في معنى الثورة
الياس خوري
انها الثورة، بدأت في سيدي بوزيد واشعلت تونس، وها هي اليوم في قلب العالم العربي، حيث تنتفض مصر في مواجهة الاستبداد والفرعنة والقمع. وغدا سوف تمتد الى كل مكان من ارض العرب، من اليمن الى السودان الى الجزائر، ومن الأردن الى سورية.
في مصر ارتفع صراخ اهل النظام المتداعي بأن مصر ليست تونس، وغدا سنستمع الى صراخ من مكان آخر بأن اليمن ليس مصر، والى آخره…
لكن خطأ النظام العربي انه صدّق كذبته بأن الفكرة العربية ماتت. جاء الجواب المصري الكبير نعم مصر هي تونس، وتونس هي الجزائر، والجزائر هي سورية… جاء الجواب من عمق الشعور بالمهانة والذلّ والانحطاط . كل ديكتاتور يريد ان يتحوّل ملكا لا يموت ويورّث ابنه. لكن جميع الملوك ماتوا، او سيموتون، والحكم الوراثي القائم على النهب والفساد والقمع والسجود امام اسرائيل، يسقط في الشوارع، ويتداعى، وما على مماليك اللحظة الهاربة سوى الالتحاق ببن علي في جدة، حيث من المنتظر ان تتأسس جامعة القتلة في صمت المنفى الصحراوي.
الثورتان التونسية والمصرية دعوة الى اعادة نظر في كل المفاهيم السياسية التي سادت خلال عقود الظلام التي آن لها ان تنصرم. لكن الى جانب معنى خروج الشعب الى الشارع من دون قيادة سياسية متماسكة تحمل رؤيا ايديولوجية صارمة ومحددة، هناك هذا العصف من المحيط الى الخليج، الذي يعيد انتاج الفكرة العربية مصححاً خطأ الانقلاب وخطاياه بالثورة الشعبية.
ما معنى هذه العروبة التي تتجدد، معلنة ان ما كانت تونس مسرحاً له هو بداية مؤهلة للامتداد الى كل مكان في الوطن العربي.
انها عروبة خالية من اللغة القومية المغلقة على نفسها، انها ليست عروبة ايديولوجية تستوحي نماذج من خارجها، انها عروبة العرب. فنحن عرب وهذه حقيقة قائمة على لغتنا الواحدة ومصالحنا المتشابكة، لا اكثر ولا اقل. كان هذان العنصران كافيين كي تكون ثورة تونس ثورة العرب كلهم، وان تصير ثورة مصر حلم كل شعوب المنطقة.
هذه الوحدة الثقافية والسياسية لم تكن في حاجة الى منظّرين، ولا الى نموذج يحتذى، ولا الى فكرة قومية تستوحي التنظيرات التي رافقت صعود الحركات القومية في اوروبا، انها عروبة واقعية متواضعة، افقها نابع من واقع جيو- ثقافي ومن وحدة في المصائر والتحديات. انهم عرب الفقر ومقاومة الاستبداد والشعور بالمهانة، عرب الذلّ اليومي بحثا عن الكرامة ولقمة الخبز، عرب يخضعون منذ سيادة زمن الهزيمة لحكام وحوش يتذأبون على شعوبهم، ويتنعّجون امام اسرائيل. لقد تحول العالم العربي على ايدي هؤلاء السفهاء الذين تحكّموا به طويلا الى رجل العالم المريض، بحسب التوصيف الذي اطلق على الدولة العثمانية قبل تمزيقها. لم يعد العرب يحتملون لصوص الأعمال وعائلاتهم وسلالاتهم وخدمهم، ولا هذا الشعور بأن العالم العربي صار فراغاً على الدول المجاورة ان تملأه.
ليس عبثاً ان يصير البوعزيزي بطلاً في كل المدن العربية، وليس من دون معنى خفقان قلب اهل المشرق العربي على ايقاع مظاهرات تونس التي اسقطت الطاغية، واليوم، وعلى الرغم من ان تونس لا تزال في مخاض الولادة، وتحتاج الى دعم الجميع، جاءت مصر في ثورتها وهدير غضب شعبها، لتستولي على قلوبنا، لقد دقت ساعة دفن مومياءات النظام المصري الذي اهان عقولنا ثلاثين عاما. على الديكتاتور ان يمضي الآن، لأنه سقط كثمرة عفنة.
ان قراءة دومينو الثورة التي امتدت الى مصر، وتنذر باشعال المنطقة العربية برمتها، يجب ان لا يحجب عن اعيننا صعوبات هذا المخاض التغييري الكبير. ولعل اولى هذه الصعوبات هو انكشاف الاجهزة الأمنية في وصفها اجهزة تضم اللصوص وقطّاع الطرق. في تونس أفلت الديكتاتور المخلوع قطعان امنه على المجتمع بعيد هروبه الجبان، اما في مصر، فقد استفاد الديكتاتور الموميائي من تجربة سلفه، فأفلت قطعان اللصوص كي تحمي نظامه من السقوط، وانهى حفلة التوريث الحمقاء بأن عيّن قائد المخابرات نائبا للرئيس، وقائد سلاح الطيران السابق رئيسا للحكومة. لكن هذا التجميل التقبيحي للنظام، افلات العصابات من جهة، والاحتماء بضباط من الجيش من جهة ثانيــة، لن تحمي مبارك من النهاية، كل ما في الأمر انها ستجعل المخاض اكثر الماً.
في مصر كما في تونس كما في كل مكان من ارض العرب المنكوبة بحكام الساعة المهزومة والمنقلبة، يثبت وبالملموس ان اجهزة الأمن ليست سوى ادوات نهب وسلب واذلال، وهي مستعدة لكشف وجهها الحقيقي المختبىء خلف قانون الطوارئ. لقد صنع لصوص الزمن العربي وحدتهم، فالنظام العربي كان ولا يزال موحدا ضد الشعوب العربية. بنوا قومية القمع والقتل، مدعين نهاية العروبة السياسية والثقافية، لأن فكرة العروبة تفترض مواجهة الوحش الاسرائيلي، وبناء افق للتحرر من احتلاله ومن سطوة اسياد هذا النظام العالمي الجديد الذي حول اغنى منطقة في العالم بثرواتها، الى مكب للنفايات.
مهما حصل في مصر، فان عقارب الساعة لن تعود الى الوراء، زمن رجال الأعمال ولصوص الثروة المتحلقين حول ديكتاتور محنّط بالقمع، دوره ان يكون فزّاعة تخيف الناس، انتهى بلا رجعة.
واذا عادت مصر الى نفسها، فان هذا سيعني ان كل العالم العربي دخل في منعطف التغيير.
بدل عروبة الأنظمة تولد اليوم عروبة جديدة، انها عروبة الناس الذين يريدون بناء اوطان العرب كي تكون مكانا للحرية والكرامة الانسانية.
ولحظة يستعيد العالم العربي كرامته، سوف تكون اسوأ لحظات اسرائيل.
القدس العربي