معركة حدود التغيير
سليمان تقي الدين
لسنا بحاجة إلى تفسير أسباب الثورة الشعبية المصرية بعد أن كشف النظام عن طبيعته الهمجية في التعامل مع تطلعات شعبه. سقطت شرعية النظام أمام العالم كله ولو تأخر تفكيك مؤسسات القمع والفساد وتعثّر مسار التغيير الديموقراطي. ظهر بوضوح أن انشغال الغرب وإسرائيل وقلقهما على النظام ينبع من الأهمية الاستراتيجية التي يحتلها. أراد الغرب أن يضحّي بالشخص لإنقاذ المؤسسة. لكن الشخص والمؤسسة يتعاونان لمنع التغيير. لم تقم الدكتاتورية على سلطة الشخص وحده، بل على مجموعة المصالح التي جمعت أركان الطغمة الحاكمة في السياسة والأمن والاقتصاد. هذه الطغمة التي استولت على مقدرات الشعب المصري خلسة لا تعرف قيمة الكرامة الوطنية والإنسانية، تعاملت باستخفاف مع حقوق مواطنيها ومشاعرهم وطموحاتهم ومصالحهم وتحولت إلى عصابة من القتلة لحظة خرج الناس يطالبونها بالحساب ويرفضون احتمال بقائها في السلطة.
لثورة مصر معنى يفوق الهبّات الشعبية الناتجة عن أزمة اجتماعية أو عن خيار سياسي. هناك شعب يشعر بالتهميش والمهانة من نظام أخرج مصر من تاريخها ودورها ووضعها في سجن كبير من الظلم والفساد والدكتاتورية والتبعية. قامت في
مصر ثورة حقيقية وطنية يتقدمها الجيل الشاب قبل أن تُسنده أحزاب المعارضة صاحبة «الحسابات السياسية».
ما حصل بالفعل هو نموذج لحركة انبثقت عن شعور أكبر من أن ينحصر في عقيدة أو تيار أو تنظيم، وهذا سر المفاجأة التي فاقت توقعات الداخل والخارج وتجاوزت الأشكال والأساليب التقليدية.
ربما أخطر ما في الحدث المصري أنه يصيب عقدة استراتيجية أبعد مما يتصوّر صانعوه. في مصر يتغيّر المشهد العربي والإقليمي والدولي. ينهار النظام السياسي العربي المريض ويهتز الكيان الصهيوني ويفقد ثقته بإنجازاته، ويقع الغرب في ارتباك هائل بين الرغبة في احتواء التغيير وعمق الأزمة وجذرية نتائجها. ثورة مصر تكتب بداية تاريخ جديد للمنطقة يستكمل تحوّلات حصلت في غياب الدور المصري. هناك وعي عربي جامع على أن غياب مصر هو غياب للدور العربي الذي لا يمكن أن تعوّضه إيران وتركيا برغم أهميتهما في كبح جماح المشروع الغربي والإسرائيلي. بعودة مصر إلى حيويتها وإلى فاعليتها وإسقاط ثقل النظام العاجز ترتسم ملامح «شرق أوسط جديد» بمكوّنات شعوبه وخياراتهم وليس بإرادات دولية خارجية. هناك حملة تخويف من الطابع الإسلامي لهذا المشروع الذي يشق طريقه الآن، لكن الأصل فيه أنه يعزز التنوع والتعدد والتكامل على عكس ما يشاع. عودة مصر إلى لعب دورها العربي هي قيمة مضافة غير عادية لمشاركة العرب في صياغة نظام المنطقة، وبإرثهم الثقافي الذي ما يزال يكتنز فكرة العروبة المدنية المتسامحة المحتوية لكل الفروع الثقافية الأخرى التي شاركت فيها. ثورة مصر هي رافعة مناخ النهوض العربي الوطني والتقدمي والإنساني القادر على التعاطي مع مشكلات وقضايا العصر خارج منطق الأقليات المأزوم. ثورة مصر هي الخروج من حال الكبت والخوف والقلق الذي يأخذ الناس إلى خيارات التعصب والتشدد والراديكالية. هذا الجمهور الذي يدير شارعاً يحمل كل هذه المنغصات وهذا الغضب وهذا الإحباط ويقوده في اتجاه سلمي منظم ويحتوي صدمات عنف النظام الواحدة تلو الأخرى هو جمهور لا ينجرف في اتجاهات عصبوية وفئوية. هذه الشعارات الواضحة الهادفة الجامعة هي دلالة على نضج سياسي لا يمكن أن ينزلق في متاهات سلطوية أو انقسامية أو تصادمية مع أي من المكوّنات الوطنية في الشارع أو في المؤسسات التي تحافظ على قوة الدولة المصرية.
قد يخاف البعض من سرقة الشارع إما بالتفاف النظام على مطالب التغيير وإما من قبل جهات وتيارات حزبية وسياسية منظمة. هذه احتمالات تبقى واردة دائماً. لكن ما صار محسوماً أن الجمهور الذي خرج في (25 يناير) بلا وصاية من أحد (وليس صحيحاً أنه بلا قيادة)، وضع قائمة مطالب واضحة لنظام مختلف. هناك مرجعية أصلية لثورة (25 يناير) تتعلق بالحرية والديموقراطية والكرامة الوطنية والتنمية ومكافحة الفساد.
لم يكن هناك أي ملمح إيديولوجي يصنف هذه الحركة في خانة أحد التيارات المعروفة. في شعارات هؤلاء الشباب ما يدل على منظومة قيم عليا يريدون أن تسود حياتهم الوطنية. هذه القيم هي القيادة الحقيقية التي ستظل تراقب مسار العمل السياسي والوطني وتخضع لمراقبة وسائل الاتصال والمعلومات الحديثة التي اخترقت نظام الرقابة والأمن.
لم تولد ثورة (25 يناير) من فراغ سياسي وثقافي. كل التشويه الذي قام به النظام للنخب لم يستطع أن يقضي أصلاً على الروح الوطنية ولو استطاع حجبها عن المسرح المباشر. خمائر مصر ظلت موجودة في مجتمعها المدني الأكثر تقدماً في دنيا العرب، في نادي القضاة ونقابة المحامين والأدباء وغالبية المثقفين ونسبة كبرى من أساتذة الجامعات والصحافة، وفي وجدان قطاعات واسعة من الشعب لديها الحنين إلى ذاكرة المشروع العروبي الناصري وهو ينقل مصر من التبعية إلى الاستقلال. الوطنية في مصر تختلف عنها في سائر الأقطار العربية، فهي لا تحتاج إلى شيء من خارجها ولا صفات إضافية. كان لا بد أن تحصل هذه الثورة لتزيح الغبار المتراكم على ذاكرة شعبها وتاريخها، وهذه التشوّهات التي أنتجتها طبقة سياسية جرى إنتاجها في زمن الانحراف، وهي طبقة طفيلية حوّلت مصر إلى حقيبة أموال يمكن نقلها إلى الخارج كما يفعل رموز النظام اليوم وهم يهربون من غضب الشارع.
لكن ما بدأ الآن لا ينتهي من دون ثمار. النظام نفسه يعترف ببعض ما لديه من فظائع لكنه، وهذا هو الأهم، لم يعد يستطيع أن يحصر هذه الارتكابات بعد أن تحوّل إلى ممارساته الدموية «البلطجية» التي حاولت أن تخلق «حرباً أهلية» لا مقوّمات لها.
أنصار النظام، أو أنصار الحزب الحاكم هم هؤلاء بالضبط الذين ارتكبوا أبشع أنواع العنف الهمجي على الجمهور المسالم وعلى تراث مصر الثقافي والإنساني. يريدون إحراق مصر ليبقى النظام.
لكن الحصيلة الفعلية هي احتراق النظام ورموزه، حتى الذين خرجوا يخاطبون الجمهور عن «حوار وطني» بينما هم يمارسون لعبة العنف والتخريب والقمع حتى الرمق الأخير. مصر خرجت من سجنها. والمواجهة الآن تدور على صياغة مستقبل النظام وحدود التغيير وموقع الشعب فيه إزاء خطة الاحتواء الداخلية والخارجية.