستطع اليسار الا بصعوبة ان يستعيد استقلاله. كان من غرائب اللعبة الايديولوجية ان اللحظة القومية لم تجد نظيراً فنياً متكاملاً الا في الانجاز الاندونيسي، فيما عاد اليسار عن طرق عدة احداها طريق «شعر» الى نوع من المعادلة بين الفن والواقع. كانت شعر ثورة في اليمين الثقافي لكن براءتها من السياسة جعلتها بريئة احيانا من الواقع. سمى وضاح شرارة الماركسي يومذاك أنسي الحاج بـ«بياع الغضب» ورغم ما في التسمية من سخرية فإن الثورة لم تكن سوى اسمها هنا. كانت «شعر» هذه الديانة الحديثة التي اركانها العالمية والحداثة والثورة لكن الشعر هذه المرة ايضا هو معبدها وحماها. لقد انفتح باب كبير للتجربة وتقليد هائل للبحث والحرية، هذا في الواقع انجاز «شعر» الفعلي، وكانت قصيدة النثر راية هذه الثورة. هكذا بإرادة شعر وإرادة خصومها ايضا، دخلت قصيدة النثر لذلك في معركة ونمت في معركة ولا تزال في معركة. ذلك بطبيعة الحال افردها وسأعدها، لقد غدت مرادفة للتمرد. غير ان ما صنعته شعر هو نوع من ورشة عمل هائلة، أنسي الحاج هو تقريبا هذه الورشة، اقتراحات ومواد عمل فوق طاقة «شعر» ومن تلوها ايضا. اما عمل أبي شقرا فيكفي القول انه صنع جملة عربية جديدة وشعراً بلا ماض تقريبا، اي بلا تشخيص ولا دراماتيكية ولا محمول ايديولوجي. كان هذا بحد ذاته فوق الطاقة، كان بيانا عارما وجب على الاجيال المتتالية ليس حصره وإحصاءه فحسب ولكن اهماله تقريبا. لم يعد ممكنا انتاج بيان آخر، اما الانجاز فله شروط اخرى.
سنتكلم حين ننتقل الى الطور الثاني عن انجازات، عن بيانات خفية، عن صراعات محدودة لكن محددة، عن معارك على الأرض وخلاصات ميدانية، لم تعد قصيدة النثر اقتراحاً انقلابيا عاما وثورة بلا حدود، انها الان اشغال متأنية واقتحامات محدودة واحيانا مجرد تصحيحات فعلى الأرض لا يصمد وهم مفاده ان الشعر هو الثورة بينما نفهم ان الكتابة من الدرجة الصفر حلم يساروي. على الأرض نفهم ان جزءا من العمل هو القبول بالحدود والذهاب الى ابعد في اختبارها ومحاولة تكييفها او اختراقها.
لم تعتبر قصيدة النثر نفسها هامشا شعريا ولا فناً ناشئاً. لم تعارك كما عاركت ولم تستفز كما استفزت لو كانت ترضى لنفسها بهذا المكان. نشأت شديدة الطموح وكثيرة التشوف. في موجتها الثانية انكشف واحد من امثلتها عما يمكن اعتباره طموحا جنونيا. هو ان نكون القصيدة معادلا للغة والتاريخ والمستقبل. كان هذا هو الارث الادونيسي ممزوجا بترجمة أدونيس لسان جون بيرس. مشروع جنوني اصبح من تلك اللحظة على درجة من العموم والذيوع لدى جانب من شعراء السبعينيات العراقيين خاصة لقد وجدت نصوص طامحة الى توحيد الثقافة فقد كانت اللحظة التوحيدية هي حتى ذلك الاوان رايتنا المرفوعة والمكسوفة في آن معا. لكنها كانت لا تزال جديرة بمرثيتنا ومديحنا وفضائنا. هكذا تصدت قصيدة النثر لتكوين كلاسيكية عربية وعمود جديد ثقافي وشعري، لكن هذا كان فوق الطاقة. مثلما كان النموذج الماغوطي المستمر ينحل هذه المرة الى طاغورية مبشرة وبريفيرية ناعية للبراءة واحيانا واقعية اشتراكية. تحول الشعر الى درس حياة، لقد كان هذا تعويضا ما عن رومانطيقية مغدورة. ايا كان الامر فإن قصيدة النثر التي كانت لسبب ما تخرج من مشروع كبير الى مشروع كبير، لن ستقر ولا تجد حدوداً. لربما كانت تبحث باستمرار عن تعريف لنفسها لا تجده لكنها يبقيها في دوامة البحث وفي قلق نظري وعملي. في نوع من البحث الصعب والمستمر. لربما كان عليها ان تصطدم كل مرة بحدود جديدة لكنها لم تهدأ. لم تهدأ وهذه هي حقا حصتنا من الشعر ومن البحث. ارادت قصيدة النثر ان تكون كل شيء وان تستعيد كل تاريخنا وكل ما فاتنا، قفزت واحيانا فوق مداها وامكاناتنا. لقد أرادت ان تعيد البداوة وان بجداء ابرع واكثر معاصرة، ان تعيد الريف وان تغامر في المدينة. كان ذلك بالتأكيد قريبا وبعيدا فهذه القصيدة التي بلا ذاكرة واضحة ادعت او حلمت بأنها قد تصنع لنا ذاكرة. أيا كان الامر وان شطحت فإنها استطاعت على الاقل ان تجسد قلقنا وانقطاعاتنا واستئنافاتنا الصعبة. استطاعت على الاقل ان تبقى في المهب وان تواصل مغامرة وان تجدد على نحو ما اسئلتها. كانت بالطبع تجازف كل لحظة بأن تخلد في مكانها وان تبدأ في مضغ امثولتها ودرسها ونموذجها. طالما خفنا عليها نحن الذين نعلم اننا نواصل بمجرد الارادة والزخم ومجرد القلق واننا لا نملك زاداً آخر، لم نراكم تقليدا ولا تجربة ولا دورات وآليات. نعلم اننا نواصل في خشية ان نفقد في لحظة سرنا وطاقتنا، في خشية من ان نسكت ونتعطل. لا ضمانة بالتأكيد لكن قصيدة النثر لا تزال تعارك وقصيدة النثر لا تزال تستفز ولا هذا في عملها النظري والتطبيقي. لنقل ان هذا بالتأكيد من النعمة وانه برغم كل شيء مبارك. ستترك قصيدة النثر وراءها مشاريع ناقصة لكنها تترك قصائد فعلية فالاشعار كما نعلم لا تأتي من الجادة وربما تأتي من الطرق المسدودة والحفر والعثرات. الطريق القويم والمفتاح والبداية الصحيحة ليست للفن فالفن في الغالب امين للاغلاط. مع ذلك تأتي من لا مكان تقريبا. من طرقات الرحلة والسياحة والضياع قصيدة بقوة الواقع. ان لها ثقل وحجم وعنف واحشاء التجربة. قصيدة سر كون بولص الراحل حديثا على سبيل المثال، اننا نقرأ فيها شعراً مطابقا لحقيقة غير مسماة ولا يحتاج الى وسيط ليطابقنا نحن ايضا. نقرأ قصائد لا ترتكز الى اي رسالة مسبقة ولا تضع نفسها في حساب آخر لكنها تقول بخفية وقسوة ما يشبه ان يكون جرحا. قصائد تحاول ان تصنع ابياتا من حركات وسكنات واحداثاً. من لحظات صمت وفراغات، من توتر ومن التباس، من مجرد شجرة ومجرد واقعة، من سرد صغير او سرد اكبر، من لغة مسننة مقطعة ذات وزن وصرير ومن زواج ما بين العاديات، من نتف سياسية ونتف حياتية، من قراءات ومن سرد جرائدي، من كادر سينمائي، من اشياء ومخلوقات ونفايات، من افكار ومقالات من الكلام وغير الكلام. تقترب قصيدة للنثر اليوم لتعيد من جديد هذه القدرة على ان تكون بين الانظمة الكلامية والفكرية. بين الشعر والنثر بين الحياة والكلام. بين الفكر والشعر بين السرد والرمز والايعاز، بين كل كلام يتطلب ايقاعا، كل كلام يتطلب مسا. انها بين الاغراض والانواع والفنون، بل هي تقريبا تقاطعات وتداخلات، وفي كل مرة تبدأ بالتعريف بنفسها تصطدم مجدداً بحدودها. كل مرة تذهب الى الشعر تلتقي بسلبه، كل مرة تتخطى الشعر تجد نفسها فيه.
ملحق السفير الثقافي