انتفاضة شعب مصر: أربع خيانات بهيجة
صبحي حديدي
حال الإنتفاضة، التي يشهدها الشارع المصري منذ أيام ضدّ نظام حسني مبارك، تدحر سلسلة من ثوابت ‘حكمة شائعة’، أو مشاعة على نحو ما، استقرّت عميقاً في جوهر الركائز الكبرى للتفكير الغربي، الليبرالي أو الراديكالي أو المحافظ التقليدي/ الجديد، حول سُبُل تغيّر ـ إذْ لم يكن مطروحاً أصلاً احتمال تغيير ـ أنظمة الإستبداد العربية، أو طرائق ‘إصلاح’ طبائعها اللاديمقراطية، دكتاتورية كانت أم شمولية أم أوتوقراطية. وإذا كانت تلك الحكمة تعتمد، من باب الايحاء بالرصانة العلمية تارة أو الزخرف المحض طوراً، معطيات سوسيولوجية وثقافية وتاريخية ومذهبية متنوعة، فإنها تنتهي دائماً إلى، وبالأحرى تُختزل قسراً في، معطى أوّل وأكبر وأهمّ: مصالح الغرب، وليس البتة مصالح الشعوب ذاتها.
أولى الركائز تلك الشهيرة التي تقول إنّ بديل أنظمة الإستبداد هو الإسلام السياسي، ‘المتطرّف’، ‘المتشدد’، ‘الأصولي’، في المثال الأقصى والأسوأ؛ أو تيارات جماعة ‘الإخوان المسلمين’، هنا وهناك، أياً كانت التسميات، في المثال الأدنى، السيىء، حتى إذا اعتبره البعض ‘معتدلاً’ أو ‘منفتحاً’، أو ‘غير تكفيري’ على الأقلّ. وهذه ركيزة تأبى النظر في حقيقة طبيعية، اجتماعية وسياسية وثقافية وتربوية، مفادها أنّ صعود الإسلام السياسي لم يأت من فراغ، بل هو سيرورة تجرّ وراءها خلفيات تاريخية معقدة، مثلما تندفع إلى الأمام بتأثير محرّك أكبر راهن هو افتضاح البرامج السياسية للأنظمة العربية، ومحرّك أصغر موروث هو التعطيل الكولونيالي.
وما سُمّى بـ ‘صعود الأصولية الإسلامية’ عبر صناديق الإقتراع ـ كما في أمثلة ‘جبهة الإنقاذ’ في الجزائر، و’حماس’ في فلسطين، واختراقات جماعة ‘الإخوان المسلمين’ لبعض دوائر الانتخابات التشريعية السابقة في مصر ـ لا يبدو شبيهاً في المنطوق الغربي بصعود القوى الإسلامية في انتخابات العراق. وهذه هي المفارقة الصارخة التي تكذّب ما تصنّفه رطانة المصطلح السياسي في باب ‘يقين التكهن’، حيث كانت قيادة ‘حماس’ نفسها في عداد مَنْ باغتتهم نتيجة الإنتخابات المفاجئة؛ كما أنها مفارقة تذكّر بأنّ الماضي القريب يظل أشبه بحاضر راهن، ما دام صندوق الإقتراع يتيح للمقترع أن يعاقب أهل الماضي، دون أن يكون واثقاً تماماً من فضائل أهل المستقبل.
وهكذا، دونما غوص في تفاصيل التاريخ القريب لوأد التجربة الإقتراعية الأولى في الجزائر، ثمّ ما أعقبها من إراقة دماء وتخريب هياكل اجتماعية وسياسية واقتصادية، واستبدال ‘الخطاب الأصولي’ لأمثال عباسي مدني بالسلاح الأبيض لإرهاب أعمى لا يجيد فنون ‘الخطاب’ قدر إجادته ذبح الأبرياء، يظلّ من الثابت أنّ تنظيم انتخابات ديمقراطية نزيهة، تحت رقابة فعلية من منظمات غير حكومية مختصة، له فضائله وعقابيله بما هو عليه، وما يفرزه من قرار شعبي، بصرف النظر عن انضواء زيد في تلاوين القرار السياسية والإيديولوجية، أو انشقاق عمرو عليها واختياره صفّ معارضتها.
ولقد اتضح أنّ انتفاضة الشعب المصري، بعد انطلاقتها على أيدي شرائح شبابية ذات منابت اجتماعية متباينة المصالح وإنْ تلاقت في واقع أنها بين الأشدّ تضرراً من نظام مبارك، في مستوى المعيش الاقتصادي والمجتمعي والسياسي اليومي سواء بسواء؛ انقلبت إلى حاضنة عريضة النطاق لم تتجاوز مبادرات وأبناء الفئات الدنيا من الطبقة المتوسطة فحسب، بل جعلت كلّ شوارع الاحتجاج فسيحة مفتوحة أمام العلماني مثل المتدين، والإخواني مثل الناصري، والليبرالي مثل الماركسي. ولعلها ليست مبالغة حين يُرى في هذا الزخم النادر، الحيوي التعددي، تذكرة بما كانت عليه حال الشارع المصري من ائتلاف مرحلي، وترحيل أو تأجيل للخلافات العقائدية والسياسية والحزبية المصرية ـ المصرية، على امتداد مختلف أحقاب النضال ضدّ الاحتلال الأجنبي، منذ أحمد عرابي وحتى مقاومة العدوان الثلاثي.
وفي مثال يخصّ سورية، كان روري مكارثي قد كتب مقالة، في الـ ‘غارديان’ البريطانية، أواخر سنة 2005، وصف فيها متاعب النظام السوري، ومتاعب بشار الأسد شخصياً، قبيل إعلان تقرير المحقق الدولي ديتليف ميليس، واشتداد التأزم مع الولايات المتحدة حول ضبط الحدود السورية ـ العراقية. ولقد بدا مكارثي موضوعياً بصفة إجمالية، إلا حين استعرض ضعف المعارضة السورية الداخلية وانقسامها (وهذا ليس بالتوصيف الخاطىء، طبعاً)، وأنّ ‘المعارضة الإسلامية، ممثّلة بالإخوان المسلمين’ ستكون هي ‘الأكثر استفادة من أيّ تغيير للنظام في دمشق’. المدهش أنه، إذْ كاد أن يشطب المعارضة الداخلية، ‘الديمقراطية’ و’العلمانية’ كما يقول، أكد تفوّق ‘المعارضة الإسلامية’ دون أن يوضح طبيعتها، وما إذا كانت تضمّ فصائل أخرى غير الإخوان المسلمين. المدهش، أكثر، أنه أقرّ في الآن ذاته أنّ النظام الحاكم ‘لعب طويلاً’ على مخاوف كهذه، بل بالغ فيها وسعى إلى تضخيمها!
ركيزة ثانية، أفلحت انتفاضة شعب مصر في خيانة خلاصاتها التي بدت ‘مكينة’ وأقرب إلى مسلّمة أكيدة خارجة من أنابيب مختبر علمي، هي تلك التي تقول إنّ انظمة الإستبداد والفساد العربية ‘مستقرة’، وأنّ بدائلها سوف تتسبب في الفوضى وانعدام الإستقرار وانتعاش التشدد والتطرّف. ولأنّ بديل البدائل هو الإسلام السياسي، على وجه الحصر أو يكاد، فإنّ أية ممارسة ديمقراطية يمكن أن تجلب ذلك البديل هي رجيمة بالضرورة، وخير للغرب أن يتواطأ مع المستبدّ الفاسد من أن يجازف بمواجهة الشرعيّ العابد! بيد أنّ المعادلة زائفة أصلاً، بسبب اتكائها على حتمية وقوع المجتمعات العربية في قبضة التشدّد الإسلامي وحده، إذا مُنحت تلك المجتمعات فرصة الذهاب إلى صندوق اقتراع حرّ نزيه، من جهة؛ وهي معادلة تلفيقية جبرية، من جهة ثانية، لأنها تحكم على المجتمعات العربية بالتماثل المطلق، بعد الجمود المطلق، والسكون الأبدي.
وليس حديث هيلاري كلنتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، عن ‘استقرار’ نظام مبارك سوى البرهان الأحدث على أنّ خطّ التفكير الرسمي الأمريكي ما يزال، عند الديمقراطيين مثل الجمهوريين، يعتمد المقولة العتيقة التي ترى أنّ الإسلام السياسي ينبغي أن يكون خارج اللعبة الديمقراطية حكماً، متطرفاً كان أم معتدلاً، منفتحاً أم إنعزالياً، تقليدياً أم عصرياً. المثال الأبرز على التأويل التنظيري لهذه الركيزة هو المقال المثير الذي نشرته Foreign Affairs، الفصلية الأمريكية العريقة، بتوقيع إدوارد شيرلي (الذي أعلمتنا المجلة أنه اسم مستعار لاختصاصي في الشؤون الإيرانية، وموظف سابق في وكالة المخابرات المركزية، مؤلف كتاب بعنوان ‘إعرف عدوّك: رحلة داخل الثورة الإيرانية’)؛ ناقش فيه احتمالات وإشكاليات وصول الأصولية إلى السلطة في بلد عربي ثان، مفترضاً أنها وصلت لتوّها في بلد أوّل هو السودان!
و’الخبير’ صاحبنا قال ما معناه: صحيح أنّ الإسلاميين العرب، في أيامنا هذه، تشرّبوا الثقافة الغربية وتعلموا مفردات الدول ـ الأمم في العالم الحديث، واكتسبوا خصائص الدعاة القوميين دون أن يتخلوا عن مفردات الله وجاذبية الإسلام الشعبي. ولكنّ الأصحّ هو أنّ خطاباتهم نهضت وتطورت على أساس العداء للغرب والإمبريالية، ووراثة الخطاب الطبقي والاجتماعي لليسار العربي العلماني الذي انهزمت برامجه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وثقافياً أيضاً. أليسوا، إجمالاً، ممثلي الحساسيات الدينية، التي كانت تتعايش على استحياء مضمر مع الحساسيات العلمانية في الأحزاب والمؤسسات القديمة ذاتها؟ خلاصة الأمر أنّ الإسلام المعتدل خرافة غير موجودة في نظره، ولهذا فقد ذهب إلى حدّ لوم الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون لأنه عقد الأمل على فتح حوار مع المسلمين الراغبين في الالتزام بقواعد ‘الشعوب المتمدنة’. ولقد تساءل شيرلي: ماذا استفاد مهدي بازركان، رئيس وزراء إيران الأسبق، من الحوار مع مستشار الأمن القومي زبغنيو بريجنسكي سنة 1979؟ لقد ساهم اللقاء في تسريع سقوطه، هو ونفر المعتدلين على اختلاف مشاربهم، وكانوا سيسقطون عاجلاً أم آجلاً في كل حال. ويحلو للمرء ان ينتظر تعليق الرجل على تركيبة الشارع المصري الذي يتظاهر اليوم ويهدد نظام ‘الاستقرار’، دون أن يقوده إسلام متشدد أو آخر معتدل، ودون أن يتصدّره ‘مخلّص’ من أي طراز، وأمثال محمد البرادعي في رأس اللائحة!
ركيزة ثالثة خانتها انتفاضة الشعب المصري، هي تلك التي كادت أن تحصر بالدبابة الأمريكية وحدها، أو بالغزو العسكري الخارجي الذي ينفّذه تحالف غربي ـ أطلسي تقوده الولايات المتحدة، إمكانية إسقاط أيّ نظام استبداد عربي. صحيح أنّ نظام مبارك لم يسقط بعد، ولكنه ترنّح ويترنّح كلّ ساعة باعتراف أصدقائه قبل خصومه، من جهة أولى؛ كما أّن نظام زين العابدين بن علي في تونس، وأنظمة الحلفاء الأشقاء في ليبيا واليمن وسورية، فضلاً عن الجزائر والأردن، صارت بعيدة عن أزمنة الطمأنينة والمنجاة، من جهة ثانية. التفريع الثاني الهامّ، في هذه الركيزة إياها، هي أنّ الدعم الأمريكي لأنظمة الإستبداد، سواء اتخذ ضفة رسمية معلَنة أم سرّية مبطّنة، دخل منطقة انكشاف قصوى في حقل أثير لدى النُخَب الأمريكية: قِيَم الولايات المتحدة الكونية، حول الديمقراطية والحرّيات وحقوق الإنسان.
ولكي يعيد التاريخ دروسه، كانت كلنتون قد شخّصت ‘استقرار’ نظام مبارك، بعد أن زارت وطمأنت نظام استبداد شقيقاً في اليمن؛ وسبقتها في هذا زميلتها كوندوليزا رايس، قبل سنوات قليلة، حين استنكرت اعتقال الناشط المصري أيمن نور، لكي تجتمع، بعد أيام قليلة، مع أربعة مسؤولي استخبارات عرب، من السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة والأردن! وكما حثّت كلنتون ‘على السماح بالاحتجاجات السلمية’، و’عدم حجب مواقع الإنترنت الاجتماعية’؛ كانت رايس، خلال محاضرة شهدتها الجامعة الأمريكية في القاهرة، قد أعلنت أنّ ‘الخوف من الخيارات الحرّة لا يمكن أن يكون بعد الآن مبرراً لرفض الحرية’، و’هناك مَنْ يقولون إنّ الديمقراطية تقود إلى الفوضى والصراع والإرهاب، والحقيقة أنّ العكس هو الصحيح: إنّ الحرية والديمقراطية تشكلان الفكر الوحيد الذي يملك قوّة التغلّب على الكراهية والإنقسام والعنف’.
وفي كتابه الشهير ‘مصيدة الديمقراطية: أخطار العالم ما بعد الحرب الباردة’، كان غراهام فوللر قد توقف عند التهديد الذي تتعرض له الثقافات الوطنية بفعل التعميم القسري للقِيَم الغربية، أو تلك ‘الأقانيم الثلاثة’ المقدّسة: رأسمالية اقتصاد السوق، وحقوق الإنسان كما تقترن وجوباً بالشكل الليبرالي (الغربي ـ الأمريكي) من الديمقراطية العلمانية، وإطار الأمّة ـ الدولة كصيغة هوية معتمدة في العلاقات الدولية. كما ناقش مفاعيل وسائط تبادل جديدة، لا قِبَل لتلك المجتمعات بمقاومتها، بينها ذلك التصدير الأخطبوطي الجبّار للسلعة الثقافية (الكتاب والفيلم والأغنية ونوع الطعام واللباس والدواء)؛ وصناعة الرمز الثقافي الأعلى الأشبه بالأسطورة (بحيث تتحوّل شطيرة الـ ‘بيغ ماك’ إلى رمز للجبروت الأمريكي السياسي والاقتصادي والعسكري).
فات فوللر، مع ذلك، أن يحتسب انقلاب السحر على الساحر، في هذه المفاعيل، وفي مثال طارئ هو الدور الحيوي الحاسم الذي لعبته شبكات الإنترنت الاجتماعية في تعبئة التظاهرات الشعبية المصرية، وتلك ركيزة رابعة دحرها شارع مصري شابّ كانت صلاته بتلك الشبكات قد غابت عن تقديرات السفيرة الأمريكية في القاهرة، مارغريت سكوبي، في برقياتها السرّية المثيرة التي كشفها موقع ‘ويكيليكس’.
خيانات، إذاً، للحكمة الشائعة… ويا لها من خيانات بهيجة، في انتظار الأبهج!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس