ما يحدث في لبنان

اليسار والحزب الشيوعي: مآل يستحق النقاش

null
فؤاد مرعي
«خطوة الى الأمام، خطوات الى الوراء»، هكذا هو حال اليسار اللبناني منذ ان حطّت الحرب الأهلية أوزارها في العام 1990 على الأقل. هل هذا يعني ان اليسار في لبنان متخلّف قياسا على اليسار في العالم العربي؟ الجواب هو النفي طبعا. لأن اليسار في البلاد العربية يكاد لا يكون موجودا. علما أنه قد شهد في الحقبة السوفياتية حراكا قويا في بعض الساحات (اليمن والسودان والعراق… الخ). أما اليسار اللبناني فقد بقي على قيد الحياة على الرغم من الحرب الأهلية بفضل النظام الديموقراطي وان كان مشوها، بالطائفية التي أوجدته. لكن لماذا يتراجع اليسار في لبنان اكثر مما يتقدم؟ لندع جانبا ما حل باليسار في العالم عقب هزيمة النظام الاشتراكي. ولندع جانبا ما حل بالقوميين واليساريين العرب بعد صراع طويل مع اعدائهم الكثر. ان معنى اليسار في لبنان يأخذ أبعادا محلية غير متوافرة في أي من الساحات العربية او الدولية. ان استثنائيته (وبالتالي مأساته!) تكمن في أنه يشكل نقيضا بنيويا للنظام الطائفي والأحزاب المتحدرة منه. لذا فهو خارج المنافسة. هذا المعطى بالذات هو سبب بقائه على قيد الحياة. أي أن شلله هو ذاته حافظ وجوده. يختلف الأمر بعض الشيء لدى الحديث عن الأحزاب القومية. فعلى الرغم من قلة عدد المنضوين اليها بالمقارنة مع الأحزاب الطائفية، استطاعت ان تشارك في اللعبة السياسية وان تجد لنفسها موطئ قدم داخل السلطة. وهو ما لم يتحقق بواسطة قواها الذاتية بل بواسطة الصوت السوري «المرجح» (حزب البعث والحزب القومي الاجتماعي). وعلى الرغم من ان الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي وغيرهما من التفريعات اليسارية كانت حاضرة بقوة داخل الحركة الوطنية في ذروة صعودها، لم يصعد الى السلطة بعد الحرب الأهلية سوى الحزب التقدمي الاشتراكي، لا بسبب يساريته، وإنما بسبب تمثيله لاحدى الطوائف اللبنانية أسوة «بحركة أمل والقوات اللبنانية وحزب الكتائب. حتى البرلمان اللبناني بقي مقفلا في وجه اليسار باستثناء تجربتين. الأولى في الجنوب عام ,1992 حين حملت لائحة الرئيس نبيه بري مرشح اليسار الأستاذ حبيب صادق لدورة يتيمة. والثانية في الشمال عام 2005 حين حملت لائحة 14 آذار الاستاذ الياس عطا الله بعد انشقاقه عن الحزب الشيوعي الأم لأسباب ايديولوجية وليس فقط تنظيمية. اليوم يغرد الحزب الشيوعي منفردا كعادته. فقد تبخرت «منظمة العمل» وابتعدت الشخصيات اليسارية التي سطع نجمها في وقت من الأوقات عن الأضواء. انه مآل يستحق النقاش. إذ يبدو ان الحزب الشيوعي كراكب الدراجة ان لم يتحرك سوف يقع. اما القوى المحركة، فهي غير متجانسة. فهناك «الجيل السوفياتي» او «الحرس القديم» الذي حافظ على جوهر العقيدة متمسكا حتى بالاسم للدلالة على عدم رضوخه للهزيمة. وهناك جيل شاب مندفع يجد أقرانا له في منظمات المجتمع الأهلي. فهل هذا يعني ان الحزب الشيوعي قد يتحول مع تناقص عدد «الحرس القديم» وازدياد عدد الشباب الى منظمة أهلية؟ انه سؤال موجه للمجتمع اللبناني اكثر مما هو موجه للحزب الشيوعي. فهذا الحزب هو نموذج لتنظيم لبناني جمع قضايا لا تجتمع في لبنان تحت سقف واحد: الدفاع عن حقوق العمال والفقراء، الاهتمام بالقضايا الوطنية والقومية (من بينها مقاومة الاحتلال)، والأهم تحقيق الاندماج الوطني داخل اطاره التنظيمي. فقليلة هي الاحزاب التي انشغلت بصورة جدية بجمع هذه العناصر الثلاثة تحت ردائها الايديولوجي والتنظيمي. الا أنه لا يوجد حزب لبناني دفع لهذه الأسباب مجتمعة أثمانا باهظة طوال فترة الادارة السورية كما فعل الحزب الشيوعي الذي اصبح حزب المهمشين واليتامى السياسيين.
اليوم لا يجد هذا الحزب متسعا له، لا في البرلمان ولا في ساحتي 8 آذار و14 آذار. انه يبدو كمن يتحرك خارج الزمن اللبناني. حتى اثناء التحضير لاجتماعات «سان كلو» التي اجراها وزير خارجية فرنسا برنارد كوشنير ما كان ممكنا دعوة الحزب الشيوعي للمشاركة في اللقاء بسبب فيتو الطبقة السياسية.
هذا الفيتو كان موجودا أيام السيطرة السورية على الحكم في لبنان. لكنه ما زال قائما بعد رحيل السوريين، ما يعني ان العلة غير محصورة بالطرف السوري وحده. ان للساحة اللبنانية مناعة ذاتية في وجه الظاهرات «الشاذة» الخارجة على الميثاق الوطني. فكيف يشارك امثال الحزب الشيوعي اللبناني (اذا ما وضعنا جانبا أزمته الداخلية) في السلطة في ظل دستور طائفي وقوانين انتخابية تعتمد على التوزيع المذهبي؟
ان تنظيما «خلاسيا» منبوذا من قبل الطبقة السياسية لا مكان له، لا في الحكومات ولا في البرلمان عبر قانون انتخابي على أساس النسبية. ان مكانه الصحيح هو «تجمع الهيئات الأهلية اللبنانية». من هناك بإمكانه ان يغيث الفقراء والمحتاجين، وان يشارك في أعمال الدفاع المدني، وان يدافع عن حقوق الانسان والبيئة. أما النقابات العمالية، وهي «كائنات» مهددة بالانقراض، فقد أدخلت الى العناية الفائقة بسبب «استنزاف» سياسي في الدماغ، ولم تعد مكانا صالحا للنضال بعد ان تعطلت وظائفها الحيوية. ان من يرى أحوال الحزب الشيوعي اليوم يدرك جيدا احوال العلمانيين اللبنانيين وقد ابتكر بعضهم صيغة «البيت العلماني» المفتوح لأيتام وثكالى النظام والمجتمع.
ان اليسار اللبناني عموما موجود على قيد الحياة بحكم حفظ الأنواع فقط. الا انه غير موجود على الساحة السياسية «بالفعل» وإنما «بالقوة» (بعضهم يقول بالصراخ والندب) بحكم التشويه الذي طال الطبيعة. هذا المثال وهذه التجربة لا يدعان مجالا للشك بأن الشريحة التي سميت «بالطائفة العلمانية» ينبغي ان تدرك حجمها وسقفها في بلد كلبنان. عليها ان تضع في حسابها ان رحابة صدر الطبقة السياسية والميثاق الوطني والمجتمع اللبناني القائم على «الشطارة» لا تتسع لأمثالها الا «كحائط مبكى». فهناك «كثير من الحرية وقليل من الديموقراطية» كما أشار الرئيس سليم الحص. لكن السؤال هو من يملك القدرة على استخدام كل هذه الحرية، وليس ما هي الكمية المتاحة منها! ان اصحاب النفوذ في لبنان هم الأحرار الفعليون. جميعهم فوق القانون، شرط ان يحسنوا التمويه. اما في الحالات الاستثنائية فلا حاجة حتى للتمويه. وما على اليسار اللبناني إذا ما أراد الخلاص من بؤسه الا ان يتعلم «الشطارة» من الطبقة السياسية. عليه ان يتقبل «الثقافة الرائجة» التي تم اختراعها خصيصا من اجل التغطية على ظاهرة اسمها «الفساد». عليه ان يقدم أوراق اعتماده الجديدة للنظام اللبناني وفقا للصيغة المتبعة وإلا اعتبر من خارج الشرعية الطبيعية. ان خروج اليسار عن «مكونات» المجتمع اللبناني هو خرق فاضح للطبيعة التي قررت الطبقة السياسية انه من الأفضل ان تبقى على بدائيتها وجاهليتها. لذا فإن الطوائف في لبنان تحولت مع تطور المجتمعات الحديثة الى… «قبائل».
نحن نعيش اليوم في مجتمع ما قبل الدولة على الرغم من كل مظاهر السيادة وعمل المؤسسات. لم يبق من جهاز الدولة الا مصلحة الضرائب والأجهزة الأمنية وجيش من الموظفين في القطاع العام يقابله جيش من العاطلين عن العمل في الشارع.
أما الأحجية التي بقيت من دون حل فهي: ما الذي تفسخ قبل الآخر الدولة ام المجتمع؟ وهل تبدأ اللحمة من الأولى ام من الثاني؟ لشرح هذا الالتباس يستعير البعض أقوالا مناسبة من نوع: «مثلما تكونوا يولى عليكم»، ما يعني تحميل المسؤولية مسبقا لما «نحن عليه» ورفعها كاملة «عمن وُليّ علينا». إذن على الشعب ان يتغير أولا، وعلى الزعماء ان ينتظروه على قارعة… الدولة!
على الشعب ان يتغير فردا فردا ولو استغرق الأمر ألف عام لكي نعدل قانون الانتخاب ونحرر الوظيفة من القيد الطائفي ويستطيع اليسار وغيره من الأحزاب الدخول الى جنة البرلمان او الحكومة!
في هذا الانتظار الطويل حكمة. وفي التسويات المؤقتة منجاة من الحروب الأهلية. فلقد شهد تاريخ لبنان العظيم حربا أهلية بسبب «كلة». فكيف لا تندلع حرب بسبب مقعد نيابي؟ او بسبب حقيبة وزارية؟ لكن من المؤكد ان حربا لن تقع بسبب هدر أربعين مليار دولار من خزينة الدولة طالما لم يشك أحد من ممثلي الطوائف غبنا في التوزيع.
لن ينجح اليسار على الاطلاق في تبرير وجوده الغريب وسط ملعب من هذا النوع. لن يُقنع أحدا ان بإمكانه ان يفعل ما فعله «البولشفيك» في ظل نظام القنانة والرق والعبودية. فعلى الرغم من كل مساوئ «القيصر» كانت تلوح في أفق نظامه طريقا نحو التغيير. ما أصعب العيش في الأمكنة المقفلة!
([) كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى