هجـــرة وهجـــرة !
ميشيل كيلو
في آخر انتصارات النظم العربية القائمة اثنان : واحد يتعلق بتزايد هجرة اليهود من الغرب والشرق والشمال والجنوب إلى فلسطين ، وآخر يتصل بتزايد هجرة مكون تاريخي رئيس من مكونات تاريخ وواقع الحضارة العربية الإسلامية هو مسيحيو الوطن العربي عامة ، والمشرق خاصة ، إلى الغرب . هاتان الهجرتان هما واحدة من أغرب عمليات الانتقال التاريخي وأشدها فظاعة على مر القرون .
في آخر الأرقام ، التي نشرتها الوكالة اليهودية ، أن هجرة اليهود إلى فلسطين ارتفعت بنسبة 16% عام 2010 عنها في العام السابق له ، فقد بلغ عدد المهاجرين في العام الذي انصرم للتو 19130 مهاجرا ، مقابل 16465 لعام 2009 و 12009 في العام الذي سبقه ، وكانت الهجرة فيه هي الأدنى منذ عام 1987. وجاء قرابة 40 % من المهاجرين من الاتحاد السوفييتي السابق، حيث يوجد خزان بشري يهودي وغير يهودي ضخم ، راغب في الهجرة ، كان من الضروري بذل جهود منظمة وهائلة لمنعه من مغادرة وطنه ، لكن الحكام العرب ،الغائبين عن الوعي والواقع، ليسوا في وارد فعل أي شيء على الإطلاق غير ملاحقة شعوبهم وقتل روح الحياة في صدور بناتها وأبنائها ، عبثا ، كما تؤكد تجربتا تونس والجزائر . وهكذا جاء إذن عام 2010 من تلك البلاد 7700 شخص ، بينما أتى 3980 مهاجر من أميركا ، مقابل 3767 غادروها عام 2009 إلى إسرائيل ، ووصل 2040 من فرنسا ، بزيادة 8% عن العام السابق ، و150 من فنزيلا مقابل 38 مهاجر عام 2009 ، وزاد عدد اليهود الإثيوبيين من 240 في العام الماضي إلى 1650 هذه السنة . في هذه الأرقام ، لا تذكر الوكالة اليهودية عدد من هاجروا من اليمن على سبيل المثال ، وهو ، كما يزعم ، بلد عربي فمن واجبه إذن الحيلولة دون هجرة مواطنيه اليهود إلى دولة أجنبية استولت على وطن عربي بكامله ، فضلا عن أنها اعتدت على الدول العربية المجاورة لها واحتلت أراضيها ، لكن حكومة اليمن مشغولة بالحفاظ على سلطة « السيد الرئيس « وأسرته عبر شن وخوض حروب متشعبة ضد مواطنيها في كل قرية ومدينة ، فليس لديها أي وقت للاهتمام بمصير هؤلاء . والفضيحة أن مجموع من هاجروا من البلدان العربية إلى إسرائيل قبل حرب عام 1948 شكل 59 % من سكانها حتى عام 1961 ، أي أن الحكومات العربية هي التي أمدت المشروع الصهيوني بالمادة البشرية الضرورية لانتزاع فلسطين وطرد شعبها ، ثم لإنزال الهزائم بنا واحتلال أراضينا ، ثم واصلت إمداد الكيان الغاصب باليهود العرب بعد هزيمة 1967 المذلة التي أنزلها ببلداننا، وقلنا بعدها إننا أخطأنا حين سمحنا بتهجير ، أو هجرنا ، اليهود العرب إلى إسرائيل ، فإذا بنا نسمح أو نهجّر قرابة أربعمائة ألف يهودي ، أي ما يعادل فرقتي مشاة في الجيش الإسرائيلي ، بين عامي 1967 و 1975 وحدهما ، رغم ما أبدته حكوماتنا من ندم وتوبة بسبب سياساتها تجاه مواطنيها اليهود، إلذين دفعتهم دفعا إلى مساندة المشروع الصهيوني ، وإلى مقاتلتنا إلى جانب وتحت قيادة غرباء لم يترعرعوا بين ظهرانينا أو يعيشوا في ظل حضارتنا ، بل أتوا إلينا من كل حدب وصوب غزاة فاتحين ، بعد أن اعتبروا أنفسهم جزءا من حركة تاريخية أخرجت قسما من مواطني البلدان الاستعمارية إلى المستعمرات لاستيطانها والتحكم المباشر بسكانها الأصليين ، على غرار ما حدث في كندا وأستراليا وجنوب أفريقيا وأميركا اللاتينية والجزائر … الخ .
في مقابل هذه الهجرة القادمة لإفراغ وطننا من شعبه ولاحتلال أراضينا والتحكم بأقدارنا ، هناك هجرة ذاهبة من هنا إلى هناك ، من وطنها إلى المجهول ، تكتسب بدورها معان مأساوية ، يعبر عنها رقم مرعب خاص بوطن المسيح : فلسطين ، التي انخفض عدد المسيحيين فيها من 15 إلى 1% من إجمالي شعبها ، وصار معظم مسيحييها في المهاجر، بينما هاجر حوالي 60% من مسيحيي العراق ، وتتوصل الهجرة المتفاوتة النسب والأحجام لمسيحيي لبنان وسوريا والأردن ومصر، حيث يوجد في الأخيرة وحدها قرابة 8 ملايين مسيحي يجدون أنفسهم ، شأن مسيحيي العراق ، بين حلين أحلاهما مر : إقامة منطقة خاصة بهم داخل وطنهم يهاجرون إليها من بقية مناطقه ، حيث سيكون موضوع تلاعب خارجي محتمل إن لم يكن مؤكدا، مع ما سيترتب على ذلك من معان خطيرة تمثل قطيعة مع تاريخ من التعايش والتراحم والتفاهم والتسامح بينهم وبين المسلمين ، أو – وهذا هو الحل الثاني – مغادرة وطنهم بصورة نهائية والبحث عن وطن بديل في المهاجر ، مع ما سيعنيه ذلك من نتائج يصعب على العقل تصور خطورتها ، يتلخص بعضها في ما يلي :
– نهاية المسيحية الشرقية ، المسيحية التاريخية والأصلية ، واندراجها في المسيحية الغربية ، التي ستصير هي كل المسيحية ، وستكون قد أحرزت انتصارا نهائيا وحاسما بعد صراع دام نيفا عشرة قرون ضد مسيحية الشرق : مسيحية العرب وفلسطين . سيعني هذا انتقال المسيحية النهائي إلى الغرب ، وانتصار قراءته لدعوة يسوع ورسالته ، وانقطاع أية صلة لها مع موطنها الأصلي ، وحسم الرؤى لصالح قراءة تبلورت أول مرة في الحروب الصليبية ، ترى واجبها في تحرير موطن المسيحية من المسلمين بالقوة . يحدث هذا بينما تضع اليهودية يدها على فلسطين ، وتتحكم بقبر المسيح ، وتعمل بدورها على التخلص بأس ثمن من المسحية الشرقية ، وخاصة منها تلك التي ترى في نفسها جزءا من الحضارة العربية الإسلامية وتحمل سمات عربية وتشارك في الدفاع عن العروبة والإسلام . إن من لا يفهم الأبعاد الخطيرة لهذا الواقع ، ولا يعمل ضدها بكل طاقته ، سيدفع ثمنا على قدر من الفداحة أكبر من أي شيء قد يخطر بباله اليوم ، خاصة في ظل الانقسام الديني المتزايد بين الشرق والغرب ، الذي يؤذن بعمليات طرد متزايدة للمسلمين والعرب من أوروبا ، حيث قال 60 % من الألمان قبل شهرين باستحالة تعايشهم مع المسلمين ، واعتبر 40% من الفرنسيين قبل أيام قليلة في مؤتمر حضرته قوى سياسية من جميع الأطياف بما فيها اليسار أن المسلمين مصدر خطر على مجتمعاتهم ، وهي نسب لا شك في أنها ستزيد مع استمرار تهجير مسيحيي الشرق العرب إلى هناك ، حيث سيتحولون إلى رأس حربة مسمومة في الصراع ضد إسلام أخرجهم من ديارهم ، واستولى على ممتلكاتهم ، وقتل بناتهم وأبناءهم دون وجه حق أو مسوغ ، فإن قلت لهم ذات مستقبل : هذا ليس الإسلام بل قراءة القاعدة له ، أجابوك : إنه يسود باسم الإسلام ، ولا بد من الثأر منه !. هل صار بوسعنا تصور المدى الذي سيبلغه في هذا التطور صراع الحضارات باعتباره صراع أديان ومذاهب ، وحجم المعركة التي ستدور في زمن غير بعيد ، على الطريقة التي نظر لها منظرون أميركيون من غلاة اليمين باعتبارها الحرب العالمية الجديدة التي لا بد من كسبها !.
– مثلما يعني تهجير المسيحيين الشرقيين انتصار مسيحية على أخرى ، يعني أيضا انتصار إسلام على آخر ، أي تراجع وتلاشي إسلام التسامح والوسطية والعقلانية والمحمدية ، وحلول إسلام جديد محله ، هو ذاك الذي نجح فعلا في شق العالم إلى فسطاطين يستأثر أكثر فأكثر بأحدهما : هو الفسطاط الإسلامي ، الذي يتخذه قاعدة يدفع انطلاقا منها حرب الأديان إلى ذروتها من خلال عنف إجرامي بكل معنى الكلمة ، ما دام بلوغها ذروتها سيمر حتما على جثة النظم غير الإسلامية ، المزعومة علمانية ، القائمة في فسطاطه ، فضلا عن إعادة إنتاج إسلام هو « دين سيف وحرب أهلية «، سيسهل مهمة المؤسسة المذهبية المسيحية في استعادة حقل السياسة الذي خسرته بسبب انتشار وانتصار العلمانية ، والتأثير أكثر فأكثر على سياسات الدول الغربية ، وخاصة منها تلك التي لها ماض استعماري شديد الضراوة والعداء للآخر ، ما دام قيام وضع كهذا في الغرب ضروريا لحسم المعركة داخل لإسلام لصالح القراءة التعبوية والجهادية والعنيفة المطلوبة ، ولاحتدام المعركة بين الفسطاطين بما هي معركة موضوعها غير سياسي ، تدور حول حسم مصير العالم وتعتبر استكمالا لمعركة ستنتهي بأسلمة الكون ، حسب اقتناع قادة القاعدة وبقية الأصوليين ، الذي يبدو أن ما يقولونه اليوم ليس كل ما لديهم ، وأنهم سيزدادون تطرفا وعنفا بمرور الأيام ، لكن هدفهم يبقى ثابتا : تفجير حرب دينية ميدانها العالم ، يراد لها أن توحده دينيا ، في ظل الإسلام ، فالتطور ذاهب إذن نحو مزيد من الجهاد الظافر ، ول عبرة للخسائر التي يتكبدها العالم خلال الجهاد !. عندما طرح بن لادن شعار الحرب ضد الصليبيين واليهود ، كان يعني فعليا شن حرب ضد المسيحيين كأتباع دين ، ولم يكن يعني الغزاة من الغربيين ، الممسكين بدول لا دينية ، لكنها تستخدم الدين أداة لتحقيق سياساتها . في فهم بن لادن ، يجب أن ترتبط هذه الدول بالمسيحية ، لأن هذا يسهل تعبئة أكبر عدد من المسلمين ضدها وتصعيد المعركة إلى أقصى الدرجات الممكنة بوصفها معركة دينية لا سياسية .
بتهجير مسيحيي الشرق ، وتعاظم الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، وتعاظم نفوذ الدين على الرأي العام الأوربي ، الذي يزداد انغلاقا وتعصبا وكرها للمسلمين ، ومع إفلاس النظم لتي تحكم العرب اليوم وفقدانها أي شكل من أشكال الشرعية الشعبية أو الوطنية أو الأيديولوجية ، ومع تعاظم تقهقر الإسلام الوسطي المتسامح وتحوله إلى إسلام عاجز بصورة متزايدة عن التعايش مع الآخر ، ومع بروز إسلام غالب ومغلوب يعتقد أنه قادر على خوض وكسب معركة نهائية ستكون وشيكة النتائج ، يدخل العالم في حقبة جديدة مفتوحة الآفاق على عنف بلا نهاية أو ضفاف، سيبدل وجهه وبنيته ، لأن الطرفين المخرطين في الصراع بعضهما ضد بعض يريدان استخدامه أداة رئيسة ثم وحيدة في الحرب بينهما ، التي تعيدنا بضربة واحدة إلى تاريخ حفل بالعنف الديني ، آمنت أطرافه أنها تخوض حربا ستحسم مسألة إلهية هي هوية الدين الذي سينتصر فيها ويعم العالم بمفرده .
نحن في أول الطريق إلى هذه الحرب ، التي صارت ركائزها واضحة وأهدافها جلية . إنها معركة لا ينفع معها القمع أو القهر، يتطلب خوضها إستراتيجية شاملة تحدث نهضة مادية وروحية عامة ، يستحيل كسبها خارج ميدان الحرية والتنوير ، والمواطنة والتسامح !.
السفير