العودة إلى «صوبية الحَطب»
حسان القالش *
تلاقي «صوبية الحَطب»، أي المدفأة التي تعمل على أخشاب الأشجار المقطّعة، رواجاً غير مسبوق في الأسواق السوريّة هذا الشتاء. اذ عادت صناعة هذا النوع من المدافئ إلى الحياة، بعدما كادت تنقرض، بل صارت تستورد من تركيا أيضاً. وانتشار هذا النوع من التدفئة، المعتمدة على الحَطب كونه أرخص بكثير من المازوت المستخدم في العادة، لا يعود إلى الأسباب الاقتصادية والمادية وتدني المستوى المعيشي للناس فحسب، وإن كانت وراء هذه العودة الاضطراريّة إلى طريقة الأجداد في التدفئة.
ذاك أن عودة «صوبية الحَطب» إلى الظهور تترافق مع احتلال المزاج الريفيّ لمختلف مجالات الحياة والمجتمع. فالغناء الريفي الشعبي (الضّيعجي)، يشكّل ظاهرة عامة في سورية بأكملها، بخاصة ذاك القادم من الريف الساحلي الجبلي، والمتلوّن بألوان البداوة والتراث. كما أن الطلب على أشكال الحياة الريفيّة وأساليبها قد تحوّل، حتى عند ميسوري الحال، إلى ما يشبه الموضة، سواء في ديكورات المقاهي والمطاعم وأصناف المآكل فيها، أو في بعض موديلات الثياب وملحقاتها، أو في انتشار فكرة «البيت الريفيّ» المخصص لأيام العُطل والاجازات (منطقتا يعفور ودروشة في الريف الدمشقي)، والرغبة في وجود جلسة عربية في البيت، حيث العودة إلى افتراش الأرض والجلوس إليها.
بيد أن الأمر أبعد من عملية تحويل الريف ورموزه إلى سلعة وإدراجه في منظومة الثقافة الاستهلاكية. فالريف يشكل الخزّان الأكبر لعناصر الحنين (النوستالجيا)، إلى الماضي البريء والبسيط. وهو ما يشكل اليوم سمة من السمات النفسية للأفراد والمجتمع. ذاك أن الحنين إلى الريف بكل ما يختزن، من ذاكرة وصور وسلوك، يكشف عن رغبة دفينة في البحث عن الطمأنينة والراحة التي توحي بها حياة الأرياف، وعن ذاك الخَدَر الرومانسي المُتخيّل عنها. ورغبة كهذه، ما كانت لتعبّر عن وجودها القوي والمتربّص، لولا فشل المدينة في استيعاب جميع عناصر المجتمع، وتمدينهم وتطويرهم وطبعهم بأخلاقها وشحذ طموحاتهم بآفاقها الواسعة والمتفتّحة. وهذا الفشل يأتي دليلاً على إخفاق المدينة نفسها في أن تصير مدينة، بما تعني كلمة مدينة من معان، وتحولها بدلاً من ذلك إلى ما قد يسمى نموذج المدينة المتوحّشة أو المشوّهة.
وهذه الأحوال التي انحدرت إليها المدينة، آخذة معها فرص تحضّر المجتمع ورقيّه، أشبه ما تكون بحال الايديولوجيات النضالية والعقائدية العربية، التي أرهقت الحياة المدينيّة بدورها، وقضت في انحدار مستواها وممارساتها وخطابها على الحياة السياسية، وأحالت الفرد العربي، إلى كائن مهزوم ومحبط، ارتدّ إلى هوياته الصغرى، الثقافية والدينيّة، غير مكترث بمصير مدينته ووطنه، لتداعبه شعارات خلاصيّة كـ «الاسلام هو الحل»، ويجد، في ما بعد، أن الريف هو الأمان. إلى جانب… «صوبية الحطب».
* كاتب وصحافي سوري
الحياة