هل يغير البشر العاديون وجه الشرق الأوسط؟
عرض لكتاب آصف بايات: الحياة كسياسة
بقلم: وائل السواح
ثمة نظرية تقول إنّ كلّ مكان في العالم قد تغيّر ماعدا المنطقة العربية. ففي كل مكان من العالم أنظمة قمعية تنهار كُرْها أو تتخلى عن دكتاتوريتها، وتتحوّل جزئيا أو كليا نحو الديمقراطية، وتتقدم الحريات الأساسية ويتعزز دور المرأة ويحلّ صندوق الاقتراع محل الانقلابات العسكرية وحكم الأجهزة. بالمقابل ما زالت المنطقة العربية بغالبيتها استثناء لهذا التوجه الكوني. فهل ثمة مشكلة بنيوية لا يمكن تخطيها أو تصحيحها.
الكاتب والأكاديمي الإيراني آصف بايات (1) يحاول الإجابة عن هذا السؤال في مؤلفه الجديد “الحياة باعتبارها سياسة : كيف يغيِّر الناس العاديون الشرقَ الأوسطَ. (2)” يحاول بايات في كتابه أن يبين كيف أن الناس العاديين في منطقة الشرق الأوسط يقومون بالفعل تدريجيا وببطء بعملية تغييرٍ لوجه هذه المنطقة. وهو يقصد بالناس العاديين ذلك الطيف الواسع من المهجَّرين في المدن والشباب المعَولَم والنساء والإسلام الاجتماعي، ويبين كيف أنهم يسعون للتأثير في عملية التغيير في مجتمعاتهم، وذلك بمجرد رفضهم الخروج من المسرح السياسي والاجتماعي التي تهمين عليها الدول الأوتوقراطية والسلطات الأخلاقية والاقتصادات النيوليبرالية. وهم بذلك إنما يكتشفون ويوجِدون مساحات جديدة يستطيعون فيها ومن خلالها التعبير عن معارضتهم ويؤكدون وجودهم في محاولة لتحسين حياتهم.
وللتعبير عن هذه الظاهرة، ينحت بايات مصطلحا جديدا هو “اللاحركة” (nonmovement). وفي تعريفه لهذا المصطلح، يقول بايات إن اللاحركة تشير إلى “الفعل الجمعي الناتج عن فاعلين غير جمعيين.” إنها تحتوي الممارسات المشتركة لأعداد هائلة من البشر العاديين الذين تُطلق أفعالهم الجزئية الفردية ولكن المتشابهة تغييرا اجتماعيا، رغم أن هذه الممارسات نادرا ما تكون موجَّهَة من قبل إيديولوجيا بعينها أو من قبل قيادات أو منظمات معروفة.
وتقوم فكرة بايات على أن اللاحركات، في الشرق الأوسط، تمثل تعبئة ملايين الأفراد من “الفئات الثانوية” (subaltern)، وبخاصة الفقراء والشباب والنساء. فأما لاحركة المهجَّرين والمهاجرين في المدن، التي يسميها “الزحف الهادئ للعاديين” فتتضمَّن التعبئة البطيئة لملايين الأفراد والأسر المنفصلة والمتناثرة، التي تحاول أن تحسَّن حياتها من خلال جهودها التي لا تكاد تحتوي على أية إيديولوجيا أو تنظيم سياسي. وبمزيد من التخصيص، يقول بايات إنه يشير في أطروحته إلى الحركة الجماعية للمهاجرين من الريف إلى المدينة الذين من خلال بحثهم عن حياة أفضل لهم ولعائلاتهم إنما يشرعون في حملة ثابتة وشاقة تقوم على احتلال “غير مشروع” للأرض والمأوى، مع ما يلحق ذلك من محاولات لتأمين المرافق الرئيسية من مياه شرب وكهرباء ومجارٍ للصرف وشبكات هاتف وطرق. ولتحصيل معاشهم يتخذ هؤلاء المهاجرون الرصيف وبعض الأماكن العامة الأخرى المفضَّلة لبيع بضاعتهم ورفع اللائحات التي تدعو لشراء ما لديهم. ويحاجج المؤلف أن الإسلام السياسي ليس له تأثير كبير على هذه الجماعات بقدر التأثير الذي تمارسه السياسات البراغماتية التي تلامس قضاياهم اليومية، والتي يعبرون عنها من خلال لاحركتهم المستمرة.
العنصر المؤثر الثاني في اللاحركات هو عنصر المرأة المسلمة (3) التي تعيش تحت هيمنة السلطة البطريركية، سواء أكانت دينية أم علمانية. ذلك أن الأنظمة الاستبدادية والرجال المحافظين يفرضون قيودا صارمة على النساء اللواتي يعملن على تحقيق المطالب المتعلقة بالجندر بشكل منهجي منظم، وخاصة عندما يحاولن دمج النساء العاديات في هذه الجهد، كما حدث في إيران في العام 2007، عندما قامت حركة نسوية بجمع مليون توقيع فتعرضت للقمع والإساءة والتوقيف. وقد تعرضت سيدات في مقتبل العمر للضرب ليس فقط على أيدي الشرطة الدينية ولكن أيضا على أيدي أولياء أمورهن من الذكور. وقد حدث ما يشبه ذلك في سورية عندما تم حلُّ جمعية نسوية سورية مرخصة عندما حاولت أخذ رأي سيدات ريفيات في موضوعة تعدد الزوجات وبعض مواد قانون الأحوال الشخصية، وقام رجال دين سوريون بتشويه سمعة السيدات القائمات على هذه الجمعية. وسواء أدركت النسوة عموما حجم هذا الضغط أم لا، فإنهن بدأن يسلكن سبيلا آخر، “ناعما” وغير مجابه، سبيلا يتناول الأشياء العادية والممارسات اليومية، كمتابعة التعليم وممارسة الرياضة والفنون والموسيقى والعمل خارج البيت. ولا تحجم هؤلاء النسوة عن الانخراط في الأعمال التي كانت حكرا على الرجال، كموظفي الحكومة والمهن العليا، بل إنهن بدأن – أيضا – يقمن بمهام الرجال الروتينية اليومية كالتعامل مع المصارف وأخذ السيارات إلى الميكانيكي للصيانة والمفاوضات مع السباكين والبنائين ومصلحي الثلاجات. وصرن يمارسن رياضة العدو الصباحية، ويركبن الخيل ويذهبن إلى صالات الرياضة، بشكل أكثر انتظاما. ورفعت النساء دعاوى قضائية أمام القضاء طالبات الطلاق والخلع والوصاية والولاية. وبهذا تكون النساء قد بدأن بتأسيس أنفسهن كلاعبين في الشأن العام، هادماتٍ بذلك الرؤيةَ النمطية عن التقسيم الجندري للعلاقة بين العام والخاص، والتي كانت تعطي الشأن العام للرجال والقضايا الخاصة للنساء.
العنصر الثالث الذي يعتبره بايات عنصرا رئيسا في اللاحركات هو عنصر الشباب. و بالتأكيد لا يتحدث بايات عن العناصر الشبيبيَّة المؤطرة في اتحاد ومنظمات شبيبيَّة غالبا ما تكون واقعة تحت تأثير السلطات الحاكمة، أو تأثير الحركات السياسية التقليدية. بالنسبة لبايات، الشباب هنا هم الشباب الذين يعملون من أجل كسب احترام المجتمع لهم وقبولهم بهم ومعاملتهم كمواطنين تامين، والاعتراف بحقهم في لبس ما يريدون لبسه وسماع ما يريدون سماعه وفي الظهور بالمظهر الذي يريدون، وباختصار – وفق بايات – حقهم في “المرح.”ولعل المعركة التي يخوضها الشبان فرادى ضد المجتمع وضد السلطة التطهرية المحافظة هي التي تجعلهم يشكلون لاحركة فاعلة وتضعهم في قلب عملية التغيير البطيء التي تجري في منطقة الشرق لأوسط.
ما الذي يميز الحركة عن اللاحركة في كتاب بايات؟ الحركة هي إطار “منظم، مستدام، واع بذاته للسلطات القائمة.” اللاحركة، من جانب آخر، هي “الفعل الجمعي الناتج عن فاعلين غير الجمعيين.” وهي تقوم على النشاط المباشر أكثر مما تقوم على أساس أيديولوجي. في الحركة، غالبا ما يلعب القادة دورا محوريا في توجيه نشاط الحركة وأهدافها، بينما يغيب دور القادة نهائيا في اللاحركة. وبينما يذهب نشاط الحركات الاجتماعية إلى أعمال غير اعتيادية تتجاوز الحياة العادية (مثل حضور الاجتماعات وتحضير العرائض والتظاهر، إلخ،) فإن اللاحركة تقوم على الفعل الاعتيادي اليومي الذي يمارسه أفراد هذه اللاحركة. وعلى هذا فإن نشاط اللاحركة لا يتعدى عمليا بناء الفقراء المهجرين لبيوتهم على أراض مخالفة، أو بيعهم بضائعهم في أماكن غير مسموح البيع فيها، أو محاولات النساء الذهاب إلى الجامعة أو اختيار الرياضة التي يفضلن أو تقرير شروط زواجهن، أو إصرار الشباب على الظهور بالشكل الذي يريدون وسماعهم الموسيقى التي يفضلون أو التسكع حيث يرغبون.
هل ثمة وجه شبه بين فكرة بايات عن اللاحركة وفكرة مايكل هاردت وأنطونيو نيغري عن “الجماهير؟” (4) الجواب أنه وإن بدا للوهلة الأولى أنَّ ثمة تشابها بين فكرة منظِّرَي النيو-ماركسية وفكرة بايات، فإن التشابه سرعان ما يزول لدى أول تدقيق في الفكرتين. فينما تقوم فكرة هاردت ونيغري على أن “الفرديات، أو الذاتيات الاجتماعية المختلفة انطولوجياً،” تتشابه على أساس تشاركها في إنتاج “العمل غير المادي” (immaterial labor) ووقوفها، إذن، في مواجهة الإمبراطورية،” (5) فإن فكرة اللاحركة تقوم على أساس كهربة فئات اجتماعية منقسمة داخليا، تتصرف بشكل مشترك، وإن كانت عبر جهود فردية ومتناقضة أحيانا. ما يجمع أعضاء اللاحركات هو مصلحتهم كأفراد، وخصوصا لدى مواجهتهم خطرا ما محدقا، بينما لا يبدو واضحا لدى هاردت ونيغري كيف يتمكن أعضاء الجماعات التي تشكل الجماهير من تجاوز تناقض المصالح بينها. مقولة هاردت ونيغري تقوم على أساس إديولوجي، بينمت تقوم فكرة بايات على أساس واقعي، وربما براغماتي أحيانا.
ويبقى سؤال: لماذا كانت اللاحركات هي الشكل المهيمن للنشاط في الشروط السياسية والاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط؟ ثمة عدة أسباب لذلك، كما يحددها بايات. أولها أن الأنظمة القمعية لا تتساهل مع الحركات المنظمة للفئات الثانوية التي لها أجندة سياسية محددة، وهي لذلك إما تقوم بتفتيتها أو احتوائها في منظماتها الشعبية. وثانيها أن الأنظمة التي تتحول إلى شكل من أشكال النيو-ليبرالية، دون المرور في مرحلة الليبرالية أساسا، تفشل في تأمين مأوى وفرص عمل وتأمين صحي لفئات كبيرة من الفئات الثانوية الفقيرة، وكذلك تفشل في إحقاق حقوق المرأة والشباب. وثالثها أن السلطات في المنطقة موضوع البحث عاجزة بسبب عدم امتلاكها القدرة والتقنيات والأدوات على السيطرة على كل المساحات العامة المتاحة للبشر، فإن بعض المناطق تبقى متاحة للفئات الثانوية لممارسة نشاطها فيها على شكل لاحركات.
ووفقا لكتاب بايات فإن هذه الكتلة البشرية قد بدأت بالفعل بتغيير شكل المدن في الشرق الأوسط. ولكن الكاتب لا يعطي حكم قيمة على هذا التغيير. كما أنه لا يريدنا أن نلقي كثيرا من التفاؤل على إمكانية تحقيق تغيير سريع في المنطقة، لأن فكرة اللاحركة تقوم على أساس الفاعلية البطيئة والتحتية وطويلة الأمد.