هل المشكلة في الأقليات أم في الأكثرية؟
د. منير شحود
من بين المشكلات الاجتماعية التي لا تعد ولا تحصى يجري الحديث عن مشكلة الأقليات في العالم العربي، أقليات إسلامية أو مسيحية أو قومية. وإذا كانت هذه هي الحالة الغالبة فإن ثمة سؤال مقابل قد تطرحه الأكثرية التي تعاني من مشكلات مع الأقليات. لكن المشاكل الاجتماعية نفسها توجد أيضاً، وبنفس الحدة تقريباً، في البلدان التي لا توجد فيها أقليات وأكثرية. فهل المسألة هي مسألة أقليات أو أكثرية أم أنها أعمق من ذلك، وليس طرحها بهذه الصيغة سوى اختصار للأزمة أو الأخذ بأحد تجلياتها وحسب؟
كان التعايش موجوداً كقاعدة عامة في البلدان التي تحتوي على أقليات حتى تاريخٍ قريب، ولكن عدم اكتمال عملية الانصهار الوطني بين مختلف شرائح المجتمع في البلدان العربية، أفسح المجال لتداخلات خارجية أو داخلية ساهمت في إظهار هذه المشكلة بحدة.
إن طرح السؤال حول مشكلة الأقليات أو الأكثرية في مجتمعاتنا يخفي وراءه الأسباب الحقيقية، وهذا ما نحاول تلمسه في هذه السطور. وبمعرفة الأسباب يمكن إيجاد المدخل المناسب لاقتراح المعالجات الناجعة لحل هذه المشكلة.
نظراً لعدم إنجازها عملية الانصهار الوطني تحت مبدأ المواطنة، عملت النظم الحاكمة على إثارة التناقضات في مجتمعاتها، سواء بصورة مباشرة أم غير مباشرة، فبدت المشكلة وكأن مكونات المجتمع غير قابلة للتعايش فيما بينها، وبالتالي تبدو هذه النظم وكأنها ضرورة للحفاظ على الوضع القائم بحيث لا يصل إلى حد الانفجار، وهذا هو المطلوب منها أمام الحلقة الأكبر، أي الدول المهيمنة عالمياً.
النتيجة الحاصلة الآن، والتي يجب أن لا تحجب عنا الأسباب الحقيقة مرة أخرى، هي أن الصراع قد انتقل أو نُقل في بعض البلدان إلى القاع الاجتماعي، حيث يدور الجميع بحلقات من ردود الأفعال. وقد بدأت تلك التناقضات بالتكشف أينما تيسر لها ذلك، فيجري تفجير الكنائس والجوامع، كما في العراق، وحادثة تفجير الكنيسة الأخيرة في الإسكندرية بمصر، وانفصال جنوب السودان المرتقب…الخ.
ولكن، من جهة ثانية، يبدو أن السنة والشيعة في العراق يريدون التعايش في نهاية الأمر، كما المسلمون والأقباط في مصر، وينطبق ذلك على الأقليات والأكثرية في البلدان التي لم تنفجر فيها مثل هذه الصراعات. وكل ما يريدونه هو الضمانة الوطنية لهذا التعايش، والتي يمكن أن تتحقق فقط عن طريق دولة القانون المدنية الجامعة. وليس بنبش التاريخ لإيجاد المسوغات لجهلنا وتعصبنا!
يتميز الوضع في العراق بأنه يتشكل بصعوبة، ولكن في الاتجاه الصحيح، بحيث بدأت الديمقراطية الوليدة بامتصاص التناقضات الطائفية، برغم التدخلات الخارجية السافرة، وهذا بخلاف الأنظمة المتخثرة سياسياً، والتي فقدت ديناميات تطورها.
ويقوم المتطرفون الإسلاميون بهذه التفجيرات، مباشرة أو بالتكليف. وفي الحالتين، فقد بدأ هؤلاء بتطبيق أفكارهم الإقصائية على أرض الواقع، حيثما تتوفر الشروط المناسبة، بعد أن اختمرت كفكر متطرف خلال عدة عقود. ولم يحدث ذلك في البلدان التي شاع فيها مفهوم للتدين أحادي ومنغلق وحسب، بل وفي البلدان ذات التوجهات القومية، أو ما بين بين.
ثمة إذن عدة حقائق على الأرض لا يمكن إغفالها برغم دخان البروباغاندا:
1. الحقيقة الأولى أن ثمة تطرف إسلامي بشكل خاص يخالف التسامح التاريخي النسبي الذي اتصف به الحكم الإسلامي، أو الذي اتخذ من الإسلام غطاءً له، باعتباره استوعب الأقليات ولم يقصها كلياً، كما يفعل المتطرفون الإسلاميون في الوقت الحاضر، وفي ظروف تعاكس مسيرة التاريخ.
2. والحقيقة الثانية هي أن ثمة مشكلة كبيرة في التعبير والتنظيم السياسيين في البلدان العربية، والذي ترك فراغاً ملأته العصبيات الدينية والقومية وغيرها.
3. والحقيقة الثالثة هي أن ما يحدث هو نتيجة لسياسات عجزت عن بناء الدولة الوطنية بمفهومها الحقوقي، أو نتيجة لتدخلات خارجية أحياناً أخرى، أو كلاهما.
4. والحقيقة الرابعة هي أن السلطات العربية تبدو وكأنها ارتاحت في الحكم لدرجة أنها صارت تتوارثه، أو هي في الطريق إلى ذلك، بعد أن نجحت في إلهاء مكونات المجتمع بنزاعات فيما بينها، فنمت ثقافة التعصب والإقصاء كالنار في الهشيم خلال السنوات الأخيرة، نتيجة العجز واليأس.
من هذه الحقائق يبدو أن المشكلتين الرئيستين لما يحدث تكمنان في:
1. النظم السياسية العربية، والتي تتطلب إصلاحات عاجلة لن تكون إلا ديمقراطية، ووضع إستراتيجيات للتنمية الإنسانية تهتم بالفرد باعتباره كائناً آدمياً وليس مجرد كائن حي يعيش غريزته وحسب، والتوجه نحو تحقيق قيم المواطنة الجامعة، وانتزاع الحقوق السياسية.
2. التطرف الديني الإسلامي وغيره، والذي يتطلب إعادة تكوين الفرد على أساس أخلاقيات عامة جامعة لفضائل الأديان وحقوق الإنسان العصرية، ولن يكون القمع إلاَّ حلا مؤقتا وضروريا ضمن رؤية أكثر اتساعاً، لأن المتطرفين هم ضحايا لوعيهم المكتسب أيضاً. ويواجه التطرف الديني بثقافة مواطنة إنسانية الطابع، تجعل كل فرد في المجتمع يتعامل مع الآخر المختلف عنه في الدين والعرق والجنس كونه آخر متساوي الحقوق. وأول خطوة في هذا الاتجاه هي وقف المتاجرة بالأديان والقيم.
المشكلتان السابقتان تتطلبان جهوداً وطنية، وربما تعاوناً دولياً يستطيع أن يكبح رغبات بعض الدول الكبرى بتحقيق مصالحها على حساب هذه الشعوب من جهة، ويشكل، من جهة أخرى، مظلة ضغط على النظم السياسية العربية لتسريع اندماجها في الأسرة الدولية. وأية حلول أخرى لا تعدو كونها محاولة لشراء الوقت، ريثما يعاد إنتاج هذه المشاكل، وربما بصورة أسوأ. كما أن السلطات العربية لن تكون مرتاحة بعد اليوم، لأن الاضطراب الاجتماعي لن يبقيها بخير، والخراب سيصيب الجميع.
وبالنتيجة، إذا كان ثمة مشكلة من مظالم تشكو فيها الأقليات من ظلم الأكثرية أو بالعكس فإن الأمر لا يعود إلى أي من الطرفين، بل هو انعكاس لطبيعة الإدارة السياسية في البلد المعني، واللعب الذي تمارسه النخب الحاكمة في تأجيج هذا الصراع المفتعل، عن طريق منع الأطر الجامعة لمصالح الأفراد، من أحزاب ونقابات ومؤسسات مجتمع مدني، أو تحويل هذه الأطر إلى ملحقات للسلطات التنفيذية والأمنية. ومسؤولية الأكثرية ربما تكون أكبر عندما لا تقوم بتنظيم نفسها سياسياً بحيث تقصي الأقليات. إن ذلك يوفر المزيد من الثقة.
عندما تفقد بلداننا تنوعها الديني والقومي والثقافي فإنها تسير نحو التآكل الذاتي. ولو كان السودان ذلك البلد الذي لم يفرق بين مواطنيه، لما كنا رأينا جنوب السودان يتحضر لانفصاله الآن. لقد دق ناقوس الخطر في منطقتنا، وعلى الجميع أن يتحمل مسؤولياته، وعلى كافة المستويات.
*كاتب وأستاذ جامعي سوري 12/1/2011