اسطورة مصرية
ساطع نور الدين
اعترف الكاتب المصري محمد حسنين هيكل ضمنيا في مقاله المنشور في الزميلة الشروق امس الاول الخميس ان شرعية ثورة العام 1952 انتهت، وقال ان جيل مصر الشاب يصنع شرعية جديدة، ويطلب من «كراكيب» النظام الحالي الرحيل. لم يكن الرئيس حسني مبارك يمثل تلك الشرعية الناصرية، التي فقدت صلاحيتها، بل كان يمثل آخر مراحل انحطاطها. كان الجيش المصري هو الذي يحظى بشرف هذا التمثيل ويعتبر مصدره وحصنه الوحيد، الذي انتقل الان الى الشارع الذي يبحث عن البديل.
الاعتراف مدوّ. وهو يستدعي وقفة تأمل امام سلوك الجيش المصري ازاء ثورة مصر الحديثة المستمرة منذ 25 كانون الثاني يناير الماضي. هذا السلوك كان ولا يزال حاسما في انهيار النظام الذي يفترض انه كان مكلفا بحمايته، فاذا هو يكتشف انه غير قادر على الدفاع عنه في مواجهة غضب شعبي عارم، لا يستطيع احد ان يخمده بالقوة او يتصدى له.. وان يستعيد شرعية ميتة، لا يمكن ان تحظى بأي مصداقية خارجية – أميركية تحديدا – مطلوبة اكثر من اي وقت مضى، في ضوء الاشراف الاميركي المباشر على اوضاع العالمين العربي والاسلامي.
منذ اللحظة الاولى لاندلاع الثورة، خرج مبارك عن رشده واصدر أمرا الى الشرطة بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، ولما رفضت، وتحول اسم قائد عمليات وزارة الداخلية اللواء احمد رمزي الذي رفض التنفيذ الى علامة فارقة، اضطر لطلب إنزال الجيش الى الشوارع، بالامر نفسه. لكن المؤسسة العسكرية لم تكن مستعدة لمثل هذه المهمة، ولم تكن راغبة بها، فنزلت بشكل رمزي، الى بعض الاماكن الحساسة في القاهرة لا سيما منها المرافق الحيوية والسفارات الاجنبية. والتزم إزاء الثورة الشعبية حيادا ايجابيا مؤثرا، بل مفصليا.
كان الجيش ولا يزال يدرك ان شرعيته انتهت، وصم آذانه عن نداءات داخلية متلاحقة تطالبه بإصدار البلاغ الرقم واحد، واعلان الاحكام العرفية، وانصت كما يبدو لتحذيرات خارجية من مغبة قمع المتظاهرين او انهاء احتجاجهم بأي شكل كان، حتى ولو تسبب الامر بانحدار الفراغ الى فوضى، سعت الى اشاعتها عصابات مبارك واعوانه وحزبه.. لكنها أساءت التقدير والتدبير، لا سيما عندما تنصل منها النظام علنا، واعتذر عن ممارساتها، ووقف الجيش لها بالمرصاد.
انتقلت المؤسسة العسكرية من اللامبالاة بالنظام الى الانحياز لمعارضيه. فأرسلت احد ضباطها الشباب الى ميدان التحرير ليعلن انه مسؤول عن حماية المتظاهرين، ولا يريد ان يدخل جهنم عبر اطلاق النار عليهم، وحذرهم من العصابات المنتشرة في الاحياء الجانبية ومن المندسين. ثم نزلت المومياء الكبرى للنظام وزير الدفاع المشير حسين طنطاوي الى الميدان نفسه، لكي يطمئن المحتجين شخصيا، ولكي يمسح دموعا كان يمكن رؤيتها في عيون جنوده، الحائرين بين دورهم التقليدي وبين مستقبلهم الغامض.
لا شرعية في مصر الان، لكن الفراغ ليس مخيفا، حتى ولو كان متعارضا مع تاريخ مصر المحفور في سجلات دول مركزية قوية، تعاقبت على وادي النيل وصنعت امجادا واساطير لا تنسى.