فجوة التكنولوجيا العربية
خالد غزال
في تقرير صادر عن مؤسسة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم (اليونسكو) حول حالة العلوم والتكنولوجيا والبحث العلمي، صنّف التقرير العالم العربي في “آخر درجات القاع” قياسا بمجتمعات أخرى مشابهة للمجتمعات العربية. قارن التقرير بين تطوّر العالم العربي في هذا المجال وبين التطور المذهل الذي عرفته دول آسيوية مثل الصين والهند وماليزيا وباكستان وكوريا، وهي دول تعاني فقرا شديدا وكثافة سكانية عالية وانعداما في الموارد النفطية. قبل تقرير اليونسكو، وعلى امتداد سنوات أربع خلت، كشفت “تقارير التنمية الإنسانية العربية” الصادرة عن “برنامج الأمم المتحدة الإنمائيّ” بالتعاون مع “الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي” عن المعضلات التي تواجه العرب وتحدّ من دخولهم عالم التكنولوجيا. فكيف تتجلّى حقيقة العلاقة “العربية” مع الثورة التكنولوجية، أين الحقيقيّ منها وأين الشكليّ، ما تجلياّت التخلف وأسبابه العميقة التي تضرب في جذور المجتمعات العربية؟
بات هناك إجماع لدى العلماء والباحثين أنّ مقياس درجة تقدم بلد ما أو تخلّفه في العصر الراهن ترتبط بدرجة التطور المعرفي ودخول الثورة التكنولوجية ومنتجاتها ميادين الحياة في البلد. يشير تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003 إلى أنّ “فجوة المعرفة- لا فجوة الدخل – أصبحت في نظر مؤسسات اقتصادية دولية، المحدد الرئيسي لمقدرات الدول في العالم الآن”. لم يغب هذا التحديد عن رؤية وأفكار الكثير من المنظمات العربية المهتمة بشؤون التنمية والتقدم، كما ظلت حاضرة بقوة في مداخلات المؤتمرات الدورية المنعقدة في أكثر من قطر عربي لنقاش واقع المجتمعات العربية وقياس درجة تقدمها أو تخلفها والأسباب البنيوية التي تجعلها قاصرة عن اللحاق بالعصر.
من الظلم إلصاق صفة جهل العالم العربيّ بالتكنولوجيا ومعطياتها وعدم إدراكها للتقدم الثوريّ الذي تشهده. يؤشّر المشهد العربي إلى هذا الولوج عبر ازدهار المراكز الحضرية الحاشدة بالعمارات الشاهقة والإنشاءات العملاقة وشبكة الخدمات العامة وتجهيزات المؤسسات العسكرية والمدنية، إضافة إلى الإنشاءات النفطية والكهربائية وشبكة الاتصالات الهاتفية منها وما خصّ الانترنت، مقرونة كلها باستيراد التكنولوجيا بشكل أو بآخر، بصرف النظر عن التفاوت بين بلد وآخر وفق درجة تقدمه أو تطوره.
تشكل ثورة الاتصالات وصناعة الالكترونيات اليوم أحد المقاييس الأساسية في مدى دخول بلد ما ميدان التقدم العلمي والتكنولوجي. تجمع كل التقارير والإحصاءات على تأخر عربي عن الاندماج في هذا الجديد والإفادة من مكتسباته قياسا على ما يشهده العالم المتقدم. فعلى سبيل المثال، لا يتجاوز انتشار أجهزة الكمبيوتر في العالم العربي أكثر من 1،5% من عدد سكانه، أما استخدام الانترنت فلا يتجاوز 2% من إجمالي المستخدمين في العالم. يعود التركيز على شبكة الاتصالات وخصوصا الانترنت إلى أن هذه النظم تشكل اليوم أهم عناصر البنى التحتية لإقامة مجتمع المعلومات، ولأن الاتصالات أيضا باتت تلعب أدوارا أساسية في التطور الاقتصادي والمالي والثقافي، فتختصر الزمن والمسافات بين بلدان العالم بعد أن حولته إلى “قرية صغيرة”. يشير الباحثان ناديا حجازي ونبيل علي في كتابهما “الفجوة الرقمية” إلى دور مزدوج يقوم به قطاع الاتصالات، فهو من جهة قطاع اقتصادي قائم بذاته يساعد في تنمية القدرة الذاتية والسوق المحلية في جانب، كذلك تنمية القدرة التصديرية. وهو من جهة أخرى يلعب دورا مفصليا في دفع وتطوير قطاعات التعليم والإعلام والخدمات الصحية والصناعية وغيرها.
لا تقتصر المشكلة في عدم الاستخدام الكافي لمنتجات الثورة التكنولوجية، فالمعضلة الأكبر تكمن في عجز العالم العربي عن الدخول في صناعة هذه التكنولوجيا وتقديم ابتكارات في مجالها. ما تزال المواقع العربية على شبكة الانترنت تتسم بالضعف قياسا إلى المواقع العالمية خصوصا في مجال تقديم أنواع المعرفة إلى الجمهور العربي. اشتهر علماء من أصل عربي باختراعاتهم العلمية في بلدان غربية احتضنتهم وقدمت لهم الوسائل الضرورية لعملهم، ونال بعضهم جوائز عالمية منها جائزة نوبل، لكن اكتشافاتهم هذه لا تصنف في خانة المساهمة العربية في الثورة التكنولوجية، بل هي مسجلة حصرا على حساب البلد الذي يقيم فيه هذا العالم. تفتح هذه المسألة على الأسباب البنيوية التي تضع العالم العربي في درجات متأخرة في علاقته بالتكنولوجيا وثورتها الزاحفة.
يرتبط التخلف في هذا المجال بدرجة التطور وحدوده الذي وصلت إليه المجتمعات العربية على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية. يمكن إعادة أسباب الإعاقة إلى عاملين رئيسيين :الأول، يتصل بسياسات التنمية الشاملة التي اعتمدتها البلدان العربية منذ حصولها على الاستقلال والنجاح الجزئي الذي حققته في مجال التحديث إلى أن دخلت في المراوحة والانكفاء إلى الخلف، فيما يتصل السبب الثاني بالبنية العقلية والذهنية التي رافقت محاولات الدخول إلى العصر والإفادة من التكنولوجيا.
في الأسباب المتصلة بالسياسات التنموية الشاملة، يمكن الإشارة إلى أربعة أسباب حدّت وما تزال من الدخول العربي إلى عالم التكنولوجيا. يتصل السبب الأول بالسياسة تجاه الأبحاث، مراكز وعاملين فيها، ومدى تمكين العقول العربية من توظيف كفاءاتها في إنتاج معرفة علمية. من المعروف أن الدول المتقدمة تضع مراكز الأبحاث في صدارة “إنتاج المعرفة”، بحيث يشكل حجم الموازنات والمبالغ المنفقة عليها أحد مقاييس التقدم العلمي والحضاري. فرغم الثروات الغنية التي يتمتع بها العالم العربي، فان البلدان العربية لا تخصص أكثر من 0،5% من إجمالي ناتجها الوطني للبحث والتطوير، فيما تخصص البلدان المصنعة حديثا حوالي 3% من إجمالي ناتجها للأبحاث العلمية. يزداد الأمر سوءا عندما يتبين أن قسما أساسيا من هذه الموازنة يذهب إلى النفقات الإدارية وتغطية رواتب العاملين وإيجارات المراكز. إلا أن الأسوأ يكمن في أن قسما غير قليل من هذه الأبحاث يرمى على رفوف المكتبات ولا تجري الإفادة منها أو توظيفها في ميادين تطوير البلد، مما يجعلها بعد فترة عديمة الصلاحية بعد أن تفقد المعلومات الواردة فيها أهميتها.
يتناول السبب الثاني في الإعاقة طبيعة التعليم ونوعيته وطريقة أدائه. بات معلوما أن الفروع العلمية والتطبيقية ما تزال تحتل مرتبة ضعيفة في الجامعات العربية لصالح غلبة الفروع الإنسانية والآداب والحقوق. تزداد المشكلة عندما يتبين قصور المستوى التعليمي الجامعي قياسا إلى جامعات متقدمة في العالم. يغلب التلقين على وسائل التعليم، وتعتمد الجامعات على الكم وليس على الكيف. لا يرتبط التعليم بحاجات المجتمع وموجبات التنمية، كما لا تقوم صلة وثيقة بين الجامعات والمؤسسات الصناعية، وهو أمر أساسي في إدخال التكنولوجيا وإنتاجها. يشار هنا إلى أن العديد من الدول العربية أوفدت نخبا منها إلى الغرب للتخصص في ميادين التكنولوجيا العالية، وحققت هذه النخب نجاحات أساسية، لكن السياسات العربية عجزت عن استيعابها والإفادة منها، فوجدت هذه النخب نفسها مضطرة إلى الهجرة خارج الوطن العربي.
يتصل السبب الثالث بمستوى التقدم الاقتصادي والاجتماعي الذي وصلت إليه المجتمعات العربية. لا تشجع الصورة الراهنة لهذه المجتمعات المتسمة بالفقر والبطالة والأمية وضعف الرعاية الصحية، على خلق مناخ محفز لتطور العلوم العالية ولإدخال التكنولوجيا. تشير التقارير الرسمية إلى أن العالم العربي يسجل أعلى نسبة في البطالة والأمية والفقر في العالم، مما يعني توجه الأولويات نحو تأمين الحد الأدنى من الحاجات التي تؤمن استمرارية المواطن على قيد الحياة، فتتحول سائر القضايا، ومنها إدخال التكنولوجيا، إلى نوع من الترف والكماليات.
أما السبب الأخير في الإعاقة، فهو سبب سياسي بامتياز. يحتاج البحث العلمي والتطوير التكنولوجي إلى مستوى من الحريات العامة وحرية في التعبير تسمح للباحث أن يقدم معلوماته وأرقامه دون أي قيود. ما تزال الأرقام في العالم العربي وجهة نظر، وما يزال الحاكم العربي يخاف حقيقة المعطيات العلمية خصوصا في الميادين الاقتصادية والاجتماعية من أن تمس هذه الأرقام الأمن السياسي والقومي للبلاد أو تؤذي السلطات السياسية والدينية. ولا تساعد الأوضاع السياسية غير المستقرة المصحوبة باضطرابات اجتماعية مفتوحة على نزاعات أهلية، في تشجيع العلماء والباحثين على الإقامة في أوطانهم، كما لا تشجع أيضا القطاع الخاص وأصحاب الرساميل والمؤسسات الدولية في توظيف الأموال الضرورية لتطوير التكنولوجيا.
لا يقلّ العامل المتعلق بطبيعة العقلية العربية السائدة أهمية عن السياسات الداخلية في إعاقة الدخول إلى التكنولوجيا. أتت الثورة العلمية في أوروبا منذ القرن السادس عشر وصولا إلى زمننا الراهن حصيلة تحولات فكرية وفلسفية واجتماعية، ولم تكن الاكتشافات والاختراعات العلمية سوى واحدة من مفاعيلها ومحصلتها. بدأت بإعادة الاعتبار إلى العقل طريقا لمعرفة الحقيقة وتحليل الواقع، وخاضت صراعا مع الغيبيات والفكر الخرافي السائد. أعطت الأولوية للإنسان وتقدمه وسعادته بصفتها الهدف الأخير، وأحلت العلوم الموضوعية الشأن الأرفع في معرفة أسرار الطبيعة والكون والحياة البشرية. ترافق ذلك كله مع صراع سياسي ضد الاستبداد وسلطة البابا والكهنة وسعي لفصل الحياة الدينية عن الحياة المدنية والسياسية. في ظل هذه المعطيات ولدت الثورة الصناعية وانجدلت معطياتها بسائر القضايا السياسية والاقتصادية والفكرية، وهو أمر ما يزال مستمرا في ظل الثورة التكنولوجية الصاعدة.
ظل العالم العربي يتعاطى مع إدخال التكنولوجيا بميادينها المتنوعة بصفتها أمورا تقنية مفصولة ومعزولة عن العوامل التي تسببت بها. يأخذ العرب التقنيات الحديثة، لكنهم يرفضون الأفكار التي أنتجتها. وما يزيد الأمور تعقيدا في الزمن الراهن هو ذلك الزحف المتمادي للغيبيات والخرافة وسيطرته على معظم ميادين الحياة في المجتمعات العربية، من السياسة إلى الاقتصاد والثقافة، مما يجعل التعاطي مع معطيات الثورة التكنولوجية أمرا يشوبه الحذر والتحفظ.
يستحيل خروج العالم العربي من إسار تخلفه ليتمكن من دخول العصر دون ولوجه إصلاحا شاملا يبدأ بسيادة العقلانية مدخلا للنظر في أمور الحياة، ويستكمل بإصلاح سياسي يضع المجتمعات العربية على سكة التقدم والتنمية الشاملة.
موقع الاوان