ثورة تونسصفحات العالم

جمهورية الغد التونسية

محمد المصري
إن ما أنجزه الشعب التونسي، سوف يكون موضعًا للكثير من الدراسات والأبحاث والتحليل، حيث استطاع تحدي وإسقاط واحد من أكثر الأنظمة بوليسية وقمعًا.
فطبيعة النظام التونسي تجلت من خلال الاعترافات المتتالية لابن علي في آخر خطاب ممنتج له عندما قرر استعادة بعض مفردات اللهجة التونسية وهو نظام أمني بامتياز أطبق على الحريات الفردية والمدنية، والنخبة الحاكمة التي “غالطته” جاءت من خلال شرعية ولائها لابن علي نفسه ولم تأت من خلال صناديق الاقتراع.
إنه نظام قائم على إطلاق يد الأمن في المجتمع التونسي. نظام صادر حرية الصحافة واحتل المجال العام ولم يبق على منظمات مدنية أو سياسية مستقلة وقادرة على النشاط. نظام أسس لمفهوم العائلات الحاكمة اقتصاديًّا وأمنيًّا. إن الأمر الوحيد الذي خلا منه خطاب ابن علي هو اعترافه بأنه كان رئيسا غير كفء وصاحب مشروع فاشل.
فالنظام التونسي وبعيد فترة انفتاح سياسي نسبي استمرت مدة عامين (1987- 1989) استطاع أن يؤسس لنظام أمني بامتياز، بالترافق مع تدمير ممنهج للقوى السياسية والمدنية في المجتمع التونسي من خلال الاعتقال أو التشريد. أسس ابن علي دولة مرتكزة على جهاز أمني ضخم يضم أكثر من 130 ألف فرد، فلكل مائة تونسي يوجد 1.3 عنصر أمن، وبمقارنة بسيطة مع فرنسا فإن هنالك عنصر أمن واحدا لكل 550 فرنسيا. ناهيك عن الشرطة السرية غير المعروف عددها والمتخصصة في ملاحقة الناشطين السياسيين والمدنيين وغيرهم من الحقوقيين والنقابيين أو من تسول لهم أنفسهم أن يعبروا عن آراء غير متطابقة حرفيًّا مع الخط العام للحكم من قضاة أو محامين أو صحفيين.
ولم تكتف الدولة بما أقرته من تشريعات وقوانين للحيلولة دون أي نشاط سياسي أو مدني بل طورت أساليب عملية أخرى قائمة على بث الرعب في نفوس المواطنين، فاعتمدت أساليب المتابعة والمراقبة العلنية والدائمة للنشطاء من قبل رجال أمن بملابس مدنية إضافة إلى أسلوب محاصرة بيوت النشطاء ومقار المنظمات المدنية والسياسية.
إن الاعتداء على النشطاء من قبل الشرطة السياسية باللباس المدني كان أيضا من الوسائل المتبعة باستمرار. ولذا فإن قيام السلطة باستخدام فرق القناصة أو الاستعانة بفرق من الملثمين، أثناء الاحتجاجات الشعبية يقومون بأعمال نهب وتدمير ليصوّروا حركة الاحتجاج على أنها حركة فوضوية، لم يكن مستغربًا بل هو تطور طبيعي لأسلوبها الأمني.
وتكريسًا لأمننة المجتمع التونسي وإرهابه، كان النظام يقوم بتلفيق التهم أو التشهير الكاذب. فالنشطاء العلمانيون عادة ما يواجهون قضايا حيازة مخدرات أو تهريب بضائع أو مخالفات مالية والنشطاء الإسلاميون عادة ما يواجهون قضايا تتعلق بالإرهاب أو دعم الإرهاب. وكان صاحب أي عمل خاص أو مهنة يقترب من الإطار العام للنشاط السياسي أو المدني يعاقب برزقه، حيث يُهدد المتعاملون معه بالعقاب إذا ما استمروا في التعامل معه. لقد كان التونسيون يتندرون بأن لكل مواطن في دولة ابن علي نشرة أمنية مرفقة بنشرة أحواله الشخصية.
هذا بالإضافة إلى وضع يد جهاز الأمن على كافة مفاصل الحياة المدنية والسياسية للأفراد، فقد أطبق الحكم في تونس سيطرته على كافة وسائل الإعلام والاتصال من خلال تعريض الصحفيين للمضايقات نفسها التي يتعرض لها النشطاء إضافة إلى وضع قائمة طويلة من المواضيع المحظور على الصحافة التطرق إليها مثل أخبار الرئيس وأسرته وأعوانه ونشاطاتهم الاقتصادية، أو أي أخبار إيجابية عن علمانيين أو إسلاميين ليسوا جزءًا من نظام الحكم.
وبالإضافة إلى تزويد الصحفيين بكافة أساليب الرقابة الذاتية، فإن جهاز الدولة الأمني يقوم بزيارات مفاجئة للمطابع لقراءة ما تنشره الصحافة وله صلاحيات مصادرة المواد المنشورة. وقد وصلت الأمننة حدها الأعلى من خلال الوكالة التونسية للإنترنت (ATI) الموزع والمزود الرئيسي للإنترنت التي تقوم بمراقبة الشبكة وتحجب بين الفينة والأخرى مواقع الفيسبوك واليوتيوب، بل تراقب البريد الإلكتروني.
وفي الإطار نفسه فإن حرية التنظيم السياسي والمدني كانت أيضا تحت سيطرة مطلقة من قبل الدولة الأمنية فتأسيس حزب سياسي يكاد يكون مستحيلاً وهو أمر مرهون بموافقة شخصية من الرئيس أما الجمعيات والمنظمات فتؤسس ضمن قانون مقيد لعملها، وبنصوص قانونية تمنع أن تكون أهدافها سياسية، وتشترط أن لا تكون “مخالفة للقوانين والأخلاق الحميدة”، الأمر الذي يتيح للسلطة استخدام النصوص القانونية الفضفاضة من أجل الإطباق عليها متى شاءت.
ولقد قام النظام من خلال عملية مزدوجة باحتواء المنظمات المدنية والسياسية التي كانت موجودة قبله كما جرى عام 1989 من تصعيد قيادة جديدة للاتحاد العام للشغل لتصبح هذه القيادة تحت سيطرة السلطة وامتدادًا لها، كما قام بتدمير وقمع المنظمات المستقلة التي تريد المحافظة على استقلالها.
لقد عملت دولة ابن علي على السيطرة المطلقة على المجال العام، وهو ما أدى إلى القضاء عليه وتحويله إلى مجرد امتداد تتم فيه إعادة إنتاج الخطاب الرسمي بلهجات وأشكال مختلفة وصور مختلفة. إن النخب الحاكمة وفي إطار انسحاب الدولة من التنمية الاقتصادية تحولت إلى لاعبين في المجال الاقتصادي بحيث أصبحت هذه النخب تحتل هذا الجزء من المجال الخاص بين المواطنين والدولة مرتكزة على سلطتها وقدرتها الأمنية، بحيث أصبحت ممارسة النشاط الاقتصادي مرهونة بعلاقات أو مشاركات كبار الاقتصاديين والنخب الحاكمة.
إنه عالم يبني دولة جديدة ترتكز السلطة فيها بأيدي حفنة من العائلات المتنفذة من خلال أذرع اقتصادية واجتماعية ومدنية وكذلك سياسية وأمنية هو دولة شمولية بامتياز لا مجال فيها حتى للنشاط الاقتصادي الخاص دون علاقات رضوخ وولاء ورشوة لهذه العائلات.
وبمقابل هذه الأمننة المطلقة فإن وعد ابن علي ببناء “جمهورية الغد” كان نتاجه متواضعًا جدًّا فالاقتصاد التونسي تحول من اقتصاد إنتاجي إلى اقتصاد شبه ريعي يعتمد أساسًا على موردين داخلي وخارجي هما السياحة وتحويلات العاملين في الخارج وغير قادر على إيجاد فرص عمل للمواطنين أو تحقيق الرخاء الاقتصادي، فالترجمة الحرفية لجمهورية الغد هي جمهورية الأمننة والنكوص الاقتصادي والفساد. إن الأمر الوحيد الذي استطاع ابن علي الترويج له على الأقل دوليًّا هو جمهورية أمنية مستقرة تمثل نموذجًا في محاربة “الإرهاب”.
في إطار تونس، ودول عربية أخرى حين تحتل الدولة المجال العام وتحوله إلى مجرد ساحة لصدى خطابها، وفي دولة تحول فيها مؤسسات الدولة من سلطة تشريعية وقضائية إلى مجرد أجهزة تنفيذية للأجندة الأمنية. وفي ظل دولة لا يجد المواطن منظمات وهيئات مستقلة تدافع عنها، يصبح الحل الوحيد للمواطنين هو التحرك الشعبي العفوي الذي سرعان ما يتحول إلى تحرك بأجندة سياسية.
وبالفعل فعلى مدار أقل من شهر أسس الشعب التونسي لمرحلة جديدة في تاريخ تونس على وجه الخصوص، وفي تاريخ المنطقة العربية. فالاحتجاجات العفوية ذات المحتوى الاجتماعي والمطلبي سرعان ما تحولت إلى ثورة شعبية ذات أجندة سياسية واضحة عنوانها الرئيسي: تغيير نظام حكم الرئيس التونسي زين العابدين بن علي عبر عنها من خلال مجموعة من الشعارات الانتقالية مثل: إطلاق الحريات العامة والمدنية والسياسية ومحاكمة المفسدين، وحل مشكلة البطالة.
إن إصرار الشارع التونسي على الاستمرار في الاحتجاج واتساعه ليشمل كافة جهات التراب التونسي، أفقد النظام الميزة النسبية لاستخدام العنف والقمع بما فيها استخدام فرق الموت (القناصة) التي استهدفت المتظاهرين وغيرها من أساليب الاستجداء والوعود التي أطلقها النظام في أيام احتضاره الأخيرة.
إن استمرار الاحتجاجات أدى أيضا إلى انقسامات داخل النظام التونسي بدأت حين أعاد الاتحاد العام للشغل تجربته بقيادة الحبيب بن عاشور في 26 يناير/ كانون الثاني 1978 وقرر في الأسبوع الأخير من حركة الاحتجاج الخروج من مظلة نظام ابن علي والانتصار للمتظاهرين. إن اتحاد العمال الذي يتمتع بإرث تاريخي محترم بسلوكه هذا قد أعطى أفقًا للانتفاضة الشعبية، لقد أصبح بمثابة البديل الممكن لهيكل النظام السلطوي.
لم ينقسم المجتمع التونسي على نفسه عندما خاض معركته مع السلطة، بل على العكس من ذلك فالذي عانى من الانقسام هو النظام الأمني الذي سرعان ما انفض عنه الجيش وحلفاؤه التقليديون.
وكما أطاح الشعب التونسي بالنظام، فقد أطاح ببعض وجهات النظر التي كانت تتداول باعتبارها مسلمات. فانطلاق شرارة التغيير من تونس كان عكسًا لتوقعات الباحثين والمراقبين. فنظام الحكم البوليسي بتونس كان يعتبر الحلقة الأصعب والأبعد عن عجلة التغيير في المنطقة العربية، وكانت الأنظار تتجه إلى أن مبادرة التغيير ستبدأ في دول عربية أخرى تتمتع بانفتاح نسبي.
كما أن ثورة التونسيين قد أطاحت بوجهة نظر بعض الباحثين الذين روجوا لما يسمى “بالخصوصية العربية”، التي ادعت أن الشعوب العربية نتيجة لخصوصيات ثقافية واجتماعية لم ولن تأخذ طريقها إلى الشارع لتقوم من خلال ثورات شعبية بإطاحة أنظمة سلطوية، ولن تكون قادرة على صناعة التاريخ والانتقال بدولها من السلطوية إلى الديمقراطية. ولعل أصحاب وجهات النظر هذه ينكبون اليوم على إعادة تقييم أدائهم.
ولعل ثورة تونس قد تؤسس لموجة رابعة من التحول الديمقراطي في المنطقة العربية وغيرها من دول العالم التي لم تستطع مجتمعاتها الالتحاق بالموجة الثالثة للديمقراطية التي بدأت منذ السبعينيات من القرن الماضي ومضت لتشمل دول أوروبا الشرقية. وقد بدأت شرارة الثورة في تونس -كما هي حال الثورات منذ الثورة الفرنسية في العصر الحديث مرورًا بالثورة الروسية والثورة الإيرانية- من الولايات الداخلية وهي المناطق الأكثر حرمانًا والأفقر والأقل استفادة من الخدمات التعليمية والرعاية الصحية.
وبالفعل فإن التغيير لم يكن بقيادة الطبقات الوسطى أو الفئات المثقفة، ولم يبدأ التغيير في المجتمعات الأكثر اتصالاً بالعالم الخارجي أو التي استفادت من برامج تدريب وتأهيل قامت بها منظمات دولية لتدريب المواطنين على الممارسات الديمقراطية، بل بدأت في مجتمعات هي الأكثر محافظة.
إن الأنظمة العربية اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما مزيد من الأمننة على نهج نظام ابن علي البائد، وإما الانحياز إلى رغبات مواطنيها في الحرية والديمقراطية ومحاربة الفساد.
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى