روح تونس تُلهب القاهرة
لم يكن أحد يتوقع أن تتحول دعوة على مواقع الفايسبوك إلى «مشروع ثورة» تريد إسقاط نظام حسني مبارك، وتحتل أكبر ميادين العاصمة، وتعلن تنظيم اعتصام مفتوح حتى يرحل الرئيس وعائلته
وائل عبد الفتاح
ميدان التحرير، كان اسماً على مسمى أمس فقط، احتله أكثر من ٢٠ ألف متظاهر، في أكبر تظاهرة منذ السبعينيات حينما احتل الطلاب الميدان نفسه في ما عرف باسم حركة الطلاب (١٩٧٢).
المتظاهرون رفعوا حتى ساعات متأخرة من الليل لافتات تقول: «مستمرون حتى الرحيل»، وهي رغبة لم تكن في حساب التنظيم الأول لما عرف بيوم الغضب، أو الثورة
، كما كان نشطاء الفايسبوك يسمونه في مجموعات عُدّت من النظرة التقليدية لحركات الاحتجاج مجرد مزحة أو عرض يقلد فيه المصريون التونسيين ويبحثون عن طبعتهم من «ثورة الياسمين».
شهدت التظاهرة مشاركات من فئات جديدة على مزاج الاحتجاجات المتصاعدة منذ ربيع القاهرة في ٢٠٠٥. الأغلبية شباب في العشرينيات والثلاثينيات، لكن كانت هناك مشاركات ملحوظة من الأربعينيات والخمسينيات. معظم المشاركين من شرائح الطبقة الوسطى، لكن الطبقات الأدني شاركت على نحو ملحوظ. لم يكن هناك مزاج مسيطر على التظاهرة: محجبات وعصريات، موظفون وطلاب، نشطاء سياسيون وشخصيات لديها أزمات ومشاكل، مثقفون ومشجعو الكرة في روابطها الجديدة المعروفة بالالتراس. توليفة لم يتوقع أحد تجمعها في تظاهرة بدت بلا مركز واحد، ولا قيادة وحيدة، لا يجمعها سوى رغبة إسقاط النظام، أو الاستفادة من إمكان منحته تونس في إزاحة ديكتاتور، وفرض قوة المجتمع في معادلة أي سلطة مقبلة.
روح تونس كانت حاضرة أمس في مصر، الهتافات استعارها المصريون رغم براعتهم المعروفة في صياغة الشعارات، وهُتف بالعربية الفصحى: «الشعب يريد إسقاط الحكومة» و«اعتصام اعتصام حتى يسقط النظام».
التظاهرات بدت عفوية، رغم أنها كانت مدبرة قبل أيام. لكنها عفوية الخروج وسيطرة العواطف المشتاقة إلى تغيير، والساعية إلى هز النظام بقوة.
قرار الأمن، مع اتساع نطاق التظاهرات، كان عدم الاحتكاك. وبإيقاع عفوي، سعى المشاركون إلى كسر الطوق الأمني والسياسي، بما يعني عدم الاستسلام لنظرية حصار التظاهرة. شعارات التظاهرة الضخمة دارت كلها حول رحيل نظام مبارك على غرار ما حدث في تونس، ورفعت أعلام مصر فوق أعلى نقطة في الميدان مع لافتة تطالب بسقوط النظام.
وكانت التظاهرات قد بدأت منذ صباح أمس في أكثر من نقطة في العاصمة بالتزامن مع تظاهرات مشابهة في مدن أخرى مثل الإسكندرية والمحلة الكبرى والمنصورة وكفر الشيخ، إضافة إلى أكثر من ١٠ مدن مصرية أصغر. ويتردد أن التظاهرة في السويس كانت الأكثر دموية، حيث قُتل متظاهران ومجند أمن مركزي إلى جانب عدد من مصابين لم يحدد بدقة. تظاهرات القاهرة تعددت نقاط تجمعها، واختارت أحياء وشوارع تقليدية مثل شارع جامعة الدول العربية في حي المهندسن حيث تجمع أكثر من ٥ آلاف متظاهر رغم حواجز أمنية انتشرت عبر محاور الطريق من الميادين والجسور المحيطة إلى الشارع الذي فقد الأمن السيطرة عليه.
تظاهرات أخرى انطلقت من أحياء شبرا وامبابة والشرابية ومن أمام دار القضاء العالي في وسط القاهرة، تعامل معها الأمن بطريقة غير تقليدية، وخاصة عندما سارت المسيرات ولم تتمركز في نقطة واحدة. تظاهرات التقت في ميدان التحرير وسط ارتباك أمني، حيث انفلتت أعصاب بعض أجنحة الأمن في قلب ميدان التحرير وحدثت اشتباكات طارد فيها المتظاهرون مجموعات متناثرة من فرق الأمن واستطاعوا خطف بعض خوذات رجال الأمن المركزي ودروعهم، وأحاطوا بسيارة تابعة للشرطة ومنعوها من الحركة.
ومنذ الساعة الرابعة بدأت التظاهرات تتلاقى في ميدان التحرير وتنضم مجموعات من المواطنين العاديين على نحو غير مسبوق بعد هتافات من المتظاهرين «انزل.. انزل» و«علي الصوت.. اللي بيهتف موش هايموت».
وبعدما تحول الميدان إلى مركز التظاهرة، ترددت الشعارات المطالبة برحيل مبارك، «فالسعودية (أو الطيارة) في انتظارك»، وكلها إعلان كراهية عميقة للنظام، ورغبة في إزاحته كما عبرت إعادة مشهد تكسير صور الرئيس في المحلة الكبرى، المدينة نفسها التي كسرت «الصنم» لأول مرة.
كذلك تجمع عدة آلاف أمام المقر الرئيسي للحزب الوطني وهتفوا ضد «الحرامية» و«بالطول بالعرض ها نجيب مبارك الأرض» (وهو هتاف مستعار من ملاعب الكرة)، كذلك كانت هناك دعوة توجه أسئلة إلى ضباط الأمن وجنوده: «إنتو موش مصريين والا إيه».
الأمن، رغم الهدوء الذي غلب تعاملاته على عكس المتوقع، تحاشى الاحتكاك مع التجمعات الكبيرة، كذلك عبّرت عن الرعب الكبير إجراءات إغلاق موقع التويتر لفترات طويلة، إضافة إلى حجب عدة مواقع أهمها «بامبيورز» وصحف «الشروق» و«الدستور الأصلي» و«البديل». وتواطأت شبكات المحمول، وعلى الأخص «موبينيل» لتعطيل الاتصالات بين المنطقة المحيطة بميدان التحرير وبقية مناطق مصر.
الذعر من انضمام قطاعات جديدة إلى التظاهرات، ومحاولات اقتحام عدة أماكن عامة مثل مجلس الشعب، أربكا خطط الأمن عدة مرات، وخاصة مع تغير مسار التظاهرات، وفشل عملية إخافة المتظاهرين الذين فاجأوا الأمن بالهجوم وعدم التقهقر.
الارتباك لم يكن فقط على المستوى الأمني، بل أيضاً على المستوى السياسي، ولم يخرج عن النظام أو الحزب أو الحكومة سوى بيان تقليدي من الداخلية وتصريحات مسؤولين مثل أمين إعلام الحزب الوطني علي الدين هلال الذي قال كلاماً مضحكاً عن خروج ٣٠ ألفاً فقط في التظاهرات من بين ٨٠ مليوناً… ورد عليه الساخرون بطمأنته إلى أن باقي الشعب سيخرج عن قريب، لكن في هذا اليوم لن يستطيع هلال التصريح أو الكلام.
المفاجأة كانت كبيرة على الجميع، وخالفت كل التوقعات، حتى قال البعض إن المتظاهرين سيمتنعون عن نزول الشارع يوم الإجازة. وهناك من قال إن «الإخوان» سيركبون التظاهرة… أو الأمن سيطوقها كالعادة، وسيهرب المتظاهرون الجدد مع رائحة الحريق في القنابل الخانقة… كل هذه التوقعات سقطت يوم أن تجمعت كل هذه الآلاف لإسقاط النظام.
الأخبار