الغياب
نديم جرجورة
لم يُشكّل الأمر صدمة. إنه جزء من التراخي اللبناني شبه العام إزاء قضايا المنطقة وناسها. إزاء قضايا الداخل أصلاً. إنه جزء من اللامبالاة القاتلة، التي لا تنبثق من مقولة «هذا شأن داخلي لا علاقة لنا به»، بل من لامبالاة أعنف إزاء قسوة الواقع المحلي، وانهيار البنى الاجتماعية والحياتية الخاصّة باللبنانيين. التراخي اللبناني ميزة أناس يفضّلون العزلة الضيّقة من أجل أسيادهم. يُفضّلون اللجوء إلى سكينة مشبوهة، تنصّلاً من مسؤولية جماعية إزاء أنفسهم والبلد والمجتمع. يُفضّلون الركون إلى معصية الخنوع البائس لهذا الزعيم أو ذاك. يُفضّلون العيش على الهامش، لأنهم اعتادوا البقاء خارج الزمن. أقول الزمن، وأقصد به الزمن اللبناني أولاً، والعربي ثانياً، والعالمي ثالثاً. فلا زمن لديهم إلاّ زمن أسيادهم فقط. لهذا، لم يُشكّل التراخي اللبناني صدمة، لأنه جزء من ثقافة عامّة يمارسها كثيرون في زواياهم المعتمة.
الغالبية الساحقة من أبناء هذا البلد، المنذور للفراغ والتمزّق، لم تجد في مآزق الداخل ما يحثّها على مواجهة الوحوش والتنانين. لم تجد في محيطها الخارجي ما يثيرها أيضاً. لا بأس. هذه الغالبية منسحقة أمام لعنة الانتماء إلى طائفة أو مذهب. لكن فراغ صفحات ثقافية في صحف محلية، رفعت شعار «سيادة حرية استقلال»، من أدنى اهتمام بقضايا مشابهة للشعار المفرّغ، لبنانياً، من أي معنى حقيقي، يثير سؤال العلاقة التي يُفترض بها أن تنشأ بين عاملين في الحقل الثقافي وقضايا كهذه. الفراغ مدوّ. الاهتمام بشأن محلي حسن. الاهتمام بشأن عام حسن هو أيضاً، خصوصاً أن تكاملاً ما نشأ بين المسائل المطروحة هنا وهناك. الفراغ مدوّ. الصفحات المذكورة خالية من أي نصّ يُعاين بعض الغليان الحاصل هناك. أساساً، هذه صفحات خالية من نصوص تُعاين مآزق حياتية واجتماعية خاصّة بأبناء هذا البلد، إلاّ لماماً أو في صفحات أخرى. الصفحات منتمية إلى مؤسّسات «ناضلت» من أجل «سيادة حرية استقلال»، من أجل حقيقة وعدالة، مع أنها التزمت طوائف، أو انتمت إلى مذاهب. ولأنها انكسرت في هذا الحيّز الخطر، لم تجد في ما يجري هناك أي حافز للمُشاركة، المعنوية على الاقل. فراغ مدوّ، ناتج من الفراغ السابق له: هذه صفحات غابت عن الجوهريّ في الشأن اللبناني لحساب «الزعيم»، لأنها ارتضت أن تكون جزءاً من صراع ضيّق بين أطراف متنازعة على سلطات.
هناك غياب صاعق لهذه المنابر الثقافية على مستوى الاهتمام بشأن محلي مرتبط بالناس وأحوالهم اليومية. الناس غائبون أصلاً عن أحوالهم اليومية. هذا يعني أن لا مفاجأة في غيابها على مستوى الاهتمام بأي شأن عربي مهموم بقضايا الناس وأحوالهم اليومية. لا أطالب بخطابية فجّة. بمقالات منسوخة من أزمنة مضت. بنضال عفا عنه الزمن. الكتابة ضرورة. إنها جزء من تأريخ اللحظة. جزء من مسؤولية ثقافية، ارتأى البعض التغاضي عنها في لحظة تاريخية كهذه، انسجاماً مع مصالح محليّة ضيّقة.
السفير