حركة شعبية بلاأحزاب أطاحت بالحكم التونسي
محمد سيد رصاص
لم يتحمل الحبيب بورقيبة أحداً ،لافي السلطة،ولافي المعارضة:أبعد العروبي صالح بن يوسف عن السلطة في عام1961،ثم أتبعه بوزير التخطيط والاقتصاد أحمد بن صالح في نهاية الستينيات بعد تجربته الفاشلة في “التعاونيات” بالقطاع الزراعي،ومن ثم أتبع بهما أصحاب التوجه الليبرالي مثل وزير الداخلية أحمد المستيري(1971)ورئيسا الوزراء الهادي نويرة(1980)ومحمد مزالي(1986).في المعارضة ضرب الحزب الشيوعي في عام1962،وفي السبعينيات لاحق بعنف التنظيمات القومية العروبية والماركسية الماوية مثل “منظمة العامل التونسي”،وعندما أعطى الحزب الشيوعي الحرية بالنشاط العلني في تموزيوليو1981هو و(حركة الديمقراطيين الاشتراكيين)بزعامة المستيري فإن هذا كان مسبوقاً بشهر شنً فيه حملة أمنية كبيرة على “حركة الاتجاه الاسلامي” بقيادة راشد الغنوشي.
كانت قدرة بورقيبة على العوم في رأس هرم السلطة التونسية مستندة إلى رصيده الوطني خلال فترة الكفاح من أجل استقلال تونس،وإلى انجازات اقتصادية،وتحديثات تشريعية،أمنَت له قاعدة اجتماعية عريضة خاصة في الفئات المدينية الوسطى وبالذات في المدن الساحلية،وإلى دعم خارجي من باريس،وواشنطن،في وجه الرئيس عبد الناصر في القاهرة،وحكم جزائري ،في عهدي بن بيلاً وبومدين،لم تكن ترتاح لهما فرنسة والولايات المتحدة.
مع هذا،فإن فترة مابعد إقالة محمد مزالي،في عام1986،قد أظهرت فراغاً في المؤسسة التونسية الحاكمة تحت ظل رئيس قد بدأ يعاني من أمراض الشيخوخة،لم يستطع الجيش، المهمش الدور في تونس البورقيبية بخلاف أغلب العواصم العربية،أن يملأه،ولاالحزب”الحاكم”،ولاالجهاز الإداري الذي كان يلعب دوراً بارزاً في تسيير مؤسسات السلطة التونسية لم تصل له باقي الإدارات العربية:قام بمل ذلك الفراغ شخص،اسمه زين العابدين بن علي، صعد من المؤسسة الأمنية إلى الطابق العلوي من السلطة السياسية،خلال أشهر قليلة من النصف الثاني من عام1987،قبل أن يتولى خلافة بورقيبة في يوم7نوفمبرتشرين ثاني1987:قالت (حركة الاتجاه الاسلامي)،التي كان قائدها الغنوشي في السجن البورقيبي ومحكوماً بالمؤبد،،عن(بيان7نوفمبر)أنه”أدخل البلاد في طور جديد سيقطع مع أساليب الحكم الفردي”،كما رحب بالعهد الجديد كل من الحزب الشيوعي(أصبح اسمه منذ عام1994:حركة التجديد)،وحركة المستيري،و(التجمع الاشتراكي التقدمي:اسمه”الحزب الديمقراطي التقدمي”منذ1988)،وقد وقعت هذه الأحزاب والحركات(إضافة إلى أحزاب وحركات أقل أهمية ولكن مرخصة) مع الحزب “الحاكم” ،الذي أصبح اسمه “التجمع الدستوري الديمقراطي” منذ تموز1988،على وثيقة”الميثاق الوطني”(7نوفمبر1988) التي تنص على “مبدأ الديمقراطية المستند إلى تعدد الأحزاب”،وقد أعطيت خلال عام 1988حتى التنظيمات غير المرخصة،مثل(حركة الاتجاه الاسلامي) و(حزب العمال الشيوعي)،ترخيصات لنشراتها،مع حريات فعلية لممارسة النشاط العلني.
ولكن منذ عام1988،بدأت ملامح الدولة الأمنية بالظهور:انتقال كادرات المؤسسة الأمنية إلى الوزارات والإدارات وحزب السلطة،في تجربة لاتوازها ربما سوى تجربة فلاديمير بوتين الآتي،مثل بن علي،من الجهاز الأمني في آخر عهد يلتسين بعام1999،وأيضاً كرئيس للوزراء قبل أن يخلف الأخير.كان هذا الانتقال مترافقاً مع تصفية بقايا”الحرس القديم”البورقيبي من حزب السلطة ومن الإدارة ،ومع ضرب مركز القوة المتبقي من العهد القديم،المتمثل في(الاتحاد العام التونسي للشغل)،الذي وقف أمينه العام الحبيب عاشور،وأحياناً بتشجيع من بورقيبة،بوجه نويرة ومزالي.
حصلت صدمة كبرى لنظام بن علي في انتخابات برلمان2نيسانإبريل1989:نالت(حركة النهضة)،التي قدمت في شباط السابق طلباً لرخصة قانونية بهذا الاسم لم تنلها كبديل عن اسم (حركة الاتجاه الاسلامي)،أصواتاً بلغت17%من مجموع أصوات المقترعين في القوائم التي دعمتها،ولم تنل كل الأحزاب الستة المرخصة سوى3%،فيماحصل حزب السلطة على80%. كان من الواضح،منذ اليوم التالي لتلك الانتخابات،أن الصدام بين السلطة والاسلاميين هو مسألة وقت،وقد لعب بن علي على ذعر باريس فرانسوا ميتران من صعود اسلاميي الجزائر المتنامي في ذلك العام(والذي كانت هناك الكثير من المؤشرات، في تلك الفترة، على تشجيع “ما”من قبل واشنطن له لاستخدامه من أجل نزع النفوذ الفرنسي في الجزائر) لضمان غطاء فرنسي لتحركه ضد الاسلاميين،قبل أن يتحرك،بعد مرحلة من التضييق عليهم،لضرب(حركة النهضة)في أيارمايو1991بعد توضح تباعد واشنطن عن الحركة الاسلامية العالمية خلال حرب الخليج بعام1991،التي كانت أول مؤشر على انفراط تحالفهما الذي كان طوال فترة الحرب الباردة بين الأميركان والسوفيات. لم يقتصر بن علي على ضمان حلفاء دوليين ضد الاسلاميين،أواقليميين مثل القاهرة،وإنما وضع في جيبه كل الأحزاب المرخصة أثناء ذلك الصراع،وحتى الحزب غير المرخص والذي لم يكن محتوى من السلطة،مثل(حزب العمال الشيوعي )،قد انجرف في موجة عداء السلطة للاسلاميين عبر منظورفكري وليس سياسياً،عندما أصدر زعيمه حمة الهمامي كتابه :”ضد الظلامية” في تلك الفترة،قبل أن يقوم النظام بحملة اعتقالات شاملة في صيف1992ضد(حزب العمال)،بعد انتهائه من ضرب الاسلاميين. في نفس السياق،كان أيديولوجيي حزب السلطة كلهم من الماويين السابقين في “منظمة العامل التونسي”،مثل منصف خوجة رئيس تحريرصحيفة “التجديد”،الناطقة باسم(التجمع الدستوري)،أووزير التربية محمد الشرفي،الذين كانت ماركسيتهم السابقة قد تحوَلت إلى علمانية- فرانكوفونية معادية للاسلاميين والعروبة.
عندما حاول أمين عام(حركة الديمقراطيين الاشتراكيين) محمد مواعدة الخروج عن المرسوم سلطوياً في عام1995،بعد اكتشافه سراب وعود السلطة ب”تحقيق الديمقراطية”بعد التفرغ من أمر الاسلاميين،كان مصيره السجن والمحاكمة :خلال التسعينيات،أصبح بن علي نموذجاً مدللاً عند الغربين الأوروبي والأميركي، وقدكان يشار آنذاك إلى نجاحاته ضد الاسلاميين ،التي فاقت ماجرى في القاهرة والجزائر،وإلى نجاحاته الاقتصادية،التي جرت في نموذج،كان يذكر بنموذج بينوشيت في تشيلي السبعينيات بعد انقلاب11أيلول 1973المدعوم أميركياً ضد الحكومة المنتخبة للرئيس سلفادورأليندي،لماتمً جمع القمع العاري للسلطات مع السياسة الاقتصادية الليبرالية،التي دعمتها في سانتياغو أيضاً في البداية فئات وسطى ورجال أعمال.
كان الوضع في تونس مختلفاً في تفاصيله عن سانتياغو:لم تكن المؤسسة العسكرية هي الحاكمة،كما في تشيلي1973-1990،وإنما حاكم فرد استند،إضافة للدعم الدولي،إلى أجهزة الأمن التي امتدت أذرعها لكافة مفاصل السلطة وتحكَمت في الإدارة والمؤسسات الاعلامية والثقافية،وإلى رجال أعمال معظمهم أتى بثروته من تحت خيمة السلطة أواستظل بها.ولكن،وكما في تشيلي منتصف الثمانينيات عندما بدأت أزمة مديونية دول أميركا اللاتينية تلقي بظلها،فإن بن علي أيضاً قد بدأت سقوف “معجزته الاقتصادية”تتكشف محدودية علوها منذ عام2005لماوصلت بطالة الشباب إلى30%،ثم بان هذا أكثر منذ أزمة أيلول 2008المالية-الاقتصادية العالمية التي أصابت أوروبياً أكثر ماأصابت الحزام الجنوبي الضعيف للجماعة الأوروبية، في روما ومدريد ولشبونة ،الذي ترتبط به تونس عبر تشابكات اقتصادية من الشغل وتحويل الأموال والاستثمارات الأوروبية على التراب التونسي، الأمر الذي أدى إلى مفاعيل كبرى في البنية الاقتصادية – الاجتماعية التونسية،التي توضحَ،أثناء أزمتها الاقتصادية الأخيرة،مدى قوة الفوارق الطبقية في مجتمع كانت فئاته الوسطى في بحبوبة كبيرة حتى أوائل التسعينيات وتمثل نسبة عالية من السكان وخاصة في المدن الساحلية،وهو مايفسر لماذا كانت “الانتفاضة العمالية”في1978،و”أحداث قفصة”بعام1980،و”ثورة الخبز”في1984،من دون امتدادات شاملة للتراب التونسي أولغالبية الفئات الاجتماعية،بخلاف مارأينا في الأسابيع الأربعة الفاصلة بين يومي 17كانون أولديسمبر2010-14 كانون ثانييناير2011،حيث قادت المطالب الاقتصادية- الاجتماعية إلى مسارات صعدت نحو أعلى الطابق السياسي، عبر حركة عفوية غير مؤطرة حزبياً ،كان وقودها المحرك شباب عاطلون عن العمل،أويشعرون بالتمييز الاقتصادي- الاجتماعي، وذلك في مجتمع تم منذ عشرين عاماً مسح طاولة قواه السياسية المعارضة، أوتمَ احتواء أحزابه وحركاته “القانونية”،وهو الأمر الذي جعل هاتين الفئتين من التنظيمات السياسية غير قادرة،رغم محاولاتها،على قيادة تلك الحركة،التي هي أول حركة في الشارع العربي تستطيع خلال العصر الحديث إعادة تشكيل السلطة السياسية.