ميشيل كيلو

النظام السوري امام منعطف خطير


            ميشيل كيلو

يبدو أن التيارات السياسية القومية والإسلامية قررت مؤخرا اعتماد فهم مشترك يضع السلطة/ الدولة في مركز العالم، ويربط بها كل ما يحدث أو يمكن أن يحدث في المجتمعات. لذلك، عندما تنشر جريدة ما رسما كاريكاتوريا ما ، فإن العقل الإسلامو ـ قومي لا يعتبره أمرا يخص كاتبه أو الصحيفة التي نشرته، ويري فيه مسألة تتصل بدولة الشخص أو الصحيفة، التي يجب تعتذر عن ما قد يثير الاستياء أو يكون مزعجا، فإن رفضت الاعتذار، كان من الضروري نقل المعركة ضدها إلي مرحلة تالية هي مرحلة العنف،

 

باعتبار أن ما يجب الاعتذار عنه يتخطي أي شخص وينضوي في الحرب بين الأديان والحضارات، المتعادية بسبب استنادها إلي أديان يكن بعضها العداء لبعضها الآخر. هذا العقل لا يعرف مبدأ وجود الإنسان ككائن حر، لأنه يجهل ويرفض مبدأ الحرية بذاته، لذلك يري بعض الناطقين باسمه في حقوق الإنسان والمواطن بدعة صهيونية تهدد ديننا وتاليا هويتنا، وتوهمنا أن الواحد منا بحاجة إلي أي شيء آخر غير الإيمان: مادة حياته ومبرر وجوده.

في هذا المنطق، تكون الدنمارك (الدولة والشعب والمجتمع والبلد) هي التي نشرت صورا مسيئة إلي الرسول الكريم (ص)، وتنتفي مسؤولية الشخص الذي رسمها والصحيفة التي عممتها. ولا مفر من أن تعتذر الدنمارك (الدولة والشعب والمجتمع والدولة)، لأن اعتذار الكاتب والصحيفة لا يكفي لأنه لا قيمة له. في بلداننا، حيث يتبع كل شيء السلطة أو يخضع لها، ولا يوجد في المجال العام شيء غيرها، هذا التصور صحيح إلي حد بعيد. أما في البلدان، التي تقول أوساط إسلامية معينة إنها مسيحية وطرف في حرب ضد الإسلام، فهو ليس صحيحا علي الإطلاق، بالنظر إلي أن دولها وصلت إلي ما هي عليه عبر حرب شعواء ضد الكنيسة دامت خمسة قرون ونيف، انتهت بتحطيمها وتحجيم دور الدين في الحياة العامة وفصله عن الدولة، وشهدت أنواعا شتي من صور العداء للكنيسة ولرموزها المقدسة، وكتابة انتشار ملايين المقالات والأغاني والأفلام المسيئة للمسيح والساخرة منه. ولعل المسلمين الذين انخرطوا في الحرب الراهنة ومن يتلاعبون بهم في الصف القومي لم يلاحظوا ما كتبته إحدي الصحف الفرنسية حول حقها في رسم صور كاريكاتورية عن الله (عز وجل)، أو أنهم لاحظوا الكلام وتجاهلوا معناه، لكونه ينقض أطروحتهم حول مسؤولية الدولة في الغرب عن الصحافة، ويؤكد أنها لا تستطيع أن تكون طرفا في أية حرب دينية لكونها دولة غير دينية، تعبر في آرائها ومواقفها عن المصالح ولا تعبر عن قيم دينية، وخاصة قيم الدين المسيحي: الذي قاتلته وحررت نفسها منه.

ـ نشرت الصور المسيئة في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، قبل نيف وخمسة أشهر، لكن أحدا لم يحولها في حينه إلي مادة حرب أديان وحضارات. فهل كان الوقت المنصرم ضروريا لتعبئة القوي، أم أن المسلمين تجاهلوا الأمر آنذاك واعتقدوا أنه يخص رساما بعينه وصحيفة معينة؟ ما الذي أجج المشاعر ودفع الأمور إلي التصعيد الراهن، الذي حولته حرائق السفارات والقنصليات في سورية ـ العلمانية وغير الدينية، كما يقال لنا علي الدوام! ـ ولبنان قبل غيرهما من بلدان العالمين العربي والإسلامي إلي قضية ذات أبعاد داخلية وخارجية خطيرة، يرجح أن تتفاقم وتشتد علي أكثر من صعيد ولفترة زمنية غير قصيرة؟. هل حدثت الحرائق لأن قوات الأمن السوري ضعيفة، أم لأن المتظاهرين نجحوا في تعبئة آلاف الأشخاص دون معرفتها، فحدث ما حدث قبل أن تتمكن من لملمة الأمور واستعادة زمامها، أم لأن الإيمان أقوي في سورية منه في أي بلد إسلامي وعربي آخر؟

ثمة سياق سياسي قد تساعدنا معرفته علي تفسير الوقائع، تبلور منذ أيلول الماضي، بعد نشر الرسوم المسيئة للنبي الكريم (ص)، التي ليست الصور الأولي التي تهين النبي، إلا إذا تجاهلنا الصور الإسرائيلية، التي ظهرت العام الماضي وعرضت الرسول في شكل مهين إلي أبعد حد وكتبت اسمه علي جسد الحيوان الذي يمقته المسلمون أكثر من أي حيوان آخر، لكن أحدا لم يجرؤ في العالم العربي، وفي سورية خاصة، علي الوقوف عندها وتحويلها إلي أزمة متصاعدة وتعبئة عوام وحرق سفارات وقنصليات وحرب أديان وحضارات! تجاهل العالم الإسلامي الصور الدنماركية أول الأمر، لكن هناك من أيقظه بعد خمسة أشهر وأجج مشاعره وحرضه علي الاحتجاج بالطريقة التي رأيناها في شوارع دمشق وبيروت، وبدأت تنتشر في بلدان إسلامية أخري، كمعركة داخلية الأبعاد والمنطويات، ذات بواعث وأهداف خارجية، تأخذ في الحقبة الراهنة صورة صراع علي الشارع، وستأخذ في الحقبة المقبلة صورة صراع مباشر علي السلطة ستنطلق من الاستيلاء علي العامة والنجاح في تعبئتهم.

هذا السياق يجسده تشكل محور دمشق ـ طهران، وبروز الإسلاميين في مصر، وانتصار حماس في فلسطين، وغلبة الطابع الإسلامي علي المقاومة في العراق، وبروز دور حزب الله كقوة كبح واحتواء للمجتمع اللبناني، وأخيرا، تبلور سعي مكثف شهدته الأشهر الأخيرة لدي النظام السوري يجعل الإسلام مصدر شرعيته، اعتقادا منه بأن تحالفه مع إيران وربط مصيره بنظامها وبصعود تيارها الإسلامي يمده برد ملائم علي سياسة واشنطن وباريس، التي خططت لإنهاء دوره الإقليمي وأنهت وجوده العسكري في لبنان، ويتصرف وكأن التحالف مع دولة إسلامية يعطيه القدرة، التي ضيعتها أيديولوجيته القومية ـ الاشتراكية المفلسة، علي أخذ مواقف تعبوية شعبوية صارت أمرا حتميا بالنسبة إليه، بعد أن رفض طيلة السنوات الخمس الماضية عروض المعارضة الديمقراطية بجعل الإصلاح السياسي والمصالحة الوطنية منبع شرعية بديلة له.

يعني هذا، باختصار شديد، أن السوريين سيتعاملون من الآن فصاعدا مع نظام سيختلف خطابه أكثر فأكثر عن خطاب النظام الذي عرفوه طيلة نيف وأربعين عاما، سيتبني أنماط سلوك غير تلك التي خبروها خلال الحقبة السابقة، القومية، وأنه سياساته لن تقوم بعد اليوم علي أولوية دور الصفقات الخارجية في إنتاج توازن النظام واستقراره الداخليين، بل ستعطي الأولوية للمواجهات مع الخارج، رغم أن هذه ستضعفه أكثر فأكثر وستحوله إلي ورقة في يد إيران، التي يديرها رجال دين دأبوا علي عقد صفقات علي حساب جيرانهم، وتزداد حاجتهم إلي أوراق إضافية تعزز قدرتهم علي عقد صفقة تاريخية مع الخارج، تقنعه بقبول دورها كقوة إقليمية عظمي ومسيطرة، يستند دورها الجديد إلي إسلامها التعبوي ـ الشعبوي وقنبلتها النووية! لا داعي للقول إن الشرعية الجهادية ستحول النظام السوري إلي حاضنة للإسلاميين الجهاديين في المشرق العربي، الذين أكدت معركة الدنمارك وجودهم القوي في الأقسام الأكثر تخلفا ورجعية من العامة، وأظهرت كم سيكون دورهم مزدوجا، كقوة ضغط علي نظام ليس في الحقيقة دينيا، وكداعم له تتطلب الظروف معاونته، ريثما ينضج بديله الإسلامي. يقال إن النظام استخدم الإسلاميين كي يبعث برسائل إلي العالم تحذره من بدائله، وهذا صحيح، لكن العالم لم يعد راغبا في تلقي رسائل منه، مهما كان نوعها، وقد دفعه دفعا إلي مواجهة حاسمة، يبدو أنه قبل الانخراط فيها، بمعونة بلد يعرف كيف يفيد من أزمات جيرانه هو إيران.

ـ ليس التحول الراهن علامة نجاح وهو لن يخرج النظام من مأزقه بل سيفاقم أزماته، وهو لعب خطير مع قوي دينية يمكنها صعودها السريع من أن تتعلم بسرعة أصول الصراع ضد نظم غير إسلامية قوية ـ أنظر تجربة حماس في فلسطين ـ بينما يمدها إفلاس النظام بالمادة البشرية، التي أثبتت قدرتها في العراق علي تعلم الأساليب وامتلاك الوسائل اللازمة لضرب أفضل جيوش العالم تسليحا وتدريبا، خاصة وأن انضواء النظام في حاضنة إسلامية سيعطيها هوامش مناورة وحرية عمل لم يسبق لها أن تمتعت بها، وسيرشحها لأن تكون البديل لواقع ينهار، لن ينقذه الإسلام الأصولي، لأنه لا مصلحة له في إنقاذه، وإن لعب ورقته وعقد صفقات علي حسابه.

تقف سورية أمام تحول خطير، سيفتح أبواب جهنم عليها وعلي المنطقة وشعوبها، مع أنه كان بوسع قيادته قبول بدائل آمنة، عرضتها عليها معارضة وطنية وديموقراطية تريد بداية جديدة تنطلق من مصالحة وطنية لها، كسلطة، الدور الرئيسي فيها. هل سيكون بوسع النظام السوري ترويض وامتطاء النمر الهائج، لمجرد أنه أوهم نفسه بأنه مجرد هر أليف؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى