استئناف التدخل السلبي
سليمان تقي الدين
حين كان الرئيس أنور السادات يمهّد لتوقيع اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة ويحاول جر الآخرين إلى مشروع الاستسلام قال: ارفعوا أيديكم عن لبنان! لكنه كان يتدخل ذات اليمين وذات الشمال لتوسيع الحريق اللبناني قبل أن يحصل على شيء من المهادنة أو نقل الاهتمام العربي بعيداً عن فلسطين فضلاً عن تبرير شعار «مصر أولاً».
ما يقوله المسؤولون العرب ليس ما يضمرون ولا ما يفعلون. هم فقط يتناوبون في إلقاء تهم التدخل في الشأن اللبناني الذي أرادوه متنفساً لأزمات المنطقة قبل أن يصبح عبئاً عليهم جميعاً. لبنان اليوم يصدّر أشكالاً مختلفة من التأثيرات بعد أن كان يستوردها. رغم ذلك لا يسعى أركان النظام الرسمي العربي لمحاصرة المشكلات وحلها، بل يريدون استثمارها في حساباتهم الإقليمية والتجاذبات في ما بينهم. صار لدينا «نمط من العروبة العابرة للقطرية» التي تتساند فيها الأنظمة ضد حراك مجتمعاتها ولو أدى ذلك إلى التخلي عن جزء مهم من سيادتها. في كل أزمات المنطقة يتدخل العرب ويتنافسون في الاتجاه المعاكس لتكامل المواجهة مع الخارج. يطالبون بالاستقرار حيث يروق لهم ذلك، ويدعمون منظومات الأمن والشرعيات التي تتفق مع المسار العام الذي يحفظ لهم سلطاتهم. لكنهم يدعون هنا وهناك قوى هي جزء من عملية الفوضى والانقسام، في فلسطين والعراق والسودان واليمن ولبنان. شرعية الحاكم المرتبط بشرعية الهيمنة التي تسود في المنطقة هي الأهم عندهم من شرعية خيار التغيير، أي تغيير، ومهما كانت مبرراته ومسوغاته الوطنية والإنسانية.
لا نظن أن وزير الخارجية السعودي لا يحسب معاني وأبعاد ما قاله عن مخاطر التقسيم والانفصال وانهيار تجربة العيش المشترك في لبنان. رعت السعودية وترعى أطرافاً لبنانية لديها مشروعها الداخلي والخارجي الذي يناقض مشروع أطراف أخرى تناقضاً شبه تناحري، فلم تكن يوماً في حياد ولو أنها خاضت غمار التسويات ولم تتورط سابقاً على المكشوف في لعبة الأمن. لكن المملكة في السنوات الخمس الماضية انخرطت في المواجهة المعلنة ولو بقدر أقل دعائياً من الطرف المصري.
أما تمويل القوى السياسية واحتضانها وتغطية ارتباطها بالمشروع الأميركي فلم يكن خافياً على أحد. كانت للمملكة أسبابها أن تقبل التعاون مع سوريا على احتواء التوتر الأمني والرهان على إبقاء خطوط الاتصال مفتوحة، لكن ما تطلبه المملكة هو وصاية من نوع آخر لتعزيز عصب السلطة في لبنان لمصلحة القوى التي ترعاها.
في ما صار معلناً من بنود التسوية التي جرى تداولها بين الطرفين السوري والسعودي، حملت المملكة مطالب فريقها اللبناني الذي يسعى لمصادرة السلطة في مقابل غض النظر المؤقت عن ملف سلاح «حزب الله». في مكان ما المال والأمن أو بعض فروعه، والمسار الاقتصادي وتوازن الحكومة، وبعض مواقع القرار كانت في أساس تلك التسوية. عبثاً يحدثنا أحد عن براءة الجهد العربي من هذا أو ذاك ولا طبعاً وقطعاً التفاوض الإقليمي والدولي على مستقبل هذا البلد، لا بواسطة شعار العدالة ولا الأمن ولا سواهما. ولعلنا لا نقلل من أهمية «الرسالة» التي وجهها وزير الخارجية السعودي بتحذيره من انفراط لبنان إذا ما هيمن عليه أحد الأطراف، في موقف واضح من دعم قوى وأطراف سعت وتسعى إلى إظهار موقف طوائفها كجماعات مغبونة أو قلقة وخائفة من احتمالات اندراج لبنان كله في المواجهة مع المشروع الأميركي الإسرائيلي.
لكن ما يجدر الوقوف عنده أن الأمير السعودي يلتقط إشارات مهمة حول الواقع اللبناني. هناك قوى في الساحة اللبنانية لا تراهن على التوازن الميداني في مواجهة «السلاح» أو في مواجهة ما تصفه بالانقلاب الدستوري، بل تراهن على العصيان بمواقعها الطائفية الجغرافية وشرعية تلك المواقع للرد على أي متغيّر قد يحصل، وهذا بعينه ضرب من ضروب التقسيم والانفصال اللذين أشار إليهما الأمير. وربما أبعد من ذلك هو يعرف من مصادر القرار الدولي أن تداعيات «المحكمة» تستخدم لتأليب ودعم القوى الملتزمة بها في إطار ما يوصف بمحاصرة «حزب الله». فإذا كان متعذراً تنفيذ إجراءات «العدالة» فإن لبنان سيوضع في خانة البلد العاجز عن فرض سيادته وهيبة دولته ويتخذ بحقه الإجراء الذي يراه «المجتمع الدولي» ملائماً. وليس بعيداً من هذا المناخ ما طرحته فرنسا عن مبادرة لمؤتمر دولي أو لقاء دولي لمعالجة الأزمة اللبنانية. فإذا كان لبنان يحتاج إلى هذا المستوى من التدخل الدولي لمعالجة شؤونه السياسية وربما الأمنية، فلماذا يتمسّك «المجتمع الدولي» بمسار «المحكمة» التي لا تنتج عدالة ولا أمناً ولا استقراراً. فهل نحن إذاً أمام مرحلة جديدة من «الوصاية المباشرة» لتقاسم النفوذ أو لوضع لبنان في محجر دولي كأنه بلد موبوء؟! وهل يستأنف الغرب تجاه لبنان ما بدأه في نهاية عام 2004 من سعي إلى بعث الفوضى فيه من أجل إعادة النظر بتركيبته السياسية، إذ أنه من الممنوع على لبنان أن يتحوّل من دولة عبور إلى دولة متماسكة قوية؟!
مخطئ مَن يعتقد أن الوزير السعودي قد شطح في حديثه السياسي وهو يعلن ليس فقط نهاية المبادرة والوساطة العربية، بل يعلن أن لبنان متروك لاختبار القوة التي ليست مجرد سلاح بل ما سوف يأتي إلى هذا البلد من مداخلات ومساندات لأطراف النزاع، ومن إطلاق لعناصر المواجهة الأمنية التي تتقنها الدول التي تتعامل مع الشبكات الصغيرة في الظلام.