صفحات العالمما يحدث في لبنان

العرب .. شعوب في العراء

سليمان تقي الدين

لن يؤدي الجهد السوري السعودي إلى وقف تأثير المحكمة الدولية على لبنان، ما لم يترافق مع جهد لبناني داخلي لبلورة تفاهمات عميقة حول مشروع الدولة. إذا نجحت التسوية في احتواء التوتر الداخلي،وأعادت الحوار البنّاء بين المتنازعين، فهي تحتاج إلى جدول أعمال مختلف لتدارك محاولات التعطيل والتخريب، ولتدارك الانتقال إلى عناوين خلافية أخرى. ليس مطلوباً من الخارج أن يقترح علينا صيغة لإدارة عيشنا، ولا أن يقدم نموذجاً لا يملكه أصلاً، ولا ان يعطي حلولاً لمشاكل لا يعرف كيف يتعامل معها.

إذا لم يبادر اللبنانيون إلى مراجعة تجربتهم السياسية برغبة صادقة في إزالة عناصر الانقسام، فلن يكون ممكناً ضمان الاستقرار السياسي والأمني، ومعالجة الشؤون الاجتماعية التي نتجت عن الإدارة السيئة وعن خيارات فئوية.

كان «الطائف»، بجميع المقاييس، تسوية تاريخية عالجت القضايا الأساسية التي شكلت مادة الحروب اللبنانية المركّبة. لكن «الطائف» لم يخدم لأكثر من عقد واحد سادت خلاله التهدئة جراء إعادة البناء وما رافقها من إغراءات وأوهام. حصيلة الممارسة السياسية لتلك المرحلة ظهرت بشكل انفجاري عندما انفكّت القبضة السياسية الأمنية التي كانت تضبط النزاعات والتناقضات. في تلك اللحظة عدنا لجدال حول ما اعتبرناه مسلّمات وثوابت، لمجرد ظهور مناخ دولي وإقليمي جديد. تصرف الفرقاء اللبنانيون كأنهم لم يرتضوا تلك التسوية، وأنهم أُجبروا على قبولها. صحيح ان ممارسات ما بعد الطائف لم تثمر الكثير، لكن ذلك لم يحصل في غفلة أو من دون إرادة الأطراف الذين تولّوا المسؤوليات الأساسية. كل مسار تشكيل السلطة تم برضا هؤلاء، والإدارة السياسية والاقتصادية والأمنية والعلاقات الخارجية. التحفّظ من بعض الأطراف السياسية المسيحية نشأ نتيجة الثمن السياسي الذي دفعه التيار الذي خسر في المواجهة الأهلية.

في الجو الإقليمي، يستثمر الأميركيون تفكك النظام الإقليمي العربي، وفشل مشروع الدولة القطرية. ساهموا في كل أزمات المنطقة، لكن الأنظمة السياسية العربية قدّمت أفضل الظروف والشروط للتنازل عن سيادتها بالفجوة العميقة بينها وبين شعوبها، بالفساد، بغياب التنمية والمشاركة، وبالسياسات الفئوية والإقصاء والتعامل الأمني مع موضوع الاستقرار. بل ان هذه الأنظمة خاضت وتخوض مغامرات عسكرية مع فئات من شعوبها في حين لا تجرؤ على ممارسة أي شكل من المقاومة للمشروع الغربي. لا يمكن تحميل «الأقليات» المسؤولية عن تفسّخ المجتمعات العربية بعد نصف قرن من الإقصاء والتهميش والتجاهل والأزمات العامة التي نزعت الشرعية الوطنية عن الدولة المركزية. ليس انقسام السودان وانفصال جنوبه خطوة شاذة في مناخ عربي تعم فيه عناصر التفكيك والتشطير، في العراق، واليمن، والصحراء الغربية بين المغرب والجزائر، وفي فلسطين ولبنان. جميع هذه الأزمات وغيرها تدل بوضوح على وجهة عامة تقود المنطقة إلى إعادة صياغة نظامها الإقليمي على أساس الوظائف المرتجاة من الغرب. يتقاطع الطموح المحلي للجماعات مع مصالح الغرب كما تقاطع مطلع القرن الماضي. لكردستان وظيفة أمنية مهمة، ولجنوب السودان ودارفور، وللصحراء الغربية، ولخليج عدن، وظائف تتراوح بين النفط والمعادن والثروات الزراعية والأمن المائي والممرات الاستراتيجية.

لا تجامل أميركا أصدقاءها الذين يعتقدون ان استقرارهم مرتبط بحسن العلاقة معها. بعد ثلاثة عقود من انتقال مصر إلى التموضع في دائرة النفوذ الأميركي، شهدت في السبعينيات ثم الثمانينيات، وتشهد اليوم ضغوطاً على عصب نظامها من كل الاتجاهات والحدود. ورُب قائل، ما أهمية لبنان في هذا المشهد؟ لم يعد في أولويات أميركا. من أعظم أخطائنا اننا ننظر إلى واقعنا العربي من داخل الكيانات التي نتوهم «استقلالها»، في حين ان الغرب لا يزال ينظر إلى المنطقة كمنظومة واحدة، يربط الأزمات فيها ويقترح الحلول عليها بصفتها عالماً من المكونات المترابطة والمتفاعلة. فلسطين، ونفيضتها إسرائيل، هما الخيط العريض الذي يخترق النظام الإقليمي. والنفط والمصالح الاقتصادية تحتاج إلى نظام سياسي يحرسها. لا يأمن الغرب ولن يأمن لاتباعه وولائهم، لأنه يدرك ان شعوب المنطقة لم تستسلم لهذا المصير البائس من التخاذل ومن الإفقار، بقطع النظر عن طبيعة القوى التي تتحرك على المسرح السياسي الآن.

النظام العربي مسؤول عن تعريض كياناته لتجزئة جديدة. مشكلة الأقليات لم تولد أمس، لا في السودان ولا العراق ولا غيرهما. تعاملت أنظمة هذه الدول ويتعامل غيرها مع حقوق المواطنين بتجاهل كامل، ومع حقوق الجماعات بقهر مضاعف. في شكل أو آخر، النظام العربي مسؤول عن دفع بعض الهويات الثقافية أو الدينية أو المذهبية أو الجهوية إلى التبلور في مشروع انفصالي. ليست مأساة العرب اليوم ان ينفصل جنوب السودان، بل في رد الفعل العربي الذي تعامل ويتعامل مع تشطير العرب مجدداً كأنه أمر مفروغ منه ومسلّم به. لا يملك النظام العربي إرادة حرّة للجواب عن تحديات أخرى ماثلة، وربما هو يساهم لتبرير تخاذله هذا في عدم إطفاء الأزمات. لانقسام السودان «دلالة تاريخية» من منظور عربي، كما هو «لحظة تاريخية» من منظور غربي. العرب في القرن الواحد والعشرين شعوب في العراء.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى