تم القضاء على المعارضة السورية… انبسطوا
منذر مصري
(إلى فاروق مردم بيك.. نحن المحكومون باليأس)
إذا اتفقنا، أنه منذ عام 2000، ظهر إلى الوجود ما يمكن تسميته المعارضة السورية، بغض النظر عن أن البعض يعتبر هذه المعارضة كانت موجودة في حالة بيات سياسي، منذ عقد الثمانينات من القرن المنصرم، بعد الأحداث التي مرت بها سوريا في بداية ذلك العقد، ثم في وسطه، والتي نتج عنها دخولها في الطور الأمني وعدم استطاعتها الخروج منه لليوم.
أي إذا اتفقنا أن المعارضة السورية بحلتها الجديدة، بدأت عند تسلم الرئيس الشاب بشار الأسد سدة الحكم في سوريا، وإلقائه خطاب القسم بتاريخ: 10/7/2000، الذي فسر خطاً أم صواباً بأنه رغبة في فتح باب الحوار، ودعوة لمشاركة أوسع، في تلمس السلبيات والمعوقات وتحديد طبيعتها، وفي اتخاذ القرارات المناسبة وأساليب تنفيذها، لخروج سوريا من واقعها، المتفق، آنذاك، من قبل كل الأطراف، على حاجته لرؤية جديدة ومنهاج جديد. وما تبع الخطاب من بيانات، أولها بيان التسعة والتسعين مثقفاً سورياً (27/9/2000)، وتشكيل لجان المجتمع المدني، وبداية ظاهرة المنتديات العلنية، أي ما سمي (ربيع دمشق)، وكأن من أطلق عليه هذا الاسم، كان يعلم أي فصل خاطف سيكون!. وبغض النظر أيضاً عن صحة تفسير خطاب القسم، وصحة فهم المرحلة المفصلية التي مرت بها سوريا في عام 2000، حيث يرى البعض بأنها ما كانت سوى فقرة الانتقالية، مقطع من طريق مستقيم يوهم تلويه بالانعطاف، أخذ فيها النظام قسطاً من الوقت، ليعيد إنتاج نفسه، ولضبط شيء من الاختلال أصاب توازنه بسبب غياب مؤسسه وعماده، ولملء الفراغ الذي خلفه هذا الغياب، الذي رغم التحسب له وتوقعه، جاء وكأنه قبل موعده.
وإذا اتفقنا، أن هذه المعارضة بما هي عليه، من ضعف (قلة – ندرة) العدد، أولاً: حيث تتكون من بقايا أحزاب وتجمعات سياسية: (الحزب الشيوعي (مكتب سياسي)- حزب الاتحاد الاشتراكي العربي (جمال الأتاسي) – حزب العمال الثوري العربي، حزب البعث العربي الاشتراكي الديموقراطي (حركة 23 شباط)، حركة الاشتراكيين العرب، وهي الأحزاب المشكلة لما يطلق عليه التجمع الوطني الديمقراطي المؤسس منذ آذار عام 1980، بالإضافة لحزب العمل (رابطة العمل الشيوعي) الذي نجح أخيراً بالانضمام للتجمع بعد الكثير من التمنع، وبالتأكيد يمكن اعتبار موقفه الايجابي من إعلان دمشق، المبرر الرئيسي لقبوله، خاصة وأنه جاء كرد على اتهام البعض للإعلان بالطائفية! وأريد أن أضع جانباً الأحزاب الكردية الثمانية التي رغم قبولها البرنامج الوطني الديموقراطي للمعارضة وانضمامها لإعلان دمشق، تشكل برأيي طرفاً له خصوصية يمكن أن تربك السرد العمومي المبسط الذي أقوم به الآن)، وهذه الأحزاب إجمالاً ليست سوى فصائل انشقت عن أحزابها الأم المشاركة في الجبهة الوطنية التقدمية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي ذي الأكثرية فيها. وهي محظورة رسمياً، ولو بتفاوت نسبي، وقد لوحق أعضاؤها واعتقلوا وأودعوا السجون والزنازين لسنين وعقود. يردف هذه المعارضة السياسية فئة من المثقفين والكتاب، دفعهم تصديقهم أن الحكم الجديد مقدم على إجراء الإصلاحات والتغييرات الكفيلة بنقل سوريا من واقعها السائد إلى مستقبلها المأمول، لدخول معترك السجال الفكري والسياسي والإدلاء بآرائهم وشهاداتهم في ما حصل ويحصل، مؤكدين على دور الثقافة الحقيقي في أي مجتمع حي، وبأنهم فعلاً (مثقفون)، الصفة التي شكك باستحقاقهم لها كل من ساءه تدخلهم في الشأن العام، ورأى أنهم يدسون أنوفهم في ما لا علاقة لهم به، دون أن ينتبه إلى أنهم بهذا التدخل بالذات، يقدمون الدليل على أن المجتمع السوري ما زال مجتمعاً (نابضاً بالحياة) خلاف كل ما يردده أعداء النظام عن قيامه بتصحير المجتمع السوري. ثانياً، وأعود الآن لتوصيفي حال المعارضة، لأصل إلى أهم نواقصها على الإطلاق، وهو ضعف رابطها الاجتماعي، وانعدام جماهيريتها، وخاصة بين فئة الشباب التي تشكل خمسة وسبعين بالمائة من عدد السكان في سوريا، وبالتالي عدم قدرتها تمثل أو تمثيل، ما كانت تدعيه، من رغبة كامنة لدى عموم الشعب السوري في التغيير والإصلاح. وبذلك تعطي هذه المعارضة الصورة المثلى للنخبة بالمفهوم السلبي، النخبة غير الفعالة وغير المؤثرة، بسياسييها الذين جاءوا من أحزاب ذات ايدولوجيات يسارية وقومية مهزومة، متنكبين على أكتافهم كل تاريخهم المأزوم. ومثقفيها أولئك الذين، من وجهة نظر مختلفة، ليسوا سوى حاملين لأفكار مفارقة عن مجتمعاتهم، وتصورات إرادوية، رغبوية، باتجاه مجتمعات أخرى تطورت في سياقاتها الخاصة المغايرة، عابرة مراحل تاريخية دفعت استحقاقاتها الباهظة (الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية) كاملة.
أقول إذا اتفقنا، كلياً أو جزئياً، وحتى إذا لم نتفق على الإطلاق، أن ذلك الحراك السياسي والثقافي الذي اتصف به المشهد السوري خلال الست سنوات الأخيرة، كان يشكل معارضة، وأن هذه المعارضة كبنية وفاعلية كانت تقارب، ولا أقول تطابق، الاسم، فإن هذه المعارضة… انتهت.
ـــ
يستطيع أي متتبع للوضع السوري، أن يلاحظ بسهولة أن المعارضة السورية، الواهنة في الأصل، هي اليوم في حالة أسوأ بكثير من الوهن والسقم: (حسين العودات: (ظلم ذوي القربى)- تركي علي ربيعو: (المعارضة السورية إذ تنكفئ على نفسها)- ياسين الحاجصالح: (المعارضة الديمقراطية السورية في أزمة) .. وغيرهم كثيرون). ولا يتردد المرء كثيراً في الحكم، إنه ما عاد هناك معارضة سياسية في سوريا، و إن الباقي من آثارها، مقالات وبيانات في أراشيف المواقع الاليكترونية، وأخرى ما زالت تكتب من الحين والآخر، ما هو إلا ذيول لذلك الزخم الثقافي والفكري الذي عمَّ سوريا خلال السنوات الخمس الماضية. ما عاد هناك منتديات عامة في أي من المدن سورية، فمنتدى جمال الأتاسي في دمشق، آخر منتدى سوري له صفة المعارضة، وكان يقال إنه مستمر بموافقة الرئيس الأسد بالذات، وقد ذكره في بعض مقابلاته. وكان، كما روي لي، البعثيون والموالون يحتلون صفوفه الأولى، أغلق. ما عاد هناك ما يسمى لجان المجتمع المدني، أودع أهم ناشطيها السجون، على دفعات، ليكونوا عبرة لمن يعتبر، ثم انقسموا، ثم انفرط عقدهم. ولا أدري ماذا حل بإعلان دمشق، قرأت منذ فترة أنهم شكلوا لجاناً ووضعوا برامج، ولكن ذلك، عملياً، لم يسفر عن شيء. توقفت الاعتصامات، بعد أن تكسرت عصي الأعلام السورية التي حملها شبيبيون وطلبة اتحاديون على رؤوس ثلة من المعتصمين. أبطل المثقفون السوريون عادة إصدار الإعلانات والبيانات، مفوِّتين على أنفسهم أن يتم ذكرهم في كتاب (جينيس) للأرقام القياسية، ماعدا البيانات المؤيدة للمقاومة والشاجبة لأمريكا وإسرائيل والعولمة والليبرالية والشرق الأوسط الجديد، فكان إعلان بيروت دمشق- دمشق بيروت، آخر البيانات التي تمادت بطريقة أو بأخرى، وتدخلت في قضية تخص السلطة وحدها، وهي العلاقة بين الشعبين الشقيقين السوري واللبناني!. وهو الإعلان الذي دفعت المعارضة السورية ثمنه باهظاً، فبحجته سددت السلطة الضربة القاضية للمعارضة السورية، مع أن المباراة، في جميع جولاتها، كانت ذاهبة، باتفاق جميع الحكام والمراقبين، إلى الهزيمة ساحقة بالنقاط. ثم لوحق الناشطون في جمعيات ومنظمات حقوق الإنسان ولجان العمل الوطني التي تشكلت جميعها دون تراخيص رسمية، وصلت هذه الملاحقة المكثفة أحياناً إلى مستوى جلسات الحوار الأسبوعية ونصف الشهرية والسهرات ، التي يغلب عليها التباين في الآراء أكثر من الاتفاق، والتي تعطي صورة مؤتلقة لحالة الوئام والرغبة في الحوار الذي يحيا بها الشعب السوري، أ كانت في بيوت الأصدقاء المضيافين، حيث يقتضي الأمر وضع طبق الفطائر، وطبق الفاكهة، على سطح الطاولة الصغيرة التي تتوسط المكان، أم كانت في المطاعم المعتدلة الأسعار، حيث يقوم أصحابها وسقاتهم بتقديم بقوائم دقيقة بأسماء الحضور وتقارير تفصيلية عما دار من نقاش فيها!؟ وكل ما احتاجته السلطة لتحقيق هذا الانجاز، هو استدعاء عدد منهم إلى فروع الأمن، وإفهامهم، بالعربي الفصيح، أن الوضع بات لا يسمح بأشياء من هذا القبيل، وأنه لا مجال بعد اليوم للتسامح وغض النظر اللذين اتصفت بهما السلطة سابقاً.. وهذه المرة تمّ حقاً التقيد بالخطوط الخمسة الحمراء التي تتلوى وتلتف حول بعضها لتصير سلكاً خماسياً، يصلح لأمور كثيرة منها تصفيد أيدي وأرجل الجميع. خط أحمر، الاتصال مع الخارج، ولو على مستوى سائح تعرفت عليه عند بائع الأشرطة الموسيقية: (- أنت تعلم أنه لا يمكن الائتمان لهم، وخاصة الأمريكيين والفرنسيين. + إذن.. لماذا تسمحون لهم بالدخول والتجول في طول البلاد وعرضها؟). فما بالك إذا رغب مسؤول ثقافي في سفارة أن يتعرف عليك ويزور مرسمك؟ وفي الواقع، أن الرئيس الأسد قد جعل هذا واضحاً، بتصريحه في إحدى مقابلاته التلفزيونية: (إننا حساسون جداً من هذه الناحية)، مشيراً بوضوح إلى أن المشكلة مع أولئك المعتقلين السياسيين الذين سأل عنهم صلاح قنديل هي علاقتهم مع الخارج. فصار السفر إلى لبنان، الشقيق المنشق، مثار ريبة وظنّ واستفسار الجهات الأمنية والإدارية أيضاً. كيف لا، ولبنان يحكم من قبل فريق يجاهر بعدائه الصريح لسوريا، فلا يجد أحد زعمائه مستقبلاً أفضل للشعب السوري من دعوة الولايات المتحدة الأمريكية إلى غزو واحتلال بلده! وإلى أن يخرج نواف غزالي آخر ليغتال رئيسه!؟ وكأن الغزو والاحتلال وعمليات الاغتيال هي ما تحلم به الشعوب العربية، والشعب السوري من بينها. وغير ذلك من مهاترات غير لائقة بأي فريق سياسي، والتي إن كان لها فائدة ما!، فهي إخراج النظام السوري عن طوره ودفعه لإقامة القطيعة الكاملة بين البلدين. (توسعت قليلاً في الفقرة السابقة لاعتقادي بتأثيرها السلبي جداً، إن لم أقل الكارثي، في ما آل إليه مصير المعارضة السورية، وخاصة شقها الثقافي). خط أحمر، التعامل مع التيار الديني، وخاصة الأخوان المسلمين في الخارج، أو من يمكن أن يمثل تياراً دينياً في الداخل. خط أحمر، الاعتصامات ولو كانت مؤلفة من ثلاثين مواطناً لا أكثر، عزّلاً من كل شيء، حتى من الهتافات واللافتات. خط أحمر، أي اقتراب من الشارع والجامعات والمدارس ومؤسسات الدولة والتواصل مع الناس. خط أحمر، التطاول على كل ما يعتبر، رمزاً للوطن، أو يمثل وحدة الوطن، خط أحمر الرئيس الراحل حافظ الأسد، فهو مؤسس النظام، وليس حقبة سياسية سابقة، كما يمكن أن يفهم البعض. خط أحمر، أحمر جداً، أي تدخل في شأن الجيش السوري، وأي تناول لدوره وقدراته. خط أحمر، حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي تنصّ المادة الثامنة في الدستور السوري، والدستور عند السوريين، نظاماً وشعباً، قرآن لا يمسه إلا المطهرون، بأنه قائد الدولة والمجتمع. إذن لا بيانات مثقفين بعد اليوم، لا مقالات سياسية مباشرة، (-: وهل تريدنا أن نعود للزنزانات!؟). لا استضافات أو ظهورات خاطفة في البرامج السياسية بالفضائيات العربية، التي حولت بعض المعارضين السوريين إلى أقطاب ونجوم إعلاميين!؟ فاتهمهم معارضون آخرون، بتشكيلهم سلطة غير منتخبة تحكم المعارضة وتقودها إلى حيث تشاء. لا مواقع اليكترونية سياسية من داخل سورية أو من خارجها تتجرأ على التطاول على النظام السوري ولو فقط بالكلام، فحجبوا ما شاء لهم حجبه منها، وأستغرب لماذا لم يحجبوها كلها!؟ ربما لأنها ساعدت أكثر ما ساعدت الجهات الأمنية في الكشف عن الذين لم يصدقوا هذه الخطوط الحمراء، وفي هذا تأكيد كاريكاتوري لمقولة رولان بارت: (لا يمكن للكتابة السياسية إلا أن تدعم المخابرات). فلم يفهموا أنها شبكة من الأسلاك المكهربة على حدود المنطقة المحرمة على الجميع سوى السلطة، وأن الشأن العام هو شأن خاص بها وحدها. وهؤلاء، منهم من أكتفي بتهديده وإخافته، ومنهم من سرح من عمله في الدولة، ومنهم من اعتقل وأودع سجن عدرا، وريث سجني المزّة وتدمر اللذين تم إغلاقهما، ومنهم من أحيل إلى المحاكم بأنواعها، فشمله عفو ما، أو صدرت به الأحكام بالسجن لشهور وسنين، أو ما زال ينتظر صدور مثل هذه الأحكام ليقدر كم من السنين يمكن له أن يعيش بعد انقضائها.
في كل هذا أثبت النظام بأنه، لا يقبل أي مشاركة باتخاذ القرار، ولا أي اختلاف في الرأي عما يبثه أعلامه، الذي اعترف هو نفسه بهزاله وحاول جهده دون جدوى أن يصلحه، بل أنه لا يقبل أن يصل إلى مسامعه أو مسامع من يريد أن يعرف عنه شيئاً، أي صوت آخر غير صوته، ولا الهمهمات… فكما هو القوي الذي لا يحتاج لمساندة أحد، هو العارف الذي لا يحتاج لمشورة أحد، ولا لنصيحة أحد. ولكنه رغم ذاك يشك ويرتاب، ليس بهؤلاء الحالمين فحسب، مهما أظهروا من وطنية ووفاء لبلادهم في واقعهم وأحلامهم، بل أيضاً بمواليه السابقين واللاحقين، الذين لديهم لسبب أو لآخر ما يتبرمون منه. وهو بهذا، محق مائة بالمائة، كيف لا، والنظام نفسه يفسر انشقاق أحد سدنته، بأنه قد باع نفسه لتيار يعمل على توريط سوريا في جريمة اغتيال رفيق الحريري. ما لم يعرف لليوم أن معارضاً سورياً من الدرجة العاشرة قد قام بمثله.
ولتبيان المسار السياسي للمعارضة السورية خلال هذه الست سنوات، أبين ما يلي:
• كان رهانها الأول على وجود خط إصلاحي في النظام، توسمت ملامحه في القيادة الجديدة الشابة، لما بدت عليه من صفات خلقية وإنسانية، ولما تضمنه خطاب القسم، وكذلك في عبر ودروس الحقبة الماضية في سوريا وفي العالم، التي كانت المعارضة تتوقع أن النظام قد فهمها واستوعبها.
• أعلنت أهدافها، على شكل مطالب محددة، محدودة، من النظام: (وقف العمل بالأحكام العرفية، إطلاق سراح السجناء السياسيين، عودة المنفيين، الاحتكام لصناديق الاقتراع..). حيث اعتبرت محطة بي بي سي البريطانية أن بيان ال 99 مثقفاً، عبارة عن مناشدة رفعها بعض المثقفين السوريين إلى رئيسهم الشاب لمباشرة إجراء الإصلاحات، التي هي من مصلحة أي نظام وأي شعب.
• عملت بمؤشر النظام، سلباً وإيجاباً، أي أن النظام كان مرآتها ومحور دورانها.. فقد انصب كل عملها في ردود الفعل على ما يقوم به النظام، وما يحدث فيه.. بمعنى أنها ظلت تتوجه (أحادياً) إليه، ولم تخرج عنه، لا إلى المجتمع ولا إلى الخارج.
• طمأنت المعارضة النظام وأهله، مراراً وتكراراً، بأنه ليس من أهدافها الظاهرية والمبطنة، المرحلية والمستقبلية، إسقاطه، أو تغييره. فهي لا تطمع بأكثر من حثه، ودفعه، إن استطاعت، لإجراء إصلاحات تدريجية. ووافقت أن يبدأ النظام بأي نوع من الإصلاحات الجزئية، فلم تشترط الإصلاح السياسي أولاً، رغم قناعتها بأنه البداية الصحيحة لكل الإصلاحات. وهذا ما أثبتته محاولات الحكومات السورية المتعاقبة في الإصلاح الإداري والاقتصادي.
• اتخذت العلنية أسلوباً لنشاطها. أي أنها رفضت أساليب العمل السياسي السري، وكشفت نفسها كلياً للسلطة، فقيل إنها معارضة علنية لسلطة سرية!؟.
• نبذت كل وسائل العنف، وأعلنت ببيان تم توقيعه من قبل أطرافها ومؤيديها ومتتبعي نشاطها كافة ، هيئات وأفراداً، أنها ترفض فكرة الاقتتال وحمل السلاح ضد أي طرف، وضمن أي ظرف.
• دعت للمصالحة الوطنية، ورفضت التعامل الثأري واستغلال أي من الفرص التي لاحت للبعض، في ظروف محددة مرت بها سورية، بعيد الاحتلال الأمريكي للعراق، أو خروج الجيش السوري من لبنان، وحددت أن ما تعمل لأجله هو أولاً وأخيراً أمن ومستقبل كل الشعب السوري.
• تمسكت بالاعتدال في كل شيء، وبالممكن، في الأهداف وفي الوسائل على حد سواء، ونبذت أسلوب التصعيد، وتعففت عن المزاودات والمهاترات، رغم أنها ووجهت بالتشكيك والتخوين، ليس فقط من قبل أهل النظام بل أيضاً من قبل معارضين سوريين في الخارج، يستطيعون الكلام على هواهم، أخذوا عليها اعتدالها ووسطيتها، واتهموها بالعمالة والتبعية للنظام.
• لم تركب المعارضة السورية، مركوب الدين، ولا الطائفية، ولا القومية (أنظر اشتراطاتها لقبول الأحزاب الكردية) مع علمها وعلم السلطة والجميع، بأن العوامل الدينية والطائفية والقومية، هي الأشد تأثيراً في الشعوب العربية جمعاء. والشعب السوري ليس على رأسه ريشة.
• اتصفت المعارضة بعقائدية مثالية، معتبرة المعيار الأخلاقي معياراً أساسياً في العمل، حتى إنها لقبت من قبل البعض بالمعارضة الطهرانية، وتحسبت لأي خطر يمكن له أن يمس المجتمع والبلاد، في حال انتهاج البعض الأسلوب المكيافيلي، ألف باء السياسة: (الغاية تبرر الوسيلة)، بل انطلقت من أن ما تدعو إليه وتطالب به غايته الأولى والأخيرة مواجهة الأخطار التي تهدد أمن واستقرار ومستقبل سوريا.
• حملت كل دعاوى النظام الإقليمية والدولية، كما في موقفها من القضية الفلسطينية والسلام وعودة الجولان بالرجوع للقرارات الدولية، وكذلك في موقفها المضاد للولايات المتحدة الأمريكية في غزوها واحتلالها العراق وفي محاولاتها تكريس الهيمنة الأميركية وضمان مصالحها النفطية والإستراتيجية في المنطقة. وكانت كلما زادت التهديدات والضغوط على النظام السوري، تطالبه وتعرض عليه وتناشده، وكأن هذا كل ما لديها، بالانفتاح على كل الشعب السوري، والثقة به، وبالوحدة الوطنية الحقيقية، باعتبارها الضمان الأكبر في مواجهة كل ما يمكن أن يتعرض له الوطن من أزمات ومخاطر، وهذا حرفياً خطاب النظام اليوم، مؤكدة أن العامل الخارجي، مهما كان هذا الخارج، ومهما كانت ادعاءاته، يعمل بالضرورة تبعاً لمصالحه الخاصة، وأنه من المحال أن ينطبق برنامجه وتنطبق أهدافه على برنامج وأهداف الشعب السوري.
هذه المعارضة… التي أقريتم، أنتم قبل غيركم، بأنها معارضة وطنية، واعتبرتموها المثل الصالح للمعارضة في مواجهة المعارضة الخارجية، وخاصة تلك التي اختلقتها الولايات المتحدة الأمريكية، وأرادت لها أن تسير على هدى المعارضة العراقية في آخر عهد صدام حسين. هذه المعارضة الوطنية التي لم تجدوا يوماً ما تأخذونه عليها سوى استعجالها تحقيق الإصلاحات والتغييرات، متعللين بظروف طارئة خارجة عن إرادتكم، لا تساعد، برأيكم، سوى على إبطائها وتأجيلها، فأنتم أيضاً تعملون لأجل تحقيقها. هذه المعارضة التي واجهت حملات التشكيك في وطنيتها وتخوينها، بمطابقة خطابها السياسي والاجتماعي مع خطاب السلطة، إلا في بعض التفاصيل الإجرائية. والتي نجحت، من بين الأشياء القليلة التي نجحت بها، في أن تكون دليلاً، استخدم لدرجة الاهتراء، لدحض الحملات الإعلامية (المغرضة) ضد سوريا، وما يروج (من أكاذيب) عن سوريا في الخارج… تلك (الإدعاءات والأكاذيب) التي أدت، منذ سنتين، إلى إصدار الكونغرس الأمريكي قانون معاقبة سوريا، وصدور عدة قرارات من مجلس الأمن ضد سوريا، وحالت دون قبولها كشريك في السوق الأوروبية، ودخول سوريا في شبه عزلة دولية، والتي تلوكها السيدة كوندليزا رايس في كل مرة تريد الظهور بمظهر المهتم بسوريا وبالشعب السوري. نعم للأسف، لم يكن الاعتراف المرحلي والعرضي بهذه المعارضة سوى لاستخدامها كشاهد (ما شافش حاجة) على أن في سوريا، ديموقراطية (على طريقتنا)، وحياة سياسية (كما يناسبنا)، وأحزاب ناشطة خارج دائرة السلطة (على قدنا)، ومعارضة وطنية متنوعة (تعارض بعضها أكثر ما تعارض أي طرف آخر)، يمكن للمشككين بوجودها، الالتقاء ببعض ممثليها، في مقهى الروضة أو نادي الصحفيين أو كافتريا الهافانا، لا على التعيين، متمتعين بحريتهم الكاملة، برشف القهوة السادة والجلوس مع الشعراء والفنانين مستنكرين ذلك التهافت السوري غير المفهوم على كتابة الرواية. وأن هناك لجاناً وجمعيات مدنية (ترفض، بسبب عنادها الأخرق، تسميتها أهلية)، ومنتديات عامة مفتوحة للجميع، وهناك حرية التعبير عن الرأي (الموافق)، وثلاث أربع صحف ومجلات تتباهى كل منها بالإدعاء أنها أول… سياسية مستقلة منذ أربعين عاماً!؟.
هذه المعارضة… بفضلكم، بفضل وطنيتكم، بفضل إخلاصكم وتفانيكم، بفضل غيرتكم وحرصكم على سوريا، أرضاً وسماء وبشراً وتاريخاً وهوية ومستقبلاً…تم القضاء عليها… انبسطوا