فرانسوا مورو في كتابه “الصورة الأدبية”: نأسف على ألفيْ سنة من سوء التقدير البلاغي والمنطقي
قصي الحسين
لعل كتاب فرانسوا مورو: “الصورة الأدبية”، كما يبدو لنا، عبارة عن بحث شامل خصصه صاحبه، وهو الأستاذ بجامعة “تولوز” الثانية، لمؤلفات الكاتب الفرنسي المشهور “فرانسوا رابليه”، أو قل لرائعته المشهورة “ثمار غارغانتوا وبنتاغريل Gargantua et Pentagruel . أما عنوان البحث فهو: “الصور في مؤلف رابليه”. وأجزاؤه هي:
الكتاب الأول: الصورة الأدبية، طرح المسألة، بعض التعريفات.
الكتاب الثاني: جرد وشرح نقدي للصوفي مؤلف رابليه، وثبت بها.
الكتاب الثالث: وجه من أوجه الخيال الإبداعي عند رابليه، استخدام الصور.
وقد نهض علي نجيب إبراهيم بترجمة الكتاب الأول مشكوراً، نظراً للفائدة العظيمة التي يمكن أن تشكل قيمة تحويلية كبرى في الثقافة الأدبية العربية المعاصرة.
والواقع أن هذه الكتاب إنما يجمع بين المناهج الغربية الحديثة في النقد الأدبي وتطبيق هذه المناهج على تلك الحقبة الأدبية من تاريخ العصر الوسيط في أوروبا اللاتينية، والتي يمكن القول إنها شهدت عملية مخاض وولادة الحضارة الغربية، التي يعيش العالم اليوم في كنفها بشكل أو بآخر.
ولا غرو، فرابليه يقف بين نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، على تخوم الأدب الشفاهي والمكتوب، وهو يجمع بالتالي في إرثه كما في إرث الحركة الإنسانية الأوروبية في ذلك العصر، بين الثقافات: اليونانية واللاتينية والإيطالية والعبرية والعربية. وكذلك كان يتحدث لغات هذه الثقافات، فضلاً عن غزارة معرفته بالتراث الشعبي المحلي ولهجاته المختلفة.
بالإضافة إلى ذلك، فالرواية الرابليّة بدت في نظر عدد جم من النقاد وكأنها عمل “تبشيري” ما. بمعنى أن فرانسوا رابليه قد ذهب فيها مذهب دانتي وسرفانتس، في ردّ الإنسان إلى فطرته ليريح نفسه. إذ حقيقة الإنسان هي بشرى عدن الأرضية التي يحملها رابليه ابن الانسان، الذي يعلن براءة عورته، ويمازج بين الغريزة والفطرة في جسد الكلمة وفي شراكة روح القدس. ولا عجب بعد ذلك، إن وقع اختيار “فرانسوا مورو” على أعمال “فرانسوا رابليه” لدراسة الصورة الأدبية، إذ بدت له من الوهلة الأولى أنها تعرف القصد ولكنها لا تعرف الاقتصاد، تماماً كما وجد في كلماتها روائح ومذاقات وألواناً ومحسوسات الخبرة الوجودية العامة، والتي كما نرى، تشكل تربة الإبداع الأدبي الحقيقي في كل العصور.
ويتأسس كتاب “الصورة الأدبية” لفرانسوا مورو على مفهومات بلاغية أفاض النقاد العرب القدماء في دراسة أحوالها. وإذا كانت علوم البلاغة عند العرب تشتمل على المعاني وعلم البيان وعلم البديع، فإننا نجد أن “فرانسوا مورو” يناقش في كتابه ما يوازي “علم البيان” مضافاً إليه مفهوم “التورية” من “علم البديع المعنوي”. وإذا كانت هذه العلوم مصنفة تصنيفاً محكماً شاملاً لأدق تفرعاته، يصبح بالإمكان التعرف الى النقاط غير المستوفاة فيه، حتى نتمكن من تعميقها وتجديدها اعتماداً على ما كشفته البحوث البلاغية الجديدة التي أورد “مورو” معظمها، والتي تتجه إلى جعل البلاغة “فناً للقراءة”، كما تتسنى من بعد، الاستعانة بها كدراسة النصوص القديمة والحديثة.
يقع كتاب “الصورة الأدبية” لفرانسوا مورو في ثلاثة أبواب تحدث فيها عن صور التماثل، وكذلك عن صور التجاور، وصولاً، في الباب الثالث، للحديث عن شروط وجود الصورة الأدبية. وهو يقول نفسه بنفسه في مقدمة الكتاب: “لا رؤى جديدة في هذا الكتاب، ولا نظريات أصيلة عن الصور الأدبية، إنما الأمر متعلق بتوضيح المعنى الذي أعطاه النقاد للمصطلحات الأسلوبية، وذلك في حدود ما بدا لنا ضرورياً، بالقياس إلى اتساع غموض المصطلح الأسلوبي وتخيره” (ص 15). وهو يشير في خاتمة مقدمته للكتاب إلى السيد “روجيه لاتويير” الذي أشرف على بحوثه والى السيد “فدريك دولفر” الذي أغدق عليه النصائح كما يقول، والى السيدة “ماري هيلين برات” التي أفاد كثيراً من أفكارها (ص 16).
وحول ملاحظاته عن مفهوم الصورة، يجد “مورو” أنها لفظة من الألفاظ التي يجب على دارس الأسلوب أن يستخدمها بحذر وفطنة خاصين. وبرأيه أن الصورة، بوصفها نتاجاً خاصاً لخيال المطلق، تستمد وجودها على عكس الاستعارة، من الخيال ذاته، لأن الاستعارة مرتبطة بوجود نفسي مختلف عن الصورة. ويضيف في مكان آخر: ثمة مقطعان من مؤلف رابليه يسمحان لنا بأن نحدد معنى اللفظة على نحو أفضل: ففي “غارغنتوا Gargantua” يرسم لنا رابليه غارغانتوا العملاق الذي “يخط في الموقد بعصا محروقة من الطرف الذي تحرك به النار”. فليس هنا من صورة. ومصطلح الصورة إذا طبقناه على هذا المقطع فسيعبر عن تجسيد تخييلي، وعن لوحة قد تقارن بلوحة فنان يمكن أن يستوحيها بريشته، وعن الأشياء والشخصيات الأخرى المستوحاة تصريحياً أو ضمنياً في السياق. وعلى العكس حينما يطلب رابليه في المقطع المشهور جداً: “أما رأيت أبداً كلباً وهو يصادف عظمة دسمة”، فعلى الرغم من أنه يرجعنا إلى موضوعٍ ثانٍ، فنحن نتمكن هنا من استخدام لفظة “صورة” بمفهومها الخاص في المعجم البلاغي، حيث يعني هذا المصطلح عدة نماذج من الصور: كالتشبيه والاستعارة والتورية allégorie. ثم يقول: إذاً باستطاعتنا أن نقترح تعريفاً أولياً للصورة: الصورة بالمعنى الأسلوبي هي تجسيد لعلاقة لغوية بين شيئين (ص 22).
وفي حديث فرانسوا مورو عن “صور التماثل” يعرض الباحث موقفه النقدي من التشبيه والاستعارة فيقول: “من الأنسب إذاً ألاّ نهزل دراسة التشابيه عن دراسة الاستعارات لأنهما وجهان لقضيّة واحدة: الصورة”. (ص 30) ويضيف بعد قليل أنه “يجب عدم الوقوع في المبالغة بتوحيد هذين النموذجين من الصور على نحو ما”. فمن التشبيه إلى التطابق الاستعاري، ينأى الاختلاف عن أن يكون مهملاً، ولا يمكن شرحه فقط بوجود أداة تشبيه أو بإسقاطها. ولا شيء يبرهن على أن الذهن مجبر على المرور بالتشبيه كي يخلق استعارة.
وبرأي “مورو” أيضاً أنه لا يمكن التسليم بأن التشبيه، أقل إرضاءً، أو اقل جمالاً من الاستعارة، ولا يمكننا أن نقول العكس. ويبرهن على ذلك فيقول: “ولنلاحظ من منحى آخر، أنه عندما تقارن الصورتان، فسيكون التشبيه هو الأدنى، وهذه نتيجة خاطئة غالباً، لأن الطابع السكوني وابعاده الهامة إلى حدٍّ ما ليست عيوباً” (ص 32). وينقل عن “هـ. ميشونيك” أنه يأسف بحق على “ألفي سنة من سوء التقدير البلاغي والمنطقي كان التشبيه ضحيته”. ولذلك نرى “مورو” يعمل على كشف التشبيهات عند “رابليه” وجمالها.
أما في الباب الثاني الذي تحدث فيه عن صور التجاور، فنحن نراه ينطلق من الاستعارة والكناية والمجاز المرسل. ويقول إن المحسنات اللفظية من كناية ومجاز مرسل هي بالقياس إلى عبقرية ملهمة، أدوات أقل غنى وأقل قوة من الاستعارة. لأن تلك المحسنات التي تحترم الكون، تسبب انحسارات بين الطباع والعلاقات الموضوعية، على حين أن الاستعارة تسخر بعمق من التجربة الحسيّة، وترسي بين الأشياء تطابقات جزئية لا تقرّها هذه الأشياء ذاتها. فالكناية برأيه يندر أن تأخذ دوراً هاماً بين الصور المدهشة عند كاتب ما. أكيد أن بإمكان الكناية والمجاز المرسل أن يكونا نافعين أسلوبياً، لكنهما على العموم، أقل جذباً للانتباه، أي أنهما أسهل إدراكاً، وأقل أهمية من الاستعارات. (ص 76).
وفي الباب الثالث والأخير يتحدّث “مورو” عن “شروط وجود الصورة الأدبية” فيقول إن الصورة تغدو ملحوظة أكثر بقدر ما يكون طرفاها متباعدين أحدهما عن الآخر. ويستشهد بـ”بيير روفيردي P. Reverdy” الذي يرى بأن الصورة إبداع خالص للروح. وكلما كانت علاقات الواقعين المتقاربين بعيدة وصحيحة، صارت الصورة أمتن، وامتلكت قوة حركية، وواقعاً شعرياً.
وبرأي “مورو” ان ما يميز فعلاً أسلوبياً ما، هو حضور قصدٍ ما. وهذا القصد ليس جمالياً بالضرورة، فقد تكون الصورة جميلة، دون أن يكون الجمال هدفاً يبحث عنه مبدعها. ويمكن أن تكون وظيفتها هجائية وهزلية وتربوية، ولكنها أدبية لأنها مزودة بقصد أياً كان هذا القصد. وفي هذه الحال، حتى العبارات الجامدة، قد تصير أدبية، بشرط أن يخلق منها الكاتب استخداماً إرادياً، بهدف توليد أثر محدد. ويتبنى “مورو” ملاحظة “ستيفان أولمان” إذ يقول: عملياً يمكن للمرء أن يتعرّف الصورة من خلال حضور مزايا بارزة: الجدّة والقوة التعبيرية والنوعية التصويرية. لكن لا يوجد خط تمييز واضح بين الصور والأشكال الأخرى، مما يوجب أن نسمح بهامشٍ من ردود الفعل الشخصية وبوجود أحوالٍ متقاربة. وينتهي مورو أخيراً للقول: “يجب أن تطمح دراسة الصورة إلى وصف “الخيال الإبداعي” للكاتب الذي أبدع في بداية العالم، المماثلة والاستعارة. إذ المواد المستخدمة في الإبداع كله لا نجد أصلها إلاّ في أعمق أعماق الروح. فالإبداع يخلق عالماً جديداً ويولد الإحساس بالجديد”. (ص 154).
[فرانسوا مورو/ الصوة الأدبية/ ترجمة د. علي نجيب إبراهيم/ دار كنعان، دمشق، 2010.
المستقبل