فواحش النظم الأصولية
سلامة كيلة
محافظة بغداد، تغلق البارات وتمنع المشروبات، وتعمم التشدد «الديني». وفي السودان يقوم النظام بجلد النساء اللاتي يلبسن اللباس «غير المحتشم». وفي غزة تلاحق محلات المشروبات ويمنع النشاط الشبابي، ويضيق على الممارسات العامة. كل ذلك تحت يافطة تطبيق «الأحكام الإسلامية».
في المقابل، في العراق احتلال. وفي غزة احتلال. والسودان ذاهب للتقسيم والتفكك.
ربما هذا ما يوضح «وعي» القوى الأصولية التي تحكم في هذه البلدان والمناطق. إنها تجري خلف ما تعتبر أنه المهم والأساسي، والذي يفرضه عليها شرع الله. والوضع الذي تحكم فيه يغرق وينهار، ويتدمر لمصلحة السيطرة الإمبريالية. بمعنى أن ما يستحكم في وعي هذه القوى هو أضيق كثيراً مما يتطلبه الواقع. وعي قروسطي، هو المعبّر عن تخلف وسطحية و«أمية» تلك القرون، يريد أن يحكم، ويطبق الأحكام العتيقة، على وضع عالمي ومحلي مختلف جذرياً، ويحمل وعياً جديداً. فالملاحظ لـ «وعي» الحركات الأصولية عموماً يلمس أنه لم ينبن إلا على قراءة نصوص تدور في حقل الماضي السحيق، وتحاكم المسائل انطلاقاً من آليات تبلورت آنئذ. فالمنطق يقوم على «عكس الشاهد على الغائب»، حيث يجري قياس الحادثة الواقعية على «حكم» فقهي، صدر ربما قبل ألف عام أو خمسمئة عام. لأن فقيهاً محدَّداً قد أصدر فتوى بموضوع شبيه أو قريب، أو يمكن تقريبه. ومهمة «العقل» هي هذه الوصلة. وهو لا يستطيع أكثر من ذلك. وبالتالي حين لا يكون هناك «غائب» (أي فتوى) يتيه العقل الأصولي. ولأن القضايا التي حملها الفقه هي قضايا «ذاتية»، أو تتعلق بالمعاملات والأخلاق، فإن الزاد «الفكري» الأصولي هو هذه. لهذا سنجد كل الأصوليين يرددون ويكررون قصص وحكايا وشواهد قيلت في العصور السحيقة تلك.
لهذا حين تصبح في الحكم سوف تمارس ما تعرف.
لقد حكم البشير السودان (ومن خلف الستار حسن الترابي في المرحلة الأولى) منذ سنة 1989، وطبّق «الشريعة»، لكن الدولة والمجتمع لم يحتملا سلطته. فقد انهارت الدولة نتيجة هذا الشكل من الحكم الأصولي، ونهب المجتمع نتيجة شره الفئات «المشربة» بالدين، وهَزَلت سلطتها، إلى الحد الذي قاد إلى أن يقف السودان على عتبة التفكك إلى دول. وربما يتناسى كل الذين يدعون إلى «دولة إسلامية»، ويعلنون أن «الإسلام هو الحل» أن السودان خضع إلى سلطة «إسلامية» فككته بعد أن نهبته، ولا زالت تتلهى في «تطبيق الشريعة» على فتاة تلمس البنطال، أو رجل يشرب الخمر هرباً من الوضع الذي أوصلته السلطة إليه.
وفي غزة، أصبحت مهمة شرطة حماس متابعة الاختلاط بين الجنسين، أو إغلاق محلات بيع الخمور، أو متابعة ذهاب الأعضاء إلى الجامع وفرض الحجاب. وبالتالي تأسيس مجتمع أصولي قروسطي لا يتسع إلا لقلة من «المحاسيب». والمأساة أن ذلك يحدث في ظل الاحتلال الذي يحاصر القطاع ويخنق الناس. بالتالي كيف يمكن لهذا المجتمع أن يقاوم الاحتلال؟ إنه يدمّر الأرض التي يجب أن تقوم عليها المقاومة، حيث يفكك المجتمع، ويوصل قطاعات واسعة من الشعب إلى حدّ الكفر بسلطة كهذه، وبالتالي بـ«مقاومة» كهذه.
ولا شك في أن القوى الأصولية هي التي تحكم في العراق منذ الاحتلال، حيث صمّمت الولايات المتحدة السلطة على هذا الأساس، وقسمتها بين الطوائف. وإذا كانت قوى طائفية (من الشيعة والسنة) تمارس القتل بدعم أميركي، وتحقق الفرز الطائفي الضروري لتحقيق التقسيم، فإنها تتلهى كذلك بملاحقة ما هو حضاري، وكان جزءاً أصيلاً من تاريخ العراق. وتوهم بأن العراق تحرر أو يتحرر بعد «إكمال الانسحاب الأميركي»، كأن بقاء خمسين ألف جندي، و أكثر من مئة ألف مرتزق يعمل تحت اسم الشركات الأمنية، ليس وجوداً احتلالياً. ولا يفرض هو السياسة التي يجب أن تمارسها الحكومات. ولهذا دعم عودة المالكي حاكماً، وفرض تحالف «الكتل السياسية» معه.
وهنا نجد أن «بدوياً» يحكم في عصر الذرة، ولهذا فلا يجد سوى الفكر الوهابي أيديولوجية يعممها من أجل الحفاظ على سلطته، وتهديم كل ممكنات التطور الذي يمكن أن يطيحه. وسنجد أن تحالفاً ضم الوهابية وجماعة الإخوان المسلمين (وتفرعاتها) تشكل منذ زمن طويل لمواجهة الفكر الحداثي، مرة تحت شعار العودة إلى الأصول، وأخرى تحت عنوان الأصالة، ولكنه يهدف إلى تكريس البنى التقليدية المهيمنة آنئذ. والآن من أجل إعادة تلك البنى أو تكريس ما بقي منها.
وتدمير الحداثة الآن لا يعني محاربة أفكار فقط، بل بات يعني تدمير تكوين مجتمعي، تدمير بنى تشكلت في الواقع، وتدمير ممارسات مجتمعية، ووعي مجتمعي. ولهذا ليس من طريق سوى القتل والفرض العنيف، وتحويل الاختلاف الديني والطائفي إلى تناقضات، وبالتالي حروب طائفية. ومن ثم تشكيل سلطة حين استلامها ضيقة بضيق «الوعي الأصولي»، تعمم التناقض مع كل طبقات المجتمع، سواء نتيجة الاختلاف الديني أو الطائفي، أو سواء نتيجة تناقض التخلف والحداثة (الصراع ضد العلمانية واليسار). في الوقت الذي تستأثر فيه بنهب المجتمع، وتكريس نمط اقتصادي «أحادي» (وهنا تجاري)، يعمق التبعية للمراكز الإمبريالية.
إنها عملية نهب وحشي وسلطة متوحشة باسم الدين. لا تقود سوى إلى الدمار المحلي والسيطرة الإمبريالية. بغض النظر عن كل الشعارات التي ترفعها، أو الأوهام التي تطلقها.
السفير