أمن من أمن؟
ميشيل كيلو
لا شك في أن أمن كل دولة في المنطقة العربية والإقليم المجاور لها هو من أمن بقية دولها . أمن الدول كان ويبقى وسيظل مترابطاً ما دامت هناك دول ومصالح .
ومع أن مفهوم الأمن اكتسب أهمية متزايدة في عالمنا العربي بعد قيام كيان غريب وعدواني في القلب منه هو “إسرائيل”، فإن قراءاته ليست دوماً صحيحة، خاصة في لغة القوى الكبرى الإقليمية، التي تعتقد أن أمن الآخرين ملحق بأمنها، وأن لها الحق في تحديده بالنيابة عن الدولة المعنية أو كما يحلو لها، ولها تالياً حق التدخل المفتوح في شؤونها، وفي اعتبار مجالها السيادي تابعاً لإرادتها الخاصة، فهي يجب أن تكون في نظرها دولة من واجبها ضبط أمورها لكونها مساحة يجب أن تبقى مفتوحة أمامها .
مثل هذا المفهوم تمارسه بصورة خاصة “إسرائيل”، التي نقلت عدواه إلى غيرها من الدول الإقليمية الكبيرة، فهي ترى أن أمنها يتطلب منحها القدرة على صياغة أوضاع الآخرين بالطريقة التي تناسبها، وأنها يجب أن تحدد أنماط حكمهم وعدد عساكرهم وطريقة إنفاق موازناتهم، ودرجة تطورهم العلمي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ومستوى جامعاتهم، بل نمط معيشة مواطنيهم، بحجة أن هذا كله ينضوي في أمنها، الذي يلغي، كما قلت، حدود بقية الدول واستقلالها وحرية قرارها .
تتعاظم حاجة الدول إلى الأمن في ظل النظام الدولي الراهن، الذي مسحت بعض بلدانه السيادة الوطنية والقومية عند غيرها من بلدان العالم، بعد أن مكنتها منجزات الثورة العلمية/التقنية التطبيقية، وهيمنتها العالمية: السياسية والاقتصادية والأيديولوجية، من التحول إلى ما يسمونه دول/عالم، تلعب في واقع الحال دوراً يتخطى حدودها بكثير، وتعمل على ضبط حركة غيرها عبر التدخل في كل كبيرة وصغيره لديه، بما في ذلك تعيين بعض رؤساء بلديات القرى المنسية هنا وهناك . بما أن أمن الدول الحديثة النشوء والصغيرة يعني استقلالها بمجالها السيادي الخاص وتقرير شؤونه من دون تدخل من الغير، فإنه يعني في الوقت نفسه تقليص أمن من يعتبرونها تابعة لأمنهم، وهنا تنشأ المشكلات، التي تتسمم دوماً بحدة خاصة، كسائر المشكلات أمنية الطابع، والتي حولت عالمنا وحياتنا إلى ساحة مفتوحة أمام شتى الصراعات، وتتوقف عليها مكانة الدول في عالم يفرض الكبير مصالحه فيه على الصغير، والقوي أمنه على الضعيف .
لو كانت جملة أمن الجيران من أمن بعضهم بعضاً تعني ضرورة بلورة مفاهيم مشتركة للأمن تتوافق عليها الأطراف المختلفة، بحيث يقوم بينها تفاعل وتكامل أمني تسهم جميعها في تعيين أسسه ومبادئه وميادينه وشروط تطبيقه، لهانت الأمور، ولكننا أمام حالة صحية من العلاقات الدولية . لكن المشكلة تكمن في ممارسة مدروسة تريد إلزام الآخرين بأمن يفرضه عليهم من هو أقوى منهم، فكأن هذا القوي يقول للضعيف: أمني من أمنك وأمنك من أمني، وهو يعني أن من حقي أن أقرر أمنك وحدوده ومعناه باعتباره فرعاً من أمني الخاص، الذي لا يجوز أن تتدخل أنت فيه، لأن أمني من أمنك . هنا، نجد أنفسنا أمام مفهوم للأمن يضمر العدوان، يقوم على علاقة أحادية الجانب تجافي الأمن بمعناه الحقيقي، تعطي طرفاً معيناً، قوياً أو عدوانياً في الغالب، حق التدخل في استقلال وسيادة طرف أصغر أو أضعف منه، خاصة عندما يمد مفهومه الأمني إلى السياسة فيجد الطرف الضعيف نفسه مجبراً على انتهاج سبل لا تناسبه أو تخدم مصالحه، فتفرغ الذريعة الأمنية البلد الآخر من سيادته وتجعل منه بلداً تابعاً لسواه، وتتخطى الأمور عندئذ الأمن إلى مجال السيادة كله، ويضيع استقلال الدولة الضعيفة بحجة الحفاظ على أمن غيرها، وهنا الطامة الكبرى، التي يواجهها عالمنا العربي في سائر أقطاره وأمصاره .
أمن الدول من أمن بعضها بعضاً، لكن الأمن انضوى دوماً تحت حيثية السيادة، بينما الحالة التي نعالج تقلب الأمور رأساً على عقب، عندما تضع السيادة تحت حيثية الأمن، وتجعلها تابعة لها، وتعدها فرعاً ثانوياً وقليل الأهمية منها . وزاد الطين بلة، في هذا التطور، تدني قيمة الدولة وما يتطلبه وجودها من استقلال وسيادة تامين، وتعاظم مكانة السلطة على حسابها في معظم بلداننا العربية، حتى صار الخطأ والصواب على علاقة بسلامة السلطة وبالمخاطر التي تهددها فقط، فما يخدمها يعد سليماً وصحيحاً من الناحية الأمنية وإن هدد استقلال الدولة، وما يؤذيها يعتبر خطيراً من الناحية الأمنية، حتى إن كان لا يمس سيادة واستقلال الوطن أو يعززهما . ويزيد الأمور تعقيداً تداخل سياسات وأنشطة السلطة والدولة، والجهات الممسكة بأعنتهما، وما عرفته السنوات الخمسون المنصرمة من غموض في مفاهيم وممارسات السياسات، التي صارت تتسم بالتقلب والتخبط وعدم الثبات، خاصة في الدول الصغيرة التي تجد نفسها في مناطق تجاذب تتقاسمها دول وبلدان أكبر منها وأكثر قوة بكثير، مما يفقدها في أحيان كثيرة القدرة على بلورة مفاهيم دقيقة لأمنها، وعلى تعريفه وتعبئة قوى ذاتية كافية قادرة على ممارسته باستقلالية ولصالحها . وقد كان جلياً على الدوام، خاصة في العصر الاستعماري وعصور الصراعات الدولية الكبرى، أن تفاهم دول صغيرة أو تحالفها مع دول أكبر منها، فرض في أحيان كثيرة نوعاً من الترتيب الأمني شاهدنا عينات وافرة منه خلال صراع المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، حيث كان أمن دول كل معسكر من أمن دولته القائدة: أي روسيا وأمريكا، وكان كل بلد ملزماً بترك أمنه لتقاطعات قرر الكبير سبل التعاطي معها، ولم يجد الصغير بداً من تقديم الحصة التي قررت له في الخطة الأمنية التي اعتمدها غيره وفرضها عليه .
هناك في هذا السباق مشكلة جدية، تتجلى أحياناً في تضحية الكبير بأمن الصغير، إما لتحقيق هدف يخصه، أو كي ينجو هو بجلده، أو يعقد صفقة ما على حسابه، مع كبير مقابل له . في هذه الحالة، لا يكون أمن الآخر نقيض السيادة فقط، بل يكون نقيض الوجود أيضاً . وكم من دول ضاعت بين أرجل كبار تصارعوا في ما بينهم، وجعلوها تدفع هي الثمن .
تفاقمت المشكلة الأمنية في منطقتنا خلال العقود الأخيرة، حتى تعقدت وتداخلت مع مشكلات لطالما قيل إنها مستقلة عنها . ولا شك في أن تأثير “إسرائيل” في العرب كان مأساوياً في هذا المجال، الذي قلب مسألة فرعية إلى قضية تكثف سائر قدرات وطاقات الدولة والمجتمع في معظم دولنا العربية والدول المجاورة لها، بدل أن تكون هي وظيفة من وظائفها، تترتب عليها، ولا توجد لخدمتها أو لأن تعمل وتتفاعل مع الواقع بدلالتها وحدها، كما هو حالنا اليوم .
يغلب على فهم الأمن العربي جانب يجعل منه أمن السلطة . في عالم تتفاقم صراعاته وتتعاظم فيه أحجام وقدرات الأطراف المتصارعة، كثيراً ما يكون هذا الفهم سبباً في ضياع أي أمن .
الخليج