صفحات الحوار

إعادة اختراع إسرائيل

null


ريجيس ديبري يحاور افراهام يورغ

ترجمة و تعليق: هشام الحاجي

هذه ترجمة لحوار نشرته مجلة “نوفال أوبسترافاوتور” الفرنسية، و كان طرفاه المفكر ريجيس ديبري Régis Debray ورئيس الكنيست السابق أفراهام بورغ Avraham Bourg الذي فضّل الاستقالة وأخذ يفكر في أسباب المأزق الذي تردى فيه المشروع الصهيوني.

ريجيس ديبري: هناك شيء لافت لانتباه القارئ الفرنسي و يتمثل في أن كتابك ” الانتصار على هتلر” الذي أثار نقاشات ساخنة و متحمسة، هو كتاب إسرائيلي تقدمي وحداثي لكنه أيضا يقوم شاهدا على تأصلك التوارتي و على مسيرة تدين حقيقية. في حين أنه بالنسبة لنا هناك هذا الوجه أو ذاك.

أفراهام بورغ: لا ينفك الإسرائليون يسألونني ما إذا كنت أرثوذكسيا، محافظا، إصلاحيا أو علمانيّا، وأنا غير هذه التصنيفات، أنا يهودي بروتستاني وأتكفل بمفردي بعلاقتي مع خالقي. وإن كانت مسألة لم أتفق حولها إطلاقا مع والدي، الذي تولى لفترات طويلة الوزارة و إدارة الحزب القومي، ألاورتودكسي.

لقد كان يعتقد أن دولة إسرائيل كانت بشكل ما فجر خلاصنا الديني. من ناحيتي فإن لي خوفا شديدا من الدولة الرّسالية، إن الدولة بالنسبة لي هي أداة و جهاز إني بالفعل علماني جدا في تصوري للدولة و من الأشياء الغريبة أن والدي هو الذي علّمني مفهوم الفصل بين الدين والدولة. لقد كان في نهاية ثلاثينات و بداية أربعينات القرن الماضي أستاذا في معهد بتل أبيب.

و كان يضع القبعة اليهودية حين يدرس التلمود لكنه ينزعها حين يدرّس التاريخ. لقد كان ذلك يعني أيضا فصلا ماديا بين الحقيقة المقدسة والحقيقة العلمانية, الشخصيّة و الإنسانية.

في كتابكم تعتبرون أنّ اليهود قد أحرقتهم المحرقة وأنا أرى أن العرب يتعامون عن المحرقة وهنا جانب التراجيديا. هل ستصبح المحرقة دين من لم يبق لهم دين؟ و كيف نتملكها و نستردها دون أن نكون أسراها؟

لم أستطع لسنوات طويلة أن أطرح سؤال المحرقة، ماذا حصل مع الهولوكست؟ لقد صادرت الإيديولوجيا الصهيونية الهولكست حين أعلنت أنه حدث وحيد وفريد ليس في التاريخ العالمي فقط بل كذلك في التاريخ اليهودي. وأعتقد أن أول أمر يتعين فعله هو إعادة إدماج الهولكست في التاريخ اليهودي. و حين نقبل أنّه يمثل جزءا من هذا التاريخ سنجد الوسائل لإدماجه كما فعلنا في هدم الهيكل أو طرد اليهود من إسبانيا، لنُعدْ الهولكست للتاريخ اليهودي عوض إبقائه كميطا تاريخ.

ترفضون أن تجعلوا منه مطلقا؟

نعم، إنه قضية إنسانية، لقد كان النازيون بشرا، بشر سيئون لكنهم بشر،والضحايا كانوا بشرا.

إن دولة إسرائيل توجد اليوم في مفترق طرق، فخلال المائة عام الأخيرة كانت لإسرائيل ثلاث مشاريع كبرى. المشروع الأوّل هو تجميع المنفيّين والثاني ضمان استقرارهم فوق الأرض أمّا المشروع الثالث فهو ضمان السلامة الجسدية للشعب اليهودي، و هذه المشاريع الثلاثة الضخمة لم تعد تشتغل كما كانت تفعل ذلك من قبل بوصفها الإسمنت الذي يدعم التماسك القومي فمنذ زوال الإتحاد السوفياتي تعيش الأغلبية الكبرى لليهود في أنظمة ديمقراطية.

هناك خمسة و عشرون ألف يهودي في إيران و أربعة آلاف في المغرب وإثنان في أفغانستان لا يقيمان أدنى اتصال فيما بينهما بل و لا يرتادان الكنيس اليهودي!!

لقد أضحت الأغلبية الساحقة لليهود في منأى عن الخطر. لقد تحقق تبعا لذلك شعار “أترك شعبي يرحل”. أما المشروع الثاني – الإستقرار فوق الأرض – فقد اشتعل بشكل ناجع و لافت من أجل خلق الإنسان اليهودي الجديد و ذلك إلى حدود سنة 1967 حين صادر الأصوليون القوميون الرساليون هذا المشروع. فتحول الإستقرار إلى استعمار وكف عن الإضطلاع بدوره كاسطورة جماعية ليتحول إلى مصدر انقسام. وفي ما يتعلق بمسألة أمن إسرائيل فقد كفت عن أن تكون هدفا لتتحول إلى مشكلة مع الإنزلاق السريع للنخبة العسكرية نحو النخبة السياسية. إنّنا اليوم بلد يستطيع فيه جنرال أن يصبح وزير أوّل بين يوم وآخر. وهذا من شأنه أن يخلق الشعور أن ليس هناك ولن يكون- جيش الشعب بل أنّ إسرائيل هي جيش له شغب.

وأعتقد أنّه، حين يكون الصراع مع الفلسطينيين قد وقع حله بطريقة أو بأخرى، و بدعم الأمم، يمكننا عندئذ أن نوجد مقومات و مرتكزات مشروع جديد للاسرائليين. سيكون هذا المشروع هو البعد الكوني لالتزامنا في الساحة العالمية. إنّ ما أحاول القيام به هو، في العمق، إعادة إقحام الإنساني والكوني كأسس لأسطورة مستقبل للشعب اليهودي.

إنكم تكتبون أن دولة الأحبار والجنرالات ليست كابوسا مستحيل التحقق،وتكتبون أيضا أنّه يجب إختراع إسرائيل سليمة وأنّه دون ذلك يمكن لإسرائيل أن تزول. ما هي إسرائيل السليمة؟ بلد دون جيش و لا دين لكن فيه كما يقول هرتزل يوجد الجنرالات في الثكنة والأحبار في الكنيس؟

في إسرائيل، و ربما لأنه بلد شاب أو بسبب الضغوط الخارجية، لا يوجد فصل واضح و جلي بين مختلف السلطات. و حسب رأيي فإن الدولة وحدها هي التي تجسد سلطة ديمقراطية، لرجال مسؤولين عن مصير رجال آخرين، إن مصدر سلطة الأحبار هو رباني، ديني وثيوقراطي وسلطتهم تبعا لذلك ليست ديمقراطيّة. أمّا بالنسبة للعسكريين فهذا موضوع آخر، إن السلطة العسكرية هي سلطة عمودية: أنا أعطي الأوامر وأنتم تطيعون. والسلطة الديمقراطية هي سلطة أفقية: أخاطبكم و نحن متفقان و نذهب معا إلى شخص ثالث لإقناعه و لمحاورة خلق توافق. إنّ انتقال العسكريين الذين تلقوا تكوينا على السلطة العمودية ودون تأقلم مسبق وناجع إلى المسؤوليات السياسية الأفقية ولمراقبة مقدرات وأجهزة الدولة هو أمر خطير للمسار الديمقراطي.

إنك مازلت متفائلا للغاية لحد الآن شخصيا لم يبق عندي إيمانا أنّ تلك المقولة القديمة “تشاؤم العقل و تفاؤل الإرادة” حين ننظر للأمر على عين المكان و نبعد عن شاشاتنا الدخان الديبلوماسي يمكن أن يتملكنا اليأس والإحباط، ذلك أن ضغطا دوليا قويا هو القادر وحده على تغيير السياسة الاسرائيليّة. و لممارسة تأثير أصيل وحقيقي هناك مرشحان ممكنان: أوروبا و الولايات المتحدة والواحدة منهما أشد عجزا من الأخرى، أوروبا عاجزة لأن لديها شعور بالذنب بسبب المحرقة ومن غير الممكن التفكير فيه أن يضع سياسي ألماني وفرنسي شروطا لإسرائيل و الولايات المتحدة لأنّ شعبها يعتقد أيضا أنّه “ابن الإنجيل”، الشعب الثاني المختار، الأصغر.

هذا صحيح، وعندي أحيانا الانطباع بأنه كل أربعة سنوات يتوجه مائة وخمسة و ستون مليون أمريكي إلى صناديق الاقتراع لانتخاب أفضل رئيس لإسرائيل.

و هذا الانطباع ليس مجانبا للصواب.

وانطلاقا من هنا يبدأ تفكيري حول حل ممكن للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لنطرح على أنفسنا سؤالَ: لماذا كانت سنوات التسعينات من القرن الماضي عشرية طيبة؟ سقوط الحائط (حائط برلين.م) اتفاقيات أوسلو و نهاية الفصل العنصري. ولماذا نجد أنفسنا اليوم، بعد عشر سنوات، محاطين بالأزمات من كل جانب؟ سأعطيك على الأقل إجابة: إنّ شخصية “الأب الذي يقبع في البيت الأبيض تملي الخطاب في صلب عائلة الأمم. إذا كان “الأب” يدعو للحوار و ينادي به، فمهما كان النزاع فإن الأزمات سيقع حلها عندها عبر التفاوض. أما إذا كان الذي يجلس في البيت الأبيض لا مباليا متنطعا فسيضحى “الأبناء” عنيفين. وأرجو أن تنتخب الولايات المتحدة في شهر نوفمبر رجل حوار.

هل يمر إيجاد حل للمشكلة الإسرائيلية – الفلسطينيّة حسب رأيكم دائما عبر تواجد دولتين، على الورق هذا هو الحل الأمثل لكن على الميدان فإنّه حل طوباوي أو يقوم على الحنين.

لقد عشنا على امتداد سنوات على أمل هذا الحل و قبل ثلاثين عاما كانوا ينظرون لي كما لو كنت حصان طروادة أو كخائن، و اليوم هذا هو موقف الوزير الأول. ولكن للأسف أعتقد أن أيام الحل القائم على دولتين قد أضحت معدودة، إننا نسير نحو حلّ الدولة الوحيدة بأسياد وعبيد إن لم تكن إسرائيل مستعدة لإطلاق سراح المستوطنات التي اتخذتها كرهائن، و الدولة الواحدة يحلم بها الفلسطينيون الذين يعلمون أنهم سيشكلون في يوم أو في آخر الأغلبية. و هناك بالتالي و حول هذه النقطة شكلا من التعاون الديالكتيكي بين الفلسطينيين و القوميين المتطرفين القوميين الإسرائيليين.

إنك طوباوي له إحساس استراتيجي و هذا أمر يبعث على الاطمئنان. إسرائيل بالنسبة لك هي إلى حد ما في وضعية جمهورية وايمرعشية الكارثة. تنسى هنا اختلافا مهما لم يكن وراء جمهورية وايمر إلا الهزائم في حين ليس لإسرائيل إلا الانتصارات العسكرية.

منذ 1973 و نحن نحقق نجاحات تكتيكية في حين أن هزائمنا هي استراتيجية.

التعليق:

يصعب على الكلمات أن تحيط بحجم معاناة الشعب الفلسطيني على امتداد ستين عاما من التعرض لعملية تهجير قسري مع ما يلزم من التهجير من ممارسات تتنافى مع فلسفة حقوق الإنسان و تلامس سياسات التطهير العرقي مع ما يسند لهذه السياسات من تصوّرات عنصريّة.

و لا شكّ أن الذكرى الستين لقيام دولة “إسرائيل” تمثل امتحانا جديدا وجديا للفكر السياسي العربي حتى يعيد التفكير في واقع الصراع العربي الصهيوني و أساسا في آفاق هذا الصراع في الوقت الذي تشهد فيه الإنسانية حركيّة متناقضة بين التخلص من الاستعمار و من ناحية و توجه البعض لإعادته من ناحية أخرى.

و إذا كان الامتحان يستدعى مراجعة المنطلقات و تقييم التجارب فإنه يفرض أيضا مسألة اللغة والتوقف عند دلالتها تماما كما يفرض التقاط الإشارات التي تصدر عن الطرفين المعنيين بالصراع ونعني بهما الفلسطينيين و الإسرائيليين.

و هذه المهام التي نعتبرها ضرورية تدعو للانطلاق من بعض الآليات الانفعالية التي يحتمي بها العرب للإشارة إلى استعمار فلسطين و قيام دولة الإيديولوجيا الصهيونية.

ذلك أنّ هذه الآليات المشعة بعبارة الفجيعة قد تكون قادرة على التعبير على حجم ما وقع وأصاب الشعب الفلسطيني، لكنها تبدو عاجزة على أن تعمل مضمونا سياسيا مستقبلا لأن في إبداء التفجّع ترويجا للعجز و تشويها للوعي و حدّا من الفعل و إعاقة بالتالي للقدرة على استرداد الحقوق. ويبدو مفيدا في هذا المستوى تبني المقاربة التي أخذ يطوّرها السياسي الفلسطيني مصطفى البرغوثي مثلا من خلال النظر للقضية الفلسطينية على أنّها قضية شعب يتعرض من ستين عاما لعملية تطهير عرقي ممنهج يحق له أن يتصدى له و يجب على الإنسانية أن تسانده في ذلك و أن تدافع معه عن حقين أساسيين و هما حقه في استرداد سيادته و إقامة دولته و حقه في العودة.

و هذه المقاربة تتغذى بكل تأكيد بما في السنوات الستين التي أعقبت قيام كيان إسرائيل وما سبقها من مواجهات في ظل تمسك الشعب الفلسطيني بأرضه، من معاناة وآلام لا يمكن تحملها إلا من شعب مناضل لأنّه لا يمكن لأي كائن أن يتصور كم تستغرق من الوقت لحظة واحدة من المعاناة.

شعب يدافع عن أرضه و وطنه و حقه في أن يتمتع بما تتمتع به بقية الشعوب وهو ما يجعل الفلسطينيين الشعب الوحيد الذي يدافع اليوم عن الحقيقة في عالم لم يعد يكترث بالحقيقة و لا يقيم وزنا للمبادئ و القيم لأن ما يحرّكه هو المصالح الآنية الضيقة و لا شيء سواها تقريبا.

هناك مستوى آخر وهو مستوى الدلالات و ما تقوم عليه قراءة هذه الدلالات في الغالب من اعتبارات ذاتية سواء كانت الذات فردا أو نظريّة. إلى بعدها الجماعي في هذا المستوى نعتقد أنه من اللافت جدا أن احتفالات الفلسطينيين بالذكرى الستين لاحتلال أراضيهم اتخذت من خلال رمزية المفتاح و العلم ذي الألوان الأربعة بعدا سياسيا قوامه التمسك بحق العودة و بتأكيد السياسة الوطنية في حين سعى الصهاينة لطبخ أكبر صحن حمص في العالم بحثا عن جذور وهمية مع المنطقة و تأكيد على أن مشروعهم لا يقوم إلا على نفي الآخر وسلبه كل مكونات هويته محاولة مصادرة كل تمظهرات وجوده حتى و إن كانت عرضية و تأكيدا أيضا على عدم الثقة في المستقبل.

إنّ فقدان الثقة في المستقبل قد أضحى توجها واضحا في الفكر الصهيوني في السنوات الأخيرة وهو ما يمثل مفارقة مع ما يتكدس لدى الكيان المجسد لهذا الفكر من مقومات القوة العسكرية و التمكن التقني. و يبدو مهما أن ينكبّ الفكر العربي على تحليل هذه المفارقة و على كشف أسبابها وانعكاساتها بعيدا عن كل نزعة انتصارية تتوهم أن السيطرة على اللغة تمثل سيطرة على المصير و تعتقد أنّ حصر سلبيات الخصم يكفيها مؤونة القضاء على عيوبها، و يعفيها من مكابدة الصعاب و مواجهة التحديات و لا يمكن لعملية الترجمة و محاولة فهم الكيفية التي يفكر بها الخصم والوقوف على التناقضات التي تشق كيانه أن تكون فاعلة بالنسبة لنا إلا إذا تجنبنا ما يسعى إليه البعض من خلط بين الإطلاع و تبني المواقف لأنّ هناك فوارق جلية ومسافات واضحة بين الأمرين خاصة وأننا لا نقبل إطلاقا “المسلمات” والمضمرات التي يقوم عليها الخطاب الصهيوني لتسويغ مشروعه العنصري و الاستعماري.

هذه بعض الاعتبارات التي تقف وراء ترجمة هذا الحوار الذي نشرته مجلة “نوفال أوبسترافاوتور” الفرنسية و كان طرفاه المفكر ريجيس ديبري و رئيس الكنيست السابق أفراهام بورغ الذي فضّل الاستقالة و أخذ يفكر في أسباب المأزق الذي تردى فيه المشروع الصهيوني.

و هذا التفكير يتعين النظر إليه و قراءة ما ينتج عنه من استنتاجات دون تضخم في دوره أو استهانة من قدرته على إصابة بعض مسلمات “دولة” قامت على السرقة والجريمة المنظمة و الكذب وتجعلها هشة ترفض كل نقد يوجه للأسس التي تقوم عليها حتى وإن كان هذا النقد بسيطا ومحدودا. ودون إطالة نمر للحوار الذي جمع أفراهام بورغ و ريجيس إبري على صفحات مجلة “لونوفال أوبسرفاتور” في عددها 2270 الصادر يوم 8 ماي 2008 و الذي تولى إنجازه الصحفيان فرنسوا رماني و جيل الكيتيل.

موقع الاوان


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى