ليبيا العصية؟
نهلة الشهال
هناك سرٌ، بل أسرار تحيط بالموقف الدولي من ليبيا، الذي تأخر كثيراً في الإعلان عن نفسه، وحين فعل كان مائعاً بشكل لا يتناسب أبداً مع آلاف القتلى والجرحى الذين سقطوا خلال أيام معدودة، وهو يتنافر خصوصاً مع الخطاب الدموي للقذافي، ومن قبله ابنه.
الهيئات الدولية، والقانون الدولي، أمام تحد كبير. فهي في السابق أبانت عن خفة مريعة لجهة سهولة اتخاذ قرارات الإدانة والعقوبات، بل تزوير مبرراتها. وتلك كلها كانت تشي بغرَضية سياسية فاضحة، سواء تعلق الأمر بالعراق أو إيران أو لبنان، هذا إذا اكتفينا بالمنطقة. ولا يفعل الصمت والخجل الحاليان سوى تعزيز تلك الغرَضية السالفة. فنحن اليوم أمام وجهة إجرامية معلنة لحاكم ممسوس، قرأ أمام الملأ بنود قانون انقلب عليه هو نفسه، يقول إن الإعدام هو عقوبة كل تفصيل يحدث أمامه. ثم استخدم صراحة مفردات تعبر عن نيته ارتكاب الإبادة الجماعية.
والتحدي أمام الهيئات والقوانين الدولية مركَّب. فما تطالب به أصوات ليبية معارضة، تبدو في غاية التنوع ولكنها تتقاسم عقلانية مدهشة، وما يقبل به الضمير الجمعي للعالم بعد فجائع العراق وأفغانستان، ليس عقوبات على ليبيا نفسها كدولة، مما ينعكس ضرراً على المجتمع وعلى فئاته الأكثر هشاشة، وليس بالطبع تدخلاً عسكرياً، بل أفعالاً مغايرة. فما هي تلك؟ هذا هو التحدي الذي يمكن للوفاء به أن يتيح بدء ولادة شرعة دولية تتحلى بشيء من الإنسانية، وتخدم البشرية جمعاء، وليس مصالح واشنطن كما هو حاصل حتى الآن. سيما وأن واشنطن تلك ما زالت غارقة في وحول العراق وأفغانستان، وهي لا تكف عن تجديد بشاعتها، بدليل الفيتو الأخير، والذي انفردت به في مجلس الأمن، ضد إدانة الاستيطان الإسرائيلي!
قد يقال إن مصدر الارتباك الدولي هو تحديداً الخشية من جنون الرجل ومن ارتكابه ما هو أعظم. ولكن ذلك لا يفسر الصمت الثقيل في الأيام الأولى، ثم الالتباس في الكلام عن «العنف الذي ينبغي توقفه» وعن «العودة إلى وضع طبيعي». وكان يجدر بوزيرة الخارجية الأميركية أن تقدِّر وقع الكلمات القليلة والفاترة التي تفوهت بها عقب خطاب القذافي مباشرة، والتي لا يمكن أن يفهمها الرجل إلا كضوء أخضر لما هدد به، بينما عبرت المستشارة الألمانية ميركل عن موقف مغاير، وإن لم يحمل مقترحات وحلولاً، حين وصفت خطاب القذافي بالمرعب. وهذا أضعف الإيمان!
لعله الجهل التام بليبيا، وبآليات الحراك فيها، إذ لم يتوقع أحد هذا الانفجار ولا السياق الذي اتخذه. هذا على رغم وجود مئات الباحثين والسياسيين الليبيين المعارضين، الذين ينشطون في الخارج، وفي عواصم غربية. فما سر إهمال هؤلاء طوال تلك السنين، بحيث لا نجد إلا نصوصاً بحثية نادرة عن هذا البلد؟ هل كان المنطق المهيمن يرى في القذافي حالة مؤبَدة ينبغي صرف كل الجهود نحو التعامل معها واحتوائها وإعادة تشكيلها على ما ظن الأميركيون أنهم فعلوا في العقد الأخير. وهل كان يطغى على عقولهم أن ابنه «المودرن»، خريج «مدرسة لندن للاقتصاد»، سيخلفه، وكفى المؤمنين القتال؟ ولولا خشية الإسفاف لتساءلنا عن مقدار ما درس الابن فعلاً، بينما تُشاع اليوم الأرقام الخيالية التي تبرع بها لتلك الـمـدرسـة بحـجة «التعاون» البحثي والتدريبي معها… حتى تلك المدرسة LSE لا تنجو من ذلك الجشع الأعمى؟! ثم تراهم يتساءلون عن أسباب انحطاط «الغرب» وأفوله!
لعله الخوف من وجود مجموعات ليبية مسلحة التحقت بالقاعدة، وتميز أفرادها في أفغانستان والعراق وقبلهما البوسنة. ما قاله سيف الإسلام، الابن المثقف، هازاً سبابته متوعداً، ساخراً باطمئنان من سذاجة الناس: الغرب لن يسمح بنشوء إمارة إسلامية في ليبيا. الغرب لن يسمح بانفلات الحالة الأمنية على آلاف الكيلومترات الساحلية حيث يمكن لملايين الأفارقة التدفق على أوروبا الواقعة فعلاً على مرمى حجر. الغرب لن يسمح بتهديد مصادر توريد النفط والغاز الوفيرين، والقريبين، والرخيصين. اختصار فعّال لما يراه الحكم القائم في ليبيا كمميزات له، ربما سبق له التفاوض بشأنها مع ذلك الغرب، وهو ما زال يعتقد باستمرار صلاحيتها، بدليل ابتلاع ذلك الغرب لألسنته.
لعله الافتقاد إلى بدائل مرصودة، يمكنها الوفاء بالغرض. فبخلاف الحالتين التونسية والمصرية، لا يبدو أن ليبيا تمتلك مؤسسات دولتية أو سياسية يمكنها الحلول محل العائلة الحاكمة، وفق معادلة «التخلص من رأس النظام إنقاذاً للنظام نفسه». ولا يبدو أن هناك علاقات دولية أو حتى إقليمية لرجالات يمكنهم لعب دور الاحتياط. ولعل التفكك الذي تشهده المؤسسات الليبية يعبر عن هذه الخاصية، حيث يستقيل الضباط والديبلوماسيون بطريقة فردية، ويلتحقون بالانتفاضة.
ولا يمكن الاكتفاء بتفسير هذا القحط بطبيعة البنية الاجتماعية لليبيا، التي يردد الجميع اليوم أنها قبلية. فاليمن أيضاً قبَلي، ولكنه يتوافر على أحزاب وتحالفات سياسية فاعلة، بلورت مشاريع وبرامج سياسية، واستراتيجيات وتكتيكات، بل هي تُدخل في تحركها المعطى القبلي، وتمارس معه بهذا القدر أو ذاك من التوفيق، تسويات سياسية.
هل هناك، عدا كل ذلك، صفقات أو حسابات (وليس اعتبارات)، تجعل العواصم الغربية متأنية إلى هذا الحد؟ صفقات مخيفة تخص أفريقيا على ما تُردِّد الإشاعات. هل هم، بهذا المعنى، يدعمون استعادة القذافي، الذي بات في غاية الضعف، لزمام الأمور، كأفضل حل لهم؟ يبدو هذا قد أصبح أقرب إلى المستحيل بعدما أفلتت مناطق البلاد من يده، ومن غير المؤكد أنه بقيت في حوزته أجهزة قمعية وفيّة وقادرة على الفعالية. أو هي حسابات تريد الانزلاق بالموقف في ليبيا إلى ما يسهّل وضعها تحت وصاية دولية، ما يقال له اليوم «المثال العراقي».
أي هل ينتظر هؤلاء القوم ارتكاب القذافي لمجزرته الكبرى فيتدخلون، حينما يكون هول ما جرى يمنع أياً كان من تفحص خيارات تدخلهم؟
هذا كله، علماً أنه في ليبيا، على ما أشار عدد كبير ممن استُنطق من الليبيين، كما في كل مكان من أقصى المنطقة إلى أقصاها، على التنوع الكبير في بناها ومعطياتها، وسواء حيث حدثت الانتفاضات أو لم تحدث، تتكرر المطالبة بـ «هيئة تأسيسية» تعيد صوغ العقد الاجتماعي بين الدولة والناس، وهو برنامج أو تطلُّب يتجاوز كثيراً مجرد صياغة دستورٍ جديد. إنه ينبئ بمقدار الخراب الذي لحق ببلدان هذه المنطقة في ظل الأنظمة الشوهاء التي رزحت على صدورها. وهو يعلن في الوقت نفسه ولادة حقبة جديدة.
الحياة