المسيحيون العرب , الى أين?
د. طيب تيزيني
من يتتبع تاريخ الغرب الاستعماري الامبريالي في العالم العربي الحديث والمعاصر, يضع يده على نقطة حاسمة في هذا التاريخ, هي تصميمه على اعادة بنائه ديمغرافيا. وقد جاء ذلك في سياق ظهور مصالحه الحيوية ونموها وفق واقع الحال في بلدان هذا العالم كما في بلدانه, اضافة الى ما يتصل بما تبقى من الخريطة العالمية ويكاد يكون خطا واحدا متصاعدا ومتقاربا على صعيد ما حدث مع الفلسطينيين ومع المعنيين الجدد, نعني المسيحيين, فثمة حقلان جيوسياسيان اثنان عبّر فيهما عن نفسيهما الخطان المذكوران, هما الامبراطورية العثمانية وفلسطين, ومقابلهما الغرب اياها, الباحث عن بلدان لا تخلو من مشاكل يمكن البناء عليها.
ففي الامبراطورية العثمانية كان المسيحيون يُنظر اليهم بمثابتهم أقليات إثنية ودينية وفُرضت عليهم أتاوات وواجبات لقاء حمايتهم في بلاد الاسلام في الامبراطورية ومن ثم, كان ينظر اليهم على أنهم “أهل ذمة”, وهذا ما حرك الغربيين باتجاه اعلان “حمايتهم” كما جعل اطرافا من اولئك يطلبون الحماية من الغربيين اياهم. وقد راح ذلك الوضع يعطي هؤلاء الاخيرين حقا او بعض الحق في التدخل في شؤون الامبراطورية لحماية “بني دينهم” وكان ذلك جزءاً من الصراع على المصالح بين الفريقين, العثامنيين والمسيحيين, وثمة حدث كبير الدلالة على استراتيجية الغرب التي قامت على احتواء المناطق والبلدان التي تسعى الى وضع يدها عليها او التدخل في شؤونها: لقد ارسل الجنرال الفرنسي ديغول الى فارس الخوري, الذي كان رئيسا للبرلمان السوري يعرض عليه حماية فرنسا لمسيحيي سورية, وهو منهم.
كان جواب الخوري على عرض ديغول ان وقف في مجلس البرلمان السوري يعلن طلبه من المسلمين السوريين العرب حمايته وحماية مسيحيي سورية رافضا بذلك عرض ديغول بحماية هؤلاء الاخيرين, فدلل بذلك على الموقف الوطني التاريخي, الذي أعلنه المذكورون حيال اخوتهم في المواطن العربية والسورية.
كان ذلك من, قبل الغرب المعْني طريقا الى احداث خلل ديمغرافي في البنية السكانية في العالم العربي, ليأتي بعدها اختراق اخر في البنية ذاتها, وهكذا . وعلى هذا الاساس, راح العمل يأخذ مجراه على صعيد القضية الفلسطينية. لكن الامر هنا ظهر بصيغة اكثر شمولا, اذ يقوم على إجلاء الفلسطينيين من فلسطين. عموما من طرف, وعلى منح اليهود هذه الارض, التي اعتُبرت ارضا من دون شعب, من طرف آخر, وهكذا نشأ الشعار الصهيوني ضمن العلاقة بين فلسطين ارضا واليهود شعبا, فقيل: ان فلسطين ارض من دون شعب, بقدْر ما اليهود شعب بلا أرض, وبهذه الطريقة, يكون الشعب الفلسطيني العربي قد أُقصي من المعادلة التاريخية عموما, ليجد نفسه محكوما بالهجرة الى البلدان العربية والى اخرى تنتمي لاوروبا وامريكا وبلدان اخرى.
وضمن ذلك السياق والضوابط الغربية “وكذلك الصهيونية” أخذت تبرز البؤرة الثانية المتممة, وهي تهجير المسيحيين من عالم الاسلام إلى عالم الغرب المسيحي, وإذّاك, تكتمل العملية, ويتم التوزيع السكاني الديني بالكيفية التي تلبي حاجات الغرب المذكور, ويجد العالم نفسه امام قوة جديدة تسيطر في فلسطين بوصفها الشرطي الذي يحافظ على التوازن في عالم العرب وفي العالم عامة, ان اسرائيل وحلفاءها يشكلون آخر العنقود في المشروع الاستعماري العريق, على الاقل حتى الآن, وقد كان الفرنسيون والانجليز يدركون اهمية التنظيف الديني والعرقي بالنسبة الى العالم العربي وانضم الامريكيون الى ذلك بقوة, ليعلنوا ضمنا وكذلك إفصاحا أن الشرق الاوسط يجب ان يخرج من أيدي اهله, وذلك عبْر طريقين اثنين, تهجير من يختارونهم من شعوبه الى عوالم اخرى , وتهجير الشعب الفلسطيني الى البلدان العربية, التي تعجز بل وتتعاجز عن حمايتهم في بلدهم.
العرب اليوم