انتفاضة تونس : كل ما تهل البشاير من يناير
إكرام يوسف
هدية العام الجديد، فاجأنا بها شعب تونس الأبي.. تذكرة بأن الشعوب لا تموت، ولا تقبل الضيم.. ومثلما هي الثورات في التاريخ، تبدو لمعاصريها مفاجئة، كما لو أنها تحدث بين يوم وليلة، بيد أن المؤرخين سرعان ما يعثرون بسهولة لاحقا على إرهاصات كانت تنبئ بقيام الثورة. ونحن ـ في عالمنا العربي ـ تختمر في أرحام أمتنا ثورات مقبلة، أسبابها واضحة، وإرهاصاتها لا تخطئها العين، غير أن البعض ما زال يفضل أن تفاجئه الأحداث!
فعلى الرغم من أن ناشطين تونسيين حذروا مرارا وتكرارا من أن الأوضاع في سيدي بوزيد تنذر بالتفجر، وتهدد بعصيان مدني يعم محافظات البلاد ما لم تتدارك السلطات الأوضاع الاقتصادي والاجتماعية المتأزمة بحلول جذرية، إلا أن السلطات التونسية، مثلها مثل نظيراتها في بلدان عالمنا الثالث، اختارت أن تصم آذانها عن التحذيرات، وعندما تزعجها أصوات المعارضين، لم تكن تجد ـ كعادة قومنا ـ سوى الحلول الأمنية الجاهزة لقمع المعارضين.. اختارت السلطات التونسية، كما تختار نظيراتها من السلطات أن تفاجئها الأحداث! ولا شك أن البداية لم تكن في إقدام شاب على حرق نفسه، بل أن هذه الحادثة لم تكن سوى الشرارة التي أشعلت بركان الغضب الذي يتأهب للثوران منذ فترة ليست بالقصيرة.
فهل هو مرض مستشر ـ أسميته، ذات مقال، بمتلازمة الغباء المصاحبة للكرسي ـ يجعل من يصلون إلى سدة الحكم يفضلون التعامي عن دروس التاريخ، وصم آذانهم عن أنات المظلومين، وإغماض أعينهم عن رؤية مظاهر الغضب ونفاد الصبر على وجوه العباد، وسد أنوفهم عن شم رائحة الفساد والاستبداد تفوح من عطن كراسيهم الجاثمة على صدر البلاد؟
لقد أثبتت دروس التاريخ أن المستبدين والفاسدين إلى زوال مهما طال الزمن، وأن الشعوب هي الباقية، فلماذا يصرون على تحدي إرادة الشعوب؟ يرى كل من هؤلاء الحكام نهاية نظراء له على أيدي شعوبهم، وكلها نهايات مفجعة ومأساوية، فلا يتعظ ولا يحسب حساب يوم يكون القدر قد أعده له. فهل يعتقد كل منهم أنه أذكى الفاسدين وأبرع المستبدين، وأن ديكتاتوريته من نوع خاص يصعب على الشعب مقاومته؟ أم أن متلازمة الغباء المصاحبة للكرسي تلقي في ذهن كل منهم أنه يستطيع تأجيل غضب الشعب حتى نهاية حكمه، وليتحمل من يأتون بعده مواجهة الشعب؟
يحل يناير هذا العام وهو يحمل معه هدية شعب تونس، وكل من شعوب المنطقة يدعو متضرعا “العاقبة عندنا”. وفي هذا العام تكون قد مرت على انتفاضة يناير الشعبية المصرية ثلاثة وثلاثون عاما بالتمام والكمال. ربما يكون بعض نشطاء تلك الانتفاضة قد واراه ثرى الوطن حزينا ومكتئبا لما صار إليه الحال، وربما يكون بعضهم قد فقد الأمل وطوى قلبه على جرح تظل الذكرى تنكأه كل عام، وربما يكون بعض ثالث ارتأى أن يفر بنفسه من سفينة اليأس، ويبحث عن حل فردي يضمن له ولأبنائه حياة تبدو مريحة، لكن الذكرى تظل تنبهه كل عام إلى أنه لم يعد هو، وأن شرخا في روحه مازال يذكره بأنه باع مبادئ كانت يوما ما مبررا لبقائه. غير أنه سيظل هناك من يتمسكون بإيمانهم ومبادئهم، ورغم كل مظاهر اليأس، لا يزيدهم تدهور الأوضاع إلا إيمانا بأننا قاربنا خط النهاية الذي لابد أن تكون بعده بداية جديدة. يبقى هؤلاء الذين يوقنون تماما أن أحلك ساعات الليل آخره، وأن فجرا ساطعًا سوف يجيء. فعلى الرغم من كل شيء، يعني مرور ثلاث وثلاثين عامًا بالنسبة لهؤلاء المتمسكين بالأمل ـ وأزعم أنني منهم ـ زيادة في تراكم الخبرات والوعي النضالي لدى الشعوب، وزيادة في تعفن الحكومات وتصلب شرايينها وشيخوختها. كما يعني ـ وهذا هو الأهم ـ ظهور جيل جديد أكثر وعيًا وأنضر حماسًا، وأقوى قدرة.. تحية لشعب تونس الأبي الذي شحن في وجداننا بطارية التفاؤل.. وعاش نضال شعوب العالم.. وكل يناير من كل عام ومصر بخير.
البديل الجديد