لا تنازلات متبادلة… لا تسوية
عبدالوهاب بدر خان
هناك طرف يخادع أو يناور في شأن ما يعرفه أو لا يعرفه عن عناصر التفاهم السعودي – السوري والالتزامات التي يطلبها. واذا كان مضمون “الصفقة” او “التسوية” معروفا في أضيق نطاق، وما كشف عنه بقي أفكارا وتحليلات، وبالتالي أمكن الحفاظ على سريته، فلماذا اشتعل هذا السجال المحموم على “الخطوة الاولى” ومن يفترض أن يقوم بها؟
الأخطر، استطرادا، ان المناورة والسجال يشيان باحتمال ان لا يكون راعيا “التسوية” قد توصلا فعلا الى اتفاق، رغم أن أجواء العارفين تؤكد وجود اتفاق. فمن نصدق، اذا؟ رئيس الحكومة اذ يقول إن خطوته الاولى تنتظر تنفيذ الطرف الآخر التزاماته، أم “حزب الله” الذي ينفي علمه ويؤكد انه يفي دائما بما يلتزمه؟ طالما أن الرياض ودمشق لم تصدرا أي توضيح سيبقى اللعب على الغموض والتكهنات.
واقع الأمر ان الخطوة التمهيدية المتوقعة من “محكمة أو لا محكمة”، وليس معروفا اذا كانت “السينان” توصلتا الى مثل هذا الحسم لتنطلقا منه الى تفعيل “التسوية”. فمصادر دمشق تفيد بأنها لم تزحزح موقفها من المحكمة رغم تصريح الرئيس السوري عن “الأدلة القاطعة” المطلوبة منها. ومصادر الرياض تعبر عن ضيقها من التسييس والتسريب، لكنها مع ذلك تريد معرفة حقيقة الاتهامات. ثم ان الاثنتين تدركان ان البعد “الدولي”، أي الاميركي خصوصا، للمحكمة عقبة صعبة، لذلك فهما تعولان أولا وأخيرا على تفاهمهما وعلى نفوذهما لدى الاطراف اللبنانية.
وعندما قال رئيس الحكومة ان اتفاق الـ”س. س” أنجز قبل شهر من الوعكة الصحية للعاهل السعودي، فهناك احتمالان لا ثالث لهما: إما أنه يعرف عما يتكلم وإما أنه لا يعرف. الأكيد أنه لا يستطيع أن يكون مناورا في أمر يتعلق بالملك عبدالله بن عبد العزيز. فلا مجال هنا للعب على الوقائع. لكن ناقديه تناسوا عمدا ارتباطه بالسعودية، وأنه لا يقدم على حركة سياسية إلا بالتنسيق والتفاهم معها، كما ينسقون هم مع سوريا او ايران. فهذه هي اللعبة، ولا يمكن أحدا أن يدعي عكس ذلك. طبعا، لكل هامش تحرك مستقل، لكن الطرفين حاذرا طوال الشهور الماضية المجازفة بتخريب الجهود السعودية – السورية. واذا كان هناك من يريد تجريب المجازفة فلن يكون رئيس الحكومة، لسبب بسيط وواضح أنه لا يستطيع العبث حيث يكون العاهل السعودي منخرطا شخصيا في مسعى هدفه صون استقرار البلد والعودة الى الدولة والمؤسسات.
من يقول “تسوية” لا بد ان يعني توازنا في الالتزامات والخطوات، ولا يعقل ان يكون تنازل من طرف واحد بعينه من دون الآخر. وفي أحاديث سابقة كرر الامين العام لـ”حزب الله” أنه لا يبحث عن تسوية، بل يرفضها، فاما أن تلغى الاتهامات من أساسها وإما ان تعلن ويكون عندئذ ما يكون. لكن إعلامه بات يتحدث الآن عن “تسوية” بلا أي حرج. فاذا كان لا يزال يمقتها ولا يريدها فلعله يدرك ان رئيس الحكومة يشاطره هذه المشاعر من منطلق آخر، ومع ذلك فهو أبدى علنا استعداده للقيام بما تلزمه به “التسوية”.
بديهيا، لا يمكن أن يكون رئيس الحكومة اخترع قصة “التزامات الطرف الآخر”، ولم تكن المرة الاولى التي يتحدث عنها في جريدة “الحياة”. لكن الوقع اختلف بسبب التوقيت غداة تعافي الملك عبدالله من وعكته وعشية الموعد المفترض لمباشرة “التسوية”. بديهي ايضا ان من حدد تبادلية الالتزامات هما العاهل السعودي والرئيس السوري، وليس رئيس الحكومة. في أي حال، ليس واضحا تماما اذا كانت آلية بناء “التسوية” أفسحت للطرفين اللبنانيين فرض الشروط والشروط المضادة. وعلى افتراض انها أتاحت ذلك فان رئيس الحكومة تحدث عن “اتفاق ناجز” وأنه موافق عليه وجاهز لتنفيذه. فأين العرقلة وممن؟ هذا هو السؤال الذي سارع رئيس المجلس النيابي الى رده، لكنه رد عليه بالاشارة الى ان المشكلة تكمن في “تحقيق يطاله التسييس”، وهذا يعني أمرا من اثنين: إما ان “التسوية” لم تنجز بل توقفت عند عقدة “التسييس” التي لا حل لها إلا بتنصل رئيس الحكومة من التحقيق والمحكمة، وإما أن هناك خلافا على أولويات الخطوات المتبادلة، وكأن من يخطو أولا يتنازل أولا، وبالتالي يعطي الآخر مجال الاستفادة من هذا التنازل.
قبل أن تباشر الرياض ودمشق تفعيل “التسوية” ستبقى طواحين الكلام البيروتية تدفع بـ”الالتزامات” في كل اتجاه. فمنذ القمة الثلاثية في بعبدا، ودخول الـ”س. س” على الخط، بقيت المواقف على حالها إن لم يكن استغلال “شهود الزور” زادها انقساما، فضلا عن انه عطل مجلس الوزراء. ومنذ تلك القمة هناك من أفهم “حزب الله” ان مساعي الـ”س. س” ستكون لمصلحته، لكن يستحسن أن يبقى الضغط والتهويل. وروجت مصادره ان مجرد التلاقي السعودي – السوري للعمل على الملف يعني أن السعودية تؤيد الغاء المحكمة الدولية، وأن مواصلة الضغط والتلويح بالفتنة ستجعلها “تبيع” رفيق الحريري فضلا عن سعد الحريري، وأن المسألة مسألة وقت فقط لتستدرج السعودية الحريري الابن الى تجرع الكأس المرّة التي لا بد منها. مضى الوقت وانتقل القرار الاتهامي من تأجيل الى تأجيل واقترب موعد صدوره ولم ير “حزب الله” مؤشرا لما وُعد به ولما أيقن انه واقع لا محالة، وبالتالي لم يحصل “بيع” ولا شراء.
النهار