أسئلة على هامش المآسي العربية
عقل العويط
هاكم خلاصة حوار طويل، عميق، هادئ، ومتألم، بيني وبين صديق نيّر، عارف جداً بالجوهر، وبعيد كل البعد عن وحول السياسات الصغيرة، أصوغها على هيئة أسئلة طرحها عليَّ هذا الصديق، وتصلح في ذاتها لأن تكون مادة رمزية للقراء الذين ضاقوا ذرعاً بكل شيء. وأنا أكتفي بإيراد هذه الأسئلة الدلالية، محجماً عن الولوغ في اللفظ، وانفعالاته وغرائزه وتصعيداته، في هذه الظروف المقلقة، وخصوصاً عندما يشعر الكاتب، والقارئ تالياً، بأن هذه الأسئلة تحمل أجوبتها في طيّاتها، ليس لأن الكلمات لا تعرف أن تقول ما تريد قوله، لكن لأن الواقع المأسوي المعقّد قد يكون بأسئلته البكماء هذه، أبلغ أثراً من كل كلام عابر.
***
قال لي الصديق ما يأتي: أمامك عدد لا يُحصى من الموضوعات والقضايا الملتهبة، وليس عليك سوى أن تختار منها ما يثير اهتمامك، ويطيب لك التكلم فيه وعنه. فمن تونس الى لبنان، مروراً بالجزائر، والسودان، شماله والجنوب، عكوفاً على ليبيا، ومصر، والعراق، واليمن، والأردن، وصولاً الى فلسطين، دائماً الى فلسطين، يستطيع المرء أن يرسم خريطة بانورامية متألمة للمشكلات التي تعصف بهذه الأجسام العربية المريضة، ناهيك بتلك الأجسام التي تتألم بكتمان، أو تحت السطح، ولم تنكشف مآسيها للعيان، أو تنفجر، حتى اللحظة.
وأردف قوله بالآتي: خذ مثلاً غلاف جريدة “ليبيراسيون” الفرنسية، الصادرة قبل أيام قليلة، بعنوانها المثير monde arabe a qui le tour? ، مع علامة x على صورة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، والى جانب صورة هذا الديكتاتور الفارّ، رسوم فوتوغرافية لعدد من الزعماء العرب، من مغرب العالم العربي الى مشرقه. ولفتني الصديق الى الاضطرابات والتململات والحركات الاجتماعية والتظاهرات المطالبة بالخبز والحرية في أكثر من عاصمة ومدينة عربية، مقترحاً إلقاء الضوء على ظواهر الحكم الأبدي لهؤلاء الرؤساء والملوك والأمراء العرب، الذين يسوسون شعوبهم بالحديد والنار والتجويع والإفقار، والذين غالباً ما ينتهي حكمهم بانقلاب. فعلى مَن تدور الدوائر؟
ثم سألني الصديق الحصيف: لماذا لا تكتب عن ظاهرة هؤلاء الشبّان العرب الذين يضرمون النار في أجسامهم، يأساً من الأنظمة العربية القائمة، بعدما ضاقت بهم سبل العيش الكريم؟ وسمّى لي الشاب التونسي الذي أحرق نفسه قبل نحو شهر، مطلقاً الشرارة الأولى للثورة الشعبية التونسية، ثم ذاك الشاب الجزائري الذي توفى متأثراً بحروقه عند الحدود الجزائرية – التونسية، ثم – أخيراً وليس آخراً – ذاك الشاب المصري الذي أشعل النار بنفسه أمام مجلس الشعب، وتلاه آخرون و… تحذيرات دينية من أن مثل هذا التصرف يُعتبر انتحاراً.
ثم سألني الصديق الحصيف نفسه قائلاً: لماذا لا تكتب عن القائد الليبي الملهم معمّر القذّافي، الذي أحزنه جداً جداً المصير الأسود لزميله الهارب بجرائمه وثرواته، لائماً الشعب التونسي على عدم وفائه له؟! وقال متهكماً: أنظر الى صاحب “الكتاب الأخضر”، أليس رائعاً أن يكون في صفوف هؤلاء الزعماء العرب قائد مثله، يعبّر بصدق وشفافية واقتناع، عن أفكاره ومشاعره حيال ما جرى في تونس، وحيال مفهوم السلطة والشعب والحرية والديموقراطية، وعن رغبته العلنية في إبقاء الرئيس المخلوع (وإبقاء نفسه والزملاء) رئيساً الى الأبد؟
ثم قال لي الصديق نفسه: لماذا لا تكتب عن “لغز النصفَين” في بلدك العزيز لبنان؟ عن هذا الشرخ العمودي الرهيب الذي يجعل بلدك مقسوماً هذه القسمة الذليلة والمهينة، معلَّقاً على خشبة المعادلات الداخلية الملتبسة، والمصالح والوصايات الإقليمية والدولية؟ لماذا لا تكتب عن زعماء هذا الفريق أو ذاك؟ عن هؤلاء الزعماء الذين لا يستحقون أن يفكّوا سير حذاء أيّ طفل من أطفال بلادك؟ لماذا لا تكتب عن شعبك؟ عن شعوبك؟ وكيف يتقبّل هؤلاء الناس كل شيء من زعمائهم، الأسود والأبيض في الآن نفسه، الشيء وضدّه، وكيف يسيرون في ركابهم بلا سؤال أو تحفّظ، أياً تكن المصائر المترتبة على الخيارات المأخوذة؟ لماذا لا تكتب عن الفتنة؟ عن التهديد بـ”الاتحاد العمالي العام”؟ عن النزول الى الشارع تنديداً بالفساد؟ عن إرهاب الأفكار؟ عن إرهاب السلاح؟ عن إرهاب الأديان والطوائف والمذاهب؟ عن إرهاب التهم والتهم المضادة؟ عن العمالات من كل نوع؟ عن مفهوم “الساحة”؟ ولماذا لا تكتب عن لعبة الأمم الهمجية في بلدك هذا؟ وسمّى لي عشوائياً: أميركا وفرنسا وإسرائيل وإيران ومصر وسوريا والسعودية وقطر وتركيا، وكيف تجتمع هذه الدول لتنهش جميعها، تحت راية الشعارات الطنّانة والرنّانة، ومن كل حدب وصوب، جسم هذا الطفل الجميل، غير آبهة لشيء؟!
لم يكتف الصديق العزيز بهذه الاقتراحات، بل عرّج على “البدائل”.
فقال لي: لماذا لا تكتب عن القوى الظلامية والحركات الدينية المتطرفة التي تنتظر الفرص الموضوعية المناسبة للانقضاض على أنظمة الحكم الديكتاتورية في المنطقة العربية، لتحل محلّها، وتقيم على أنقاضها أنظمة “إلهية”، أحادية، توتاليتارية، ديكتاتورية، لكن من نوع آخر؟
ثم سألني: لماذا لا تكتب عن البدائل الديموقراطية والثقافية الغائبة أو المنعدمة أو الضعيفة في المجتمعات العربية، معرباً عن الخشية من أن يؤول مصير الثورة الشعبية التونسية الرائعة في أيدي الظلاميين والمتطرفين أو الفاسدين أو سواهم، فتكون هذه الثورة المضيئة لقمة سائغة في أفواه القتلة الجدد من كل جنس ونوع؟!
ثم سألني أخيراً وليس آخراً هذا السؤال المحلي المزدوج: لماذا لا تكتب عما آلت اليه مقاومة إسرائيل في لعبة الداخل اللبناني، وعما آلت اليه انتفاضة الاستقلال الثاني في لعبة الداخل نفسها؟
***
المهمّ فقط، يا أصدقائي القرّاء، فهم هذه الأسئلة وغيرها، ووعي تحدياتها، والتفكير في أجوبتها المحتملة، والاتعاظ مما يجري في أرجاء العالم العربي المثخن بجروحه، ومما يخطَّط له على مستوى مصائر الحكّام والأنظمة والدول والكيانات والشعوب.
إنما المهم أيضاً وخصوصاً، التشبث بقوة الأمل والحرية. فليس سوى الأمل والحرية، ما يجعلنا قادرين على الوقوف في وجه العاصفة!
النهار