بعد أن انتهى الخطر على النظام … متى يبدأ الإصلاح في سورية؟
زين الشامي
خلال زيارة الرئيس السوري بشار الأسد الأخيرة الى الكويت، وخلال لقائه مع ممثلي الصحافة الكويتية، وجهت «الراي» سؤالاً ضرورياً وذكياً للأسد عن «ذبول ربيع دمشق» فأجاب الأسد أنه لا يعرف من «بدأ ربيع دمشق ومن أنهاه»، ورأى الرئيس الشاب «أنها مصطلحات إعلامية… سياستنا في سورية أننا مع التطوير والاستقرار». ثم أردف قائلاً: «كانت أولوياتنا الاقتصاد والسياسة والاستقرار. بعد الحرب صار الاستقرار أولوية».
قبل كل شيء لا بد أن نذكر الرئيس الأسد أن من بدأ الربيع هو سيادته من خلال خطاب القسم الذي ألقاه في يوليو عام ألفين، حين تحدث عن «الرأي والرأي الأخر» و«الشفافية» وعن ضرورة مشاركة الجميع في «عملية التطوير والتحديث»، لأنه لا يملك «عصا سحرية»، على حد قوله. ولو راجع الرئيس الأسد كلمته تلك لوجد الكثير من المصطلحات والتعابير التي دفعت السوريين للأمل والتطلع إلى سورية جديدة حديثة ديموقراطية. كذلك لو راجع الرئيس الأسد أحاديثه الصحافية قبل أن يصبح رئيساً للعديد من الصحف والمجلات العربية والأجنبية لوجد أنه أول من فتح نافذة الربيع ذاك.
لكن تجاهل الأسد ونكرانه لهذا الاصطلاح وهذه المرحلة «ربيع دمشق» التي عاشها السوريون لا يعبر إلا عن شيء واحد فقط هو استمرار رفض النظام في دمشق إحداث أي تغيير سياسي وإصلاحي حقيقي في سورية، ويعبر عن ندمه على تلك المرحلة التي كان هو أول من أذن بها.
لو أجاب الرئيس الأسد بصيغة مختلفة، مثل أن مرحلة «ربيع دمشق كشفت عن الكثير من الأخطاء ارتكبتها شخصيات واحزاب معارضة جعلتنا «نفرمل» ونؤجل الإصلاح السياسي إلى مرحلة وظروف لاحقة» نقول لو أجاب الأسد بمثل هذه الإجابة، لكان هناك الكثير من المؤيدين له، وكان هناك الكثير من المتعاطفين مع تبريره، خصوصاً أن بعض أحزاب وشخصيات المعارضة السورية عكست خلال تلك المرحلة بعض الاستعجال ورغبة في حرق المراحل، كما عبرت كذلك عن «حقد» على النظام السابق و«حزب البعث» وصل في بعض الأحيان للقدح والذم في وقت لم يكن مضى سوى أشهر قليلة على رحيل الأسد الأب، وفي وقت كان «حزب البعث» الحاكم والمؤسسات الأمنية بأوج قوتهم، إذ لم يظهر في عام ألفين حين وصل بشار الأسد الى السلطة ما يشي بحصول أي تراجع أو ضعف… نقول لو أجاب الرئيس الأسد في هذه الطريقة، لكان كسب الكثيرين من المؤيدين الذين شاطروه التحليل والرأي، خصوصاً أن هناك الكثيرين ممن يرون أن المعارضة السورية ارتكبت الكثير من الأخطاء وتعجلت في رفع سقف طموحاتها غير مدركة على أي أرض تقف. كما أن هناك الكثيرين ممن يعتقدون أن المعارضة السورية، حتى لو أُعطيت الفرصة الديموقراطية، فإنها لن تحقق تلك المكاسب التي تهدد سلطة النظام القائم.
من ناحية أخرى، وفي ما يخص الشق الثاني من إجابة الرئيس الأسد، والتي قال فيها: «سياستنا في سورية أننا مع التطوير و(…). كانت أولوياتنا الاقتصاد والسياسة والاستقرار… بعد حرب العراق صار الاستقرار أولوية».
في ما خص هذا الشق من الإجابة، نقول إننا نتفق مع الرئيس السوري بإيلائه مسألة الاستقرار أولوية قصوى، كما أن إجابته هذه تعكس رغبة في «التطوير»، لكن المتغيرات الدولية والإقليمية، وفي مقدمها الحرب الأميركية على العراق، ثم إسقاط نظام «حزب البعث» هناك، هي التي فرضت أولويات جديدة عليه، وهي ما جعلت أركان الحرس القديم يجدون التبريرات والذرائع الكافية كلها لوأد «ربيع دمشق» وكبح أي رغبة للتغيير. ما نود قوله إن تلك المتغيرات مع كل ما حملته معها من مخاطر ساعدت وأعطت دفعاً قوياً لأولئك الذين وجدوا في «مشروع التطوير والتحديث» تهديداً كبيراً لمصالحهم وامتيازاتهم التي منحها إياهم «حزب البعث» على مدار نحو عقود أربعة من الزمن في ذلك الوقت من عام 2000.
نحن سنقبل هذا التبرير، ونقول مع الأسد، خصوصاً بعدما رأينا في العراق من أهوال وفوضى وانهيارات وحروب «طائفية»، نقول إن الأولية في مثل هذه الأحوال هي للاستقرار الداخلي، لأنه لا يمكن أبداً البدء في عملية إصلاح حقيقية في بيئة غير مستقرة وغير آمنة، وإنه لا يمكن، ولم يحصل أبداً في أي تجربة عالمية، أن بدأت عملية التحديث والدمقرطة في أي بلد في ما المدافع والدبابات تقف على الحدود، وكان حقاً هذا هو واقع الحال في عامي ألفين وثلاثة وألفين وأربعة، وحتى فترة متقدمة من عام ألفين وخمسة.
لكن ما لا يمكن قبوله هو الاستمرار في لجم أو التراجع عن عملية الإصلاح السياسي بعد انتهاء مرحلة الخطر تلك، نقصد انتهاء التهديد الأميركي للنظام بتغييره، لا بل إن الإدارة الأميركية تراجعت حتى عن سياسة «تغيير سلوك النظام»، وهذا كله يعني أن الخطر الوجودي الذي كان يشعر به الرئيس الأسد والنظام قد زال نهائياً.
أيضاً أثبت السوريون وبعد مشاهدتهم لما يجري في العراق أنهم حريصون أكثر من النظام ذاته على الاستقرار، والدليل على ذلك موقفهم الرافض للاحتلال الأميركي للعراق والنتائج كلها المترتبة عليه، ورفضهم قبل هذا وذاك لمقولات الديموقراطية التي كانت تتشدق بها إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش. الديموقراطية التي لم تأتِ للعراقيين سوى بمزيد من الموت والفساد والارتهان للخارج سواء الأميركي أو الإقليمي أو «القاعدي»، إذ بات العراق مرتعاً للإرهابيين وساحة للصراع بين الولايات المتحدة وقوى إقليمية متعددة.
إن المفارقة في سياسة النظام في دمشق خلال الأعوام الماضية التي كان يشعر فيها بالتهديد وعدم الاستقرار تمثلت في أنه انتهج سياسات اقتصادية من وحي اقتصاد السوق وتخلى عن الكثير من الضوابط والقوانين «الاشتراكية»، بحجة التحديث في الوقت ذاته الذي لم يسمح فيه لأي تغيير على المستوى السياسي، لا بل إن الأعوام السابقة وما سجلته تقارير منظمات حقوق الإنسان تثبت أنه اتبع سياسات قمعية مبالغاً بها، وكانت المفارقة أن الأحكام التي تم من خلالها سجن الناشطين المعارضين، كانت في مجملها تستند إلى الحقبة «الاشتراكية»، ولقد حوكم الكثيرون من المثقفين وتمت إدانتهم بمواد متعفنة مثل «تهديد طبيعة النظام الاشتراكي للدولة» و«وهن نفسية الأمة» وتهديد الشعور القومي. إن ما هو مستغرب حقاً أن ذلك كان يحصل تحت شعار «التحديث»، وفي وقت كانت الوجوه الجديدة للبرجوازية السورية الناشئة وغالبها متورط بالفساد والنهب وسرقة القطاع العام تطلق رصاصة الرحمة على اشتراكية «حزب البعث» في ما كان الآخرون يسجنون، بحجة مخالفتهم وتهديدهم «للنظام الاشتراكي»!
إن هذا يثبت أن التغيير والتحديث الذي يريده الرئيس بشار الأسد والنظام في دمشق مجرد تحديث انتقائي تم تسريعه على المستوى الاقتصادي فقط ويستفيد منه أولئك المقربون من النظام.
في عموم الأحوال، السوريون وقفوا مع نظامهم في مرحلة كانت عصيبة وحساسة، وخلال هذه المرحلة امتلأت السجون بالنشطاء من المعارضة، كما تم تكميم الأفواه كلها. لكن ومع انتهاء الشعور بالخطر على الاستقرار، إذ يسجل النظام ارتياحاً على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية، نقول إنه مع هذه المتغيرات حري بالنظام أن يلتفت قليلاً إلى الداخل ويعيد قراءة سياساته السابقة على مستوى الإصلاح السياسي. أما القضية الأكثر إلحاحاً، فتتمثل في ضرورة إطلاق سراح الناشطين السياسيين من المعارضة الذين سجنوا لأسباب غير مقنعة أبداً.
كاتب سوري
الرأي العام