صفحات العالمما يحدث في لبنان

العدالة الهادية لا القوة المتسلّطة

يوسف بزّي
أصبحنا جميعاً هاملت في بلدنا. القتلة يحاولون الآن الاستحواذ على العرش. شبح رفيق الحريري يواجهنا إزاء القاتل “المجهول” في صميم الفكرة اللبنانية، ويضغط علينا بأسئلة مروعة: ما الذي صنع دستورنا؟ ماذا تستحق حياتنا؟ ما هو مستقبل الديموقراطية و”الصيغة” حين يمكن أن يقتل رئيس تحت ظروف مثيرة للشبهات والاتهامات، ولا تأخذ العدالة مجراها. كم من جريمة سياسية أخفيت في السبعينات والثمانينات والتسعينات؟ كم اغتيال تمّ منذ شباط 2005 وعلينا تصديرها الى “المؤامرة الصهيونية”؟
كتب شاعر إنكليزي: “الخيانة لا تنجح”. فما هو السبب؟ في حال نجاحها لن يجرؤ أحد على اعتبارها أو تسميتها “خيانة”. اللبنانيون لم يروا حتى الآن حقيقة واحدة. لماذا؟ لم يتم إظهار ملف عدلي واحد في أي اغتيال، ولا وثيقة ولا مستند. كل الأدلة والشهادات التي من الممكن أن تساعد على إثبات “مؤامرة”، في أي من عمليات القتل السياسي، ليست موجودة أو تم إتلافها أو حرقها، وكلما نسأل عن هذا الأمر، طوال عقود، تكون الإجابة من نوع “العدو الإسرائيلي”. أي نوع من الأنظمة أو سلطات الأمر الواقع التي لدينا والتي تسلبنا رؤساءنا ونوابنا وصحافيينا؟ ما هي العقلية أو الإيديولوجيا التي تسمح بانتقال القوة من أيدي الناس وخياراتهم لتقرّ بشرعة “القوة الخفية” أو “الجهاز”، تحت شعارات “ضرورات المعركة مع العدو”. هذه القوة تشبه بالرائحة والحس والمظهر: الفاشية.
نقرّ بأن ما حدث في 14/2/2005 ما هو إلا “انقلاب” عكساً لبرنامج الحريري بالتحرير والإعمار وتحقيق السلام. إن الحرب (مقاومة ممانعة صمود وتصدي.. إلخ) هي أضخم تجارة سياسية في بلادنا. والرئيس الحريري قتل بمؤامرة كان قد خطط لها مسبقاً على أعلى مستويات، ونفذت بواسطة محاربين متعصبين، باردين، ومنضبطين. كان إعداماً علنياً، وقد تستر عليه أفراد من نوعية الأجهزة الأمنية والمخابرات، وخبراء “العمليات السرية”، جميعهم ومن ضمنهم قادة وأحزاب وشخصيات سياسية يمكن اعتبارهم شركاء بعد وقوع الاغتيال، الذي “خفّض” مرتبة الرئيس الحريري الى مجرد “مسؤول رسمي” يمكن الاستغناء عنه. كانوا يريدون منه إلقاء الخطابات، أن يتكلم بقدر الإمكان عن رغبة اللبنانيين بالسلام والازدهار بينما يتصرفون هم بالسلطة وبصناعة السياسة والحرب وبإدارة اقتصاد الخوة والرشوة، والاقتصاد الموازي والسلاح الموازي والحكومة الموازية.
قالوا يوم نزلنا الى الشوارع، منذ بعد ظهر 14 شباط 2005، وطوال الأسابيع التي تلت، بأننا مجانين، واعتبرنا نظام الوصاية وحزب ولاية الفقيه أن مطلبنا بالحقيقة هو “خفّة عقل”. اعتبرونا مضلَلين وأطفالاً لا يجوز لهم معرفة الحقيقة، إذ يمكن أن “تزعجنا” أو لأنه من المحتمل أن نقدم على عمل غير مقبول (بالنسبة لهم): معاقبة المتورطين. إنهم يسعون اليوم ومنذ فترة طويلة كي لا يصدر قرار اتهامي، يريدون على الأقل تأجيله مئة عام.
قد أموت قبل أن يصدر القرار الاتهامي (من يدري؟) لكني طلبت من ابني ذي الثمانية عشر عاماً أن يحافظ على صحته حتى ذلك الصباح المجيد حين يمكنه أن يذهب الى بائع الجرائد ويقرأ تفاصيل الحقيقة. ربما قد يتأجل القرار الاتهامي الى زمن بعيد، وربما لأسباب كثيرة قد تُلغى المحكمة. ربما تصبح مسألة أجيال، مع استفسارات تورّث من الآباء الى الأبناء، ومن الأمهات الى بناتهن. لكن في يوم ما، بمكان ما، شخص ما سيكتشف تلك الحقيقة “اللعينة”.
من الأفضل أن نفعل الآن ما ينبغي فعله: إعلان الحقيقة وتنفيذ العدالة، وإلا لنبني لأنفسنا بلداً آخر، وليكن أقرب الى الغرب أكثر بعض الشيء.
كتب عالم طبيعة أميركي “الوطني يجب أن يكون مستعداً دائماً للدفاع عن بلده ضد السلطة”. اليوم نحن نواجه سلطة مراوغة وخفية ومدججة بشرعية القوة.
لو عدنا الى طفولتنا، لوجدنا أننا كنا نعتقد جميعاً بأن العدالة تأتي تلقائياً وأن “خير ثواب للفضيلة هو ممارستها” وأن “الخير ينتصر على الشر”. لكن حين نكبر نعلم أن تلك ليست هي الحقيقة، إذ لا بد للفرد أن يصنع العدالة، وهذا ليس سهلاً، وأن “الحقيقة” غالباً ما توجّه تهديداً لـ”القوة”. وغالباً ما يجب على الفرد محاربة تلك القوة مع مخاطرة كبيرة بنفسه. أناس من أمثال مروان حمادة وسمير قصير وبيار الجميل وفؤاد السنيورة وسعد الحريري ووسام عيد وكل فرد أتى الى “ساحة الشهداء”، جميعهم قاموا بتلك المخاطرة. جميعهم تقدموا للشهادة ولـ”الشهادة”. ربات بيوت، سباكون، بائعو خضر، مدرسون وعجزة وأطباء ومزارعون.. هؤلاء الناس ليس باستطاعتهم ممارسة السياسة أو مواجهة “القوة” لكنهم فعلوا. لماذا؟ لأنهم يهتمون. لأنهم يريدون أن يعرفوا الحقيقة، لأنهم يريدون استرجاع بلدهم، طالما أنه لا يزال ينتمي إليهم، وطالما أن الشعب لديه الإيمان بأن يصارع من أجل ما يؤمن به.
الحقيقة قيمة بالغة الأهمية لنا الآن. لو لم تظهر الحقيقة، وإذا سلطة الأمر الواقع قتلت الحقيقة، وإذا لم نستطع احترام أنفسنا.. إذن، فهذا ليس الوطن الذي ولدنا فيه، وبالتأكيد ليس البلد الذي نريد أن نموت فيه.
كتب أحدهم: “السلطة تنسى الملك المحتضر”. كان هذا ما يريدونه مع واقعة رفيق الحريري، الذي كان اغتياله أفظع لحظات الرعب في تاريخ بلدنا بعد انتهاء الحرب. نحن الشعب والمدعي العام والمحكمة الدولية مع واجب محاكمة القتلة وتقديم الإدانة الأولى. فلا تنسوا “الملك المحتضر”. ولنبرهن للعالم أن لدينا دولة للشعب ومن الشعب وإلى الشعب، وطالما أننا على قيد الحياة فلا شيء أكثر أهمية من ذلك. الأمر يعتمد علينا.

[ استوحيت هذه المقالة من مطالعة المدعي العام في قضية اغتيال جون.ف كنيدي وفق رواية فيلم “J.F.k” لأوليفر ستون.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى