ثورة تونسصفحات العالم

الانتفاضة التونسية: الدوافع والتداعيات

رشيد خشانة
شكلت الانتفاضة الاجتماعية التونسية التي اندلعت شرارتها من مدينة سيدي بوزيد (270 كلم جنوب غرب العاصمة تونس)، نهاية لدورة تاريخية وبداية لمسار جديد، سيكون بالضرورة مختلفا عن المرحلة السابقة. واكتسحت الحركة الاحتجاجية التي فجرها انتحار الشاب محمد بوعزيزي يوم 17 ديسمبر / كانون الأول 2010 أمام مقر محافظة سيدي بوزيد، جميع المحافظات تقريبا، وشملت قرى صغيرة لم يسبق أن تحركت حتى أثناء الإضراب العام الذي دعا إليه الإتحاد العام التونسي للشغل (المنظمة النقابية الوحيدة) في 26 يناير / كانون الثاني 1978، و”انتفاضة الخبز” في 3 يناير / كانون الثاني 1984. وما فعله بوعزيزي لم يكن حركة غير مسبوقة، إذ سمع التونسيون عن أعمال يائسة مشابهة رغم أن وسائل الإعلام الرسمية ظلت تلفها بغلالة كثيفة من الصمت، أو تُقدمها بوصفها حوادث معزولة لا دلالة لها.
اضطرت الخصاصة بوعزيزي، خريج الجامعة، للعمل بائعا متجولا للخضر والفواكه من أجل إعالة أسرته. ولما طاردته الشرطة البلدية وضيقت عليه الخناق حاول مقابلة محافظ سيدي بوزيد أملا بإنصافه، فاحتُجزت عربته وتلقى صفعة من شرطية أهدرت كرامته، فأضرم النار في جسده وتوفي بعد نحو أسبوعين في مستشفى بالعاصمة متأثرا بحروقه. كان لذلك الفعل الخارق صدى بعيدا في الولايات المحرومة، سرعان ما أتى منها رجع الصدى. والعنصر الجديد الذي جعل خميرة التمرد تصل إلى كل المناطق يكمن في الأعداد المتزايدة من خريجي التعليم، وخاصة الجامعات، الذين أنهوا دراستهم ووجدوا أنفسهم فريسة للبطالة والخصاصة، إن في منابتهم الأصلية أم في مستقر الهجرة المؤقت في ضواحي العاصمة أو بعض المدن الكبرى الساحلية. هذا الجيل، الذي كان قطب الرحى في الانتفاضة الاجتماعية، هو بالتحديد أولئك الشبان الذين لم يعرفوا في حياتهم سوى نظام زين العابدين بن علي، والذين فتحوا عيونهم على شعاراته وإعلامه وبرامجه التنموية، إلا أنهم عاشوا واقعا أبعد ما يكون عن تلك الصورة الافتراضية التي لا ينفك يصنعها الإعلام المُوجه ويُروجها في الداخل والخارج.
انتحار وشهادات بلا جدوى
الرهان الأوربي والبطالة المزمنة
الحرب الالكترونية طعم الحرية
الاحتجاجات تتسرب من قبضة الشرطة
نافذة على وجه تونس الجديد
انتحار وشهادات بلا جدوى
والشابان اللذان انتحرا لدى انطلاق الانتفاضة في سيدي بوزيد، وهما محمد بوعزيزي (26 عاما)، وحسين الفالحي (25 عاما) الذي تسلق عمودا كهربائيا مُعلنا قرفه من العوز والبطالة قبل أن يتفحم، يرمزان إلى يأس ذلك الجيل الجديد ليس فقط من تحقيق أحلام المستقبل، التي تملأ صدر رأس كل شاب، وإنما حتى من تأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة. وإذا كانت الإحصاءات الرسمية تُقدر نسبة العاطلين بـ 14 في المائة من القوى التي هي في سن العمل، إلا أن الخبراء الاقتصاديين يؤكدون أنها تتجاوز 20 في المائة في المحافظات الداخلية، وتشمل 30 في المائة من الشبان المنتمين للفئة العمرية ما بين 15 إلى– 29 سنة. وتُعتبر هاتان النسبتان من أعلى نسب البطالة في العالم العربي، ما أوجد قطاعات واسعة من المحرومين والمهمشين الذين شكلوا وقودا للانتفاضة الاجتماعية في مختلف المناطق.
لكن الأهم هو ارتفاع نسبة المتعلمين والخريجين بين هؤلاء العاطلين، الذين شكلوا في السنوات الماضية اتحادا للخريجين العاطلين، إلا أن الملاحقات الأمنية والاعتداءات شلته. وبهذا المعنى فالعاطل التونسي يشكل أنموذجا خاصا لكونه ليس عديم التكوين ولا فاقدا للخبرة، بل إن مستواه العلمي يحول دون عثوره على فرصة للعمل. وخلال العقد الأخير، ارتفعت نسبة الباحثين عن وظائف من بين حملة الشهادات، من 20 في المائة من القوة العاملة سنة 2000 إلى 55 في المائة سنة 2009. وتُعزى تلك المفارقة إلى عدم مواءمة النظام التعليمي لمتطلبات سوق العمل، مما أفرز كتلة بشرية هامة من المهمشين الذين يدفع بهم القنوط إلى الانتحار.
غير أن إحدى السمات المُميزة لظاهرة البطالة في تونس، مقارنة بالمغرب والجزائر مثلا، هي أن مرونة العاطلين تمنحهم القدرة على إيجاد أعمال مؤقتة في قطاعات اقتصادية موازية، مثل بيع الخضار على العربات وغسل السيارات الخاصة والعمل في ورشات البناء، وهو ما أفرز متعلمين يقبعون في أسفل السلم الاجتماعي، ولا يتمتعون حتى بالحقوق التي يتمتع بها الباعة الدائمون أو البناءون العاديون.
وبالنظر لتشدد البلديات التونسية في فرض قوانينها وقراراتها بملاحقة أولئك الباعة الهامشيين يوميا، ما حمل محمد بوعزيزي على الانتحار في سيدي بوزيد، وقبله عبد السلام تريمش في المنستير، اعتبرها الخبراء الاقتصاديون أنها الأكثر تشددا من نظيراتها في الجزائر والمغرب (1). ورأى الخبير الاقتصادي الحسن عشي أن غياب المرونة حال دون جعل القطاع الموازي متنفسا لاحتقان سوق العمل في تونس. وقدر عشي نسبة “فرص العمل” البديلة المتاحة للخريجين في هذا القطاع بـ20 في المائة فقط في مقابل 40 في المائة في المغرب و45 في المائة في الجزائر و50 في المائة في مصر (2).
ومن الطبيعي أن انسداد الآفاق هذا يقود إلى الحلول اليائسة، خصوصا بعدما ساهم استفحال الأزمة الاقتصادية في أوروبا طوال العامين الماضيين في تراجع المراهنة على الهجرة غير الشرعية، التي كان قسم مهم من العاطلين الشباب يلجئون إليها، رغم المخاطر، للتخلص من مرارة البطالة والخروج من مآسيهم.
وفي مناخ مُحتقن كهذا، لا مجال فيه حتى للمخاطرة بالقفز إلى قوارب الموت بعد فقدان الأمل في الجنة الموعودة، تكاثرت ظاهرة الانتحار بوصفها علامة على القنوط ونتيجة لانسداد كافة السبل أمام قطاعات واسعة من الشباب. ويُقدر عدد المُنتحرين في تونس بألف شخص سنويا، وهي نسبة مرتفعة في بلد لا يتجاوز عدد سكانه 10 ملايين فرد، ما يعني أن هناك مواطنا واحدا يلجأ للانتحار من كل ألف مواطن، على رغم الموانع الدينية والاستهجان الاجتماعي والأخلاقي لهذه “الحلول”. ومن الأرقام ذات الدلالة في هذا المجال ما صرح به الدكتور أمان الله السعدي، الأستاذ في كلية الطب ورئيس قسم الإنعاش الطبي بـ”مركز الإصابات والحروق البليغة”، من أن 12 في المائة من الوافدين على المركز هي حالات تخص من حاولوا الانتحار. كما أفاد أيضا أن المركز سجل 280 حالة انتحار في 2010 منذ بداية العام حتى تشرين الأول/ أكتوبر فقط، أي بمعدل 28 حالة شهريا، أو حالة انتحار في كل يوم تقريبا.
الرهان الأوربي والبطالة المزمنة
نهض نمط التنمية الذي تم إرساؤه طيلة العقدين الماضيين على استثمار عنصر أساسي، هو الأيدي العاملة الرخيصة، لمنافسة البلدان المتوسطية المماثلة على استقطاب المستثمرين الأجانب. وركز نمط التنمية هذا على قطاعين أساسيين هما المنسوجات والملبوسات وتصنيع قطع الغيار الميكانيكية والكهربائية والالكترونية، التي تأتي مادتها الأولى من الخارج ثم تعود إليه، من دون الارتباط بحلقات إنتاجية أفقية. ومن هذه الزاوية، لا يحتاج هذا النمط من المصانع إلى ذوي التكوين العالي والكفاءة والمهارة، لأن هؤلاء سيتقاضون مرتبات مرتفعة، وإنما إلى سواعد رخيصة تضمن الضغط على كلفة الإنتاج. وتجاوز عدد تلك المصانع 5624 في 2010، من بينها 2717 مصنع مُصدر بالكامل، وهي تُشغل بين 10 عمال فما أكثر. (3).
والخلل البنيوي الآخر في هذا النمط التنموي اعتماده بصورة رئيسية على الأسواق الأوروبية التي تستأثر بنحو 80 في المائة من صادرات البلد، مما جعل أي ركود في الطلب الأوروبي ينعكس سلبيا بصفة آلية في الاقتصاد التونسي.
أما القطاع السياحي، الذي يشكل مصدر الدخل الثالث بعد الفوسفات والمكونات الكهربائية والميكانيكية، فلا يفتح بدوره آفاقا حقيقية لهؤلاء الخريجين لأنه يعتمد أيضا على ذوي المهارات المتدنية، وهو موجه أساسا للأوروبيين ذوي المداخيل المنخفضة والمتوسطة.
وبالإضافة إلى تلك الأسباب الهيكلية، هناك أسباب ظرفية زادت الوضع اختناقا والشبان ضيقا بحياتهم، في مقدمتها تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية التي عصفت بالدول الأوروبية في 2009، ما أثر تأثيرا مباشرا في الاقتصاد التونسي. وتجلى ذلك من خلال انكماش الاستثمار، وتراجع الإقبال السياحي، وانخفاض استهلاك الملبوسات والسيارات، مما فاقم من المصاعب التي واجهها الاقتصاد التونسي في 2009 و2010.
وأفادت إحصاءات رسمية أن الاستثمارات الجملية المُستحدثة في القطاع الصناعي تراجعت بـ20 في المائة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من 2010 مقارنة بالفترة نفسها من 2009 . لكن من المهم أن نعرف أن الاستثمارات الأجنبية في تونس تراجعت بين الفترتين بأكثر من 61 في المائة بحسب الإحصاءات نفسها (4).
ربما يمكن للدولة أن تمتص نسبة وإن ضئيلة من طالبي العمل، من خلال التوظيف في القطاع العام، إلا أن الاتجاه الجديد الذي تم إقراره بالاتفاق مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنصيحة منهما، هو التخفيف من دوره، وترافقت تلك الاختلالات الهيكلية مع اختلال هام آخر يتعلق بعدم التوازن التنموي بين المناطق الشرقية، الواقعة على الشريط الساحلي، والمناطق الداخلية، وظل هذا التفاوت الموروث من فترة حكم الرئيس الحبيب بورقيبة (1956 – 1987) يتعمق طيلة العقدين الماضيين. فبلغ حجم الاستثمار في قطاع الصناعة في المناطق الشرقية 689 مليون دينار(472 مليون دولار) في الأشهر الثلاثة الأولى من 2009 و 587 مليون  دينار (402 مليون دولار) خلال الفترة نفسها من 2010، فيما لم يتجاوز الحجم في المناطق الغربية، التي تُعتبر مناطق ظل، 258 مليون  دينار ( 177 مليون دولار) في 2009 و172 مليون دينار تونسي (118 مليون دولار) في 2010. بل إن التفاوت ظهر جليا حتى في نسبة التراجع بين مناطق وأخرى، إذ لم يتجاوز 15 في المائة في المحافظات الساحلية، فيما وصل إلى أكثر من الضعف (33 في المائة) في المحافظات الداخلية.
بهذا المعنى نفهم لماذا انطلقت الثورة الاجتماعية غير المسبوقة من الوسط الغربي، وانتشرت أساسا في المناطق المحرومة التي تُعاني من التهميش. وفي أجواء الشعور بالحيف الجهوي والغبن الساري بين أبناء تلك المحافظات المنسية، ترعرعت مُسوغات التمرد الجماعي، الذي لم يكن ينتظر أكثر من عود ثقاب، سرعان ما قدحه الشاب بوعزيزي بإقدامه على فعل تراجيدي شديد الرمزية، مكثف الدلالة، بعيد الصدى.
الحرب الالكترونية طعم الحرية
لا يكفي استعراض الأسباب الاجتماعية والاقتصادية للإحاطة بدوافع الانتفاضة، خاصة أن حركة احتجاجية مماثلة تفجرت سنة 2008 في منطقة الحوض المنجمي الواقع في محافظة قفصة (جنوب سيدي بوزيد)، تم تطويقها بواسطة تدابير أمنية وقضائية صارمة. والقاسم المشترك بين الحركتين ليس الانتفاض من أجل الحق في العمل وحسب، وإنما المطالبة بالعدل في توزيع التنمية على المناطق المختلفة. ولم يكن اللجوء إلى الشارع في الحالتين سوى الملجأ الأخير لإبلاغ صوت تحول البيروقراطية والانغلاق الإعلامي دون بلوغه إلى صناع القرار. بهذا المعنى أتت انتفاضة سيدي بوزيد ثمرة لعقدين من الاحتقان الذي لم يعد المواطن يجد في ظله من يسمع شكواه.
ويمكن القول إن جيل هذه الانتفاضة لم يذق طعم الديمقراطية ولم ينعم بتعددية أو بحريات منذ وصوله إلى هذا العالم، بينما أقنعته متابعته لوسائل الاتصال والإعلام الجديدة بأنه لا يقل أحقية ولا تأهيلا عن الشعوب الأخرى في ممارسة الديمقراطية. ولذلك لاحظنا أن مطالب التشغيل والتنمية العادلة تتداخل مع المطالب السياسية، سواء في سيدي بوزيد أم في المدن والقرى التي امتدت إليها الاحتجاجات. فالحكم ظل معزولا عن الشباب رغم أنه حاول طيلة السنوات الأخيرة استمالتهم وتحفيزهم على الانخراط في الهياكل الحزبية والمنظمات الموازية، بما في ذلك منحهم امتيازات مادية. وأظهرت دراسات ميدانية أعدتها مؤسسات رسمية أن الشباب يُعرض عن النشاط السياسي والاجتماعي، ولا يكترث حتى بقراءة الصحف، فضلا عن قراءة الكتب. وشكلت تلك الدراسات تحذيرا للسلطات من عقم سياسة التدجين والتطويق المُنتهجة مع الشباب. إلا أن الدرس المُستخلص منها ذهب في الاتجاه العكسي، إذ أعلنت الدولة سنة 2009 سنة للشباب، وأوجدت في سياقها برلمانا صوريا للشباب، بعد تنزيل سن الانتخاب من 20 إلى 18 سنة. وكانت تلك الإجراءات بمثابة المساحيق التي لم تجتذب الشباب، إذ ظلت المسافة تتعمق بين الجانبين، وطفت تلك القطيعة على السطح عندما اندلعت حرب الكترونية بين أجهزة الحكم وفئات نشطة من الشباب، مازالت فصولها مستمرة إلى اليوم.
بدأت الحرب بقصف مواقع الكترونية منتقدة أو ساخرة وتطورت إلى اعتقال مدونين شبان وإقفال البريد الالكتروني لآخرين، من أجل قطع الشباب عن العالم الخارجي، وخاصة عن حركة التدوين الجريئة في العالم العربي، وتحديدا في مصر. وكان الحكم يخشى، مع انتعاش الحركة النقابية في بعض الجامعات، أن تستعيد الحركة الطلابية الزخم الذي عرفته أيام العهد البورقيبي، وتتحول إلى قوة رفض يصعب ترويضها. لكن لم يتوقع الحكم أن يخرج الشبان بتلك القوة والكثافة إلى الشوارع خلال الانتفاضة، إذ كانوا العمود الفقري للمظاهرات، وإن لوحظ أيضا أنها لم تقتصر عليهم، وإنما شارك فيها أيضا المدرسون والموظفون والنقابيون وكوادر بعض الأحزاب السياسية.

الاحتجاجات تتسرب من قبضة الشرطة
خلافا للحركة الاحتجاجية التي اندلعت في منطقة الحوض المنجمي في محافظة قفصة سنة 2008، اخترقت الحركة الاجتماعية في سيدي بوزيد الحدود التي أريد حصرها فيها، وانتشرت في المحافظات المجاورة لتمتد إلى أرخبيل قرقنة شرقا وبن قردان جنوبا وجندوبة شمالا. وكانت في مقدمة العوامل المُحرضة على التظاهر في تلك المدن الرسائل المتناقلة بواسطة الإنترنت والصور المتبادلة عن طريق “فيس بوك”، حتى أن الدعوة للمظاهرات كانت تنطلق أحيانا من “فيس بوك” لتتناقلها ألسنة الناس وتشيع في أنحاء المدينة أو القرية. إنها ثورة معلوماتية جديدة فرضها الشباب على السلطات فرضا، فاستطاعت الالتفاف على جميع الحواجز وتدمير قواطع الرقابة التي كانت تصادر صحيفة وتحجب مدونة وتقطع خط هاتف جوال.
لم يكن هذا العنصر حاضرا بمثل هذه القوة خلال هبة الحوض المنجمي، ما سهّل على السلطات الأمنية السيطرة على الوضع هناك واتخاذ إجراءات انتقامية بعد تهدئة التوتر، بما فيها سجن من اعتبرتهم “رؤوس الفتنة” ومحاكمتهم. وتقودنا هذه الملاحظة إلى محاولة تبين موقع انتفاضة سيدي بوزيد من الحركات الاجتماعية السابقة في تونس، وكذلك مواطن التشابه والاختلاف بينها وبين هبة الحوض المنجمي القريبة منها زمنيا.
لا خلاف على أن منطلق حركات التمرد الشعبية خلال نصف القرن الأخير كان اجتماعيا، وإن تحولت في كثير من الحالات إلى صدام سياسي مع السلطات، فالإضراب العام الذي شنه الإتحاد العام التونسي للشغل في 26 كانون الثاني / يناير 1978 كان، رسميا، للدفاع عن حرية العمل النقابي في وجه الحزب الحاكم. إلا أنه لم يكن بعيدا عن الصراع على خلافة الرجل العجوز الحبيب بورقيبة، والتي كان الحبيب عاشور، زعيم الإتحاد وغريم الرئيس الراحل، أحد فرسانها البارزين. وأتت الانتفاضة الثانية الكبرى التي سُميت بـ”انتفاضة الخبز”، والتي اندلعت في أواخر 1983 وانتهت يوم 4 كانون الثاني / يناير الموالي، ردا شعبيا عارما على الزيادة في أسعار الخبز، ولم تهدأ إلا بعدما خاطب بورقيبة المواطنين عبر التليفزيون ليُعلن إعادة الأسعار إلى ما كانت عليه قبل الانتفاضة. وكانت انتفاضة الحوض المنجمي (2008) آخر الحركات الجماهيرية التي قادها نقابيون، وإن كان زعماء تلك الانتفاضة مُجردين من مسؤولياتهم النقابية لدى اندلاعها بقرار من قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل، قبل الرجوع عن القرار والمطالبة بإخلاء سبيلهم. أما انتفاضة سيدي بوزيد فأتت ممن هم على هامش الدولة والهيئات النقابية والسياسية، إذ لم يجد هؤلاء الشباب محلا لهم من الإعراب في التوليفة الجديدة التي آلت إليها تونس بعد 23 سنة من “عهد التغيير”، والتي لم تمنحهم الوظيفة ولا لقمة العيش ولا حتى الحد الأدنى من الكرامة.
غير أن الانتفاضة سحبت إليها في زخم أمواجها صغار الأجراء والفئات الوسطى خاصة في المناطق الواقعة وراء خط الفقر المُمتد من محافظة جندوبة شمالا إلى محافظتي قبلي وتطاوين جنوبا. وعلى الرغم من أن مركز ثقل الانتفاضة ظل طيلة نحو شهر متمحورا في منطقة الوسط الغربي (سيدي بوزيد والقصرين)، فاللافت أنها اجتاحت أيضا محافظات تُعتبر محظوظة نسبيا مثل صفاقس وبنزرت وسوسة. وهذا يعني أن انتفاضة سيدي بوزيد ارتدت طابعا وطنيا شاملا خلافا لجميع الهبات السابقة في عهد بن علي، وآخرها هبات قصيرة الأمد اندلعت في كل من الصخيرة وبن قردان وجبنيانة وقصر قفصة بنفس الكيفية وتحت نفس الشعارات خلال العامين الماضيين، وهو دليل على أن العناوين التي طرحتها انتفاضة سيدي بوزيد كانت نابعة من شعور عام بالضيم وغياب الحرية يسود جميع المناطق بلا استثناء. وهذه سمة أولى بارزة كانت لها تداعياتها في قرارات الحكومة التي لم تستطع التعاطي معها كقضية مناطقية، مثلما فعلت مع منطقة الحوض المنجمي.
أما السمة الثانية، فكانت متصلة ببعض الآثار الإيجابية لحركات العولمة التي منحت الانتفاضة القدرة على إيصال صوتها وصورتها إلى العالم ساعة بساعة تقريبا، ومكنت المناطق الأخرى من مواكبتها والتجاوب الفوري معها. فما أن سمع الناس بمجزرة القصرين وتالة والرقاب يومي 8 و9 كانون الثاني / يناير حتى سارت المظاهرات في شوارع سوسة وصفاقس، وأعلن النقابيون إضرابا عاما في صفاقس يوم 10 من الشهر الجاري. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الانتفاضة الحالية اتسمت بكثرة عدد المدونين الذين تلاحقهم السلطات بالاعتقال وضرب المواقع ومصادرة الحواسيب، بعدما أدركت خطورة دورهم في تغذية التمرد.
والسمة الثالثة، هي أنها استفادت من تأطير الكوادر السياسية والنقابية الوسطى في مختلف المدن والقرى، خلافا لبعض التحاليل التي أكثرت من الحديث عن “غياب التأطير السياسي”. ويكفي استعراض أسماء اللجنة التي قادت التحركات في بوزيد على إثر انتحار محمد بوعزيزي لندرك ثقل الحضور السياسي، ناهيك عن أن الناطق الرسمي باسمها (الذي اعتقلته السلطات ثم اضطرت لإطلاقه) هو عضو قيادي في الحزب الديمقراطي التقدمي المعارض.
وفي هذا السياق ظهر تمايز بين الأحزاب السياسية خلال هذه الانتفاضة بين من انتظر تمييز الخيط الأبيض من الأسود، ومن بادر إلى اتخاذ خطوات عاجلة لحمل الحكومة على الاستجابة لمطالب المنتفضين، على غرار المؤتمر الصحفي الذي عقدته قيادة الديمقراطي التقدمي في اليوم الثامن من اندلاع الأحداث للمطالبة بإقالة وزيري الداخلية والإعلام وإفساح المجال أمام مسؤولي لجنة الانتفاضة لمخاطبة وسائل الإعلام الدولية. وارتقت المعارضة إلى مرحلة أعلى لما توافقت على التنسيق بين تياراتها المتنافسة واتخذت موقفا مشتركا في 9 كانون الثاني / يناير طالب الحكم بوقف إطلاق النار على المتظاهرين وسحب قوات الجيش والشرطة إلى الثكنات. وهذا وجه من وجوه تأثير الحركة الجماهيرية الإيجابي في إنضاج شروط الانتقال من مرحلة إلى أخرى في تاريخ البلد.
غير أن الأحزاب السياسية لم تلتقط شعارا مركزيا في المظاهرات التي جابت مدن البلاد، والذي تردد بقوة حتى في التجمعات النقابية في قلب العاصمة، وهو مكافحة الفساد ومحاسبة العائلات المتنفذة المتهمة بسرقة ثروة البلاد. ربما تهيبت المعارضة من طرح هذا الملف على الساحة العامة، لكن ذلك لم يمنع المنتفضين من كسر المحظورات ووضع الإصبع على قضية ظلت شغلا شاغلا لفئات مختلفة، بمن فيها فئة من رجال الأعمال، من دون القدرة على ملامسة هذه الصفيحة الحارقة.
نافذة على وجه تونس الجديد
مجمل القول أن الانتفاضة التي اندلعت شرارتها من سيدي بوزيد كانت غير متوقعة من حيث التوقيت والمضمون والأشكال. وكان الحكم يعتقد أنه أفلح في استخدام الأساليب الوقائية التي فككت مصادر المعارضة السياسية والنقابية وسدت جميع منافذ التمرد وأقفلت المجال الإعلامي ومساحات الحركة التي كانت متاحة للمجتمع المدني. غير أن تلك العسكرة لم تؤد سوى لمزيد من العنف لدى فيضان الكأس بنزول قطرة انتحار الشاب بوعزيزي على سطحها.

بهذا المعنى غيرت الانتفاضة وجه تونس لأنها فتحت الأفق أمام تغييرات سياسية ومؤسسية إذا ما اقتنصت المعارضة الفرصة التاريخية المتاحة بعد هذا الزلزال الاجتماعي غير المسبوق. ومن المؤكد أن المعارضة تذكر حصاد الصك الأبيض الذي أعطي للحكم الجديد بعد الإطاحة بالرئيس الراحل الحبيب بورقيبة سنة 1987، لما تتعاطى مع مستجدات 2011 وما سيتلوها.
باحث وإعلامي مختص في الشأن المغاربي

المراجع
(1) Lahcen Achy:  Los Angeles Times – 27 décembre 2010.
(2) Lahcen Achy: Lexpress.fr – 8 janvier 2011
(3) تقرير سنوي لوكالة تطوير الصناعة (حكومية).
(4) المصدر نفسه.
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى