ثورة مصر

مصر وتونس.. مأزق النيوليبرالية وإمكان التغيير في العالم العربي

علي فياض
يبدو أن معظم ما يكتب هذه الأيام عن الحدث المصري قاصر، فيه شيء من الاستلحاق أو الاستدراك أو جلد الذات أو ربما الانتهازية، وكذلك يبدو باهتاً أيضاً، عاجزاً عن الإحاطة بالأحلام والأماني والتطلعات التي ينطوي عليها هذا الحدث التاريخي. كأن علينا أن نصمت أو نكسر أقلامنا أمام هذا الفعل الذي انتظرناه عمراً، ثم فاجأنا بأحلى ما يكون.
وقبل الحدث المصري، المعجزة التونسية، خارج سياق كل التوقعات والافتراضات، تونس الخامدة كبركان مطفأ، من العصر الجيوراسي، الذي ما كان ممكناً قراءته بعلم الاجتماع أو بعلم السياسة.
قبل أسبوع من حرق الشهيد «البو عزيزي» نفسه، التقيت في أحد مقاهي بيروت، أحد كبار كتاب «النيويورك تايمس» الذي كان بصدد كتابة مقال عن التطورات في لبنان والمنطقة، حدثته عن صعود تيار المقاومة والممانعة دولاً وحركات وعن الخيبات الأميركية والترهل المصري والإخفاق السعودي، فأجابني بأن قراءتي مجتزأة، لأني لا آخذ بعين الاعتبار «تجربة سلام فياض» في «رام الله» التي تعيش في استقرار وبحبوحة، و«زين العابدين بن علي» في تونس، حيث معدلات دخل الفرد ومعدلات النمو مرتفعة، وحيث الاستقرار السياسي راسخ والبنية التحتية متطورة.
والآن، حيث فاجأت تونس الجميع بمن فيهم أهلها ونخبها، لم تعد معظم البلدان العربية معصومة عن الوقوع في المفاجأة خارج الحسبان.
كان الركود المصري، قد أثار سخطنا جميعاً، ولنعترف أننا كنا قد بلغنا حافة اليأس، كان حجم الاهتراء كبيراً، وقد انتقل من مؤسسات النظام والدولة بعض قطاعات المجتمع، وكان مما فاقم في يأسنا تلك الحوارات التي كنا نجربها مع نخب مصرية، أو تلك النظريات القاصرة التي سمعتها من إسلاميين مصريين، أو تلك التجمعات الهزيلة والصاخبة في بلد الثمانين مليوناً، التي كانت تجري على أدراج نقابة الصحافة، وتضم مثقفين مقدامين، تبحُّ أصواتهم من كثرة الصراخ، ثم تنفض من دون اثر.
كنت ارتعب كلما استعدت في ذهني نظرية «شبنغلر» في دراسة الحضارات، عندما يقول إن بعض المجتمعات تمر في حالة موت في الحياة، فلا هي قادرة على التجدد والتطور، ولا هي تتلاشى وتنهار، ويرى «شبنغلر» أن مجتمع الحضارة الفرعونية عاش خمسمئة عام في مثل هذه الحالة، حالة الموت في الحياة.
لا شك أن أمد انتظار التغيير في الحالة المصرية طال أكثر مما ينبغي، وبلغت معاناة الشعب المصري حداً لا يطاق، على المستويات كافة، ليس فقط من ناحية الأحوال المعيشية والاقتصادية، إنما أيضاً من النواحي السياسية التي أقدم فيها النظام على ممارسات أوغلت في غرابتها ولا معقوليتها، كما هي حال مواقفه وممارسته تجاه معبر رفح أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة.
الآن، وقد استفاق المارد المصري، وأيقظ معه الكثير من أحلامنا المعلقة، بتنا على عتبة زمن جديد…
إن مصر قلب العالم العربي، وفي قلب كل عربي شيء من مصر وإن لم يزرها من قبل، البلد الذي يمتلك روحاً خاصة لا نجد لها مثيلاً في أي مكان آخر، ولا يحتاج الأمر إلى كثير من الوقت كي يدرك زائر مصر، لماذا هي معيار صعودنا وهبوطنا العربي.
لقد شهدت المنطقة العربية في العقد الماضي من السنوات تطورات جسيمة، بيد أن التطور الآن يصيب المركز، نقطة الارتكاز في المدى العربي الاستراتيجي، الذي من المفترض أن يستعيد معناه وقيمته، فالعالم العربي من دون دور مصر ومكانتها وريادتها في القضايا القومية، إنما هو دول ومحاور، لكنه ليس مدى استراتيجياً مشتركاً، ولا بيئة متصلة ذات ثقل جيو سياسي. وما علينا هنا إلا أن نتذكر نعي المستشرق البريطاني «برنارد لويس» للقومية العربية، مترعاً بالشماتة، ومعه أكاديميون وسياسيون إسرائيليون، أنه لم يعد هناك شيء اسمه العالم العربي، بل هناك دول عربية. أما الآن فالمسار معكوس، التغيير في مصر هو تغيير في المركز، وهو إذا قدَّر له أن يمضي قدماً متجاوزاً التعقيدات الهائلة التي تعترضه، فإنه سيعيد الاعتبار لأشياء كثيرة فقدت قيمتها أو أصابها التحلل والالتباس في الأفكار والمفاهيم والوقائع والسياسات. وهو تغيير سيفتح الطريق على تداعيات ستصيب على حد سواء مسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والبنية السياسية داخل الأنظمة في العالم العربي.
[[[
في النموذجين التونسي والمصري اللذين لم يكتملا بعد ولم يتضح مآلهما لغاية اللحظة، رغم أن ما أنجزاه لغاية الآن كبير وخطير وواعد، ويجعل العودة إلى الوراء شبه مستحيلة، في هذين النموذجين شبه واختلافات، تونس تكسر «النظرية» وتحكم عليها بالعقم، لأن ثورتها انفجرت خارج أي توقع، في حين أن مصر تؤكد «النظرية» وتعيد لها الاعتبار.
بيد أن انكسار النظرية في مقاربة النموذج التونسي، مؤقت وعابر، إنه بمثابة الانطباع الأول، لكن الحقيقة هي على غير ما تظهر به. ربما كنا جمعياً ضحايا الانطباع وفق البنية الظاهرة، وهي بنية قد تكون في أحيان كثيرة مضللة، في حين أن البنية الضمنية الغائرة هي مكمن الوقائع الحقيقية.
في الواقع أن الأحداث أو المفاهيم الكبرى أو غير الكبرى الفجائية، لكن ذات التأثير الحاسم، كانت محلاً للتأمل لدى بعض الفلاسفة وعلماء الاجتماع ممن حاولوا إيجاد محل لها داخل البناء المنهجي، وهي مسألة على أي حال «عويصة»، هذا شأن «ميشال فوكو» على سبيل المثال، في محاولة «تركيزه على السلاسل المتجانسة، لكنها غير المتصلة فيما بينها، معتبراً أن الزمن لا يتعلق بتعاقب اللحظات، ولا بتعدد الذوات المفكرة المختلفة، إنما يتعلق بالتدفقات التي تكسر اللحظة، وتشتت الذات على العديد من الوضعيات والوظائف الممكنة، لقد بحث عن نظرية للاتصالات النسقية غير المتصلة… لذا ادخل تعديلاً رفيعاً هو بمثابة آلية تمكن من إدخال الصدفة وعدم الاتصال…» (في كتابه «نظام الخطاب» ترجمة محمد سبيلا، ص 10).
هذا ما دفع بـ فوكو إلى التفكير بمفاهيم الانفصال كالعتبة والفعل والقطيعة والتحول… وهذا أفضى به في نهاية المطاف إلى ابتداع منهج «الاركيولوجيا» الذي اتخذ له موضوعاً جديداً هو البنية الضمنية للفكر.
وبالطبع لا يتحمل المقام الاستفاضة في معالجة هذا البعد النظري للمسألة، لكن أيضاً، بدوره «ريجيس دوبريه» في كتابه: «نقد العقل السياسي» يرى: «أن في أصل الواقع الاجتماعي قوة غير خاضعة للمراقبة، قوة لا عقلانية في الظاهر، تبطل قواعد المنطق وتطلعات المناهج. وهذه القوة التي تستعصي نتائجها على خطط الأفراد وإرادتهم القاطعة، إما أنها تواريها الدراسة التقليدية للمؤسسات السياسية، وإما أنها ينظر إليها حين تدخل في الحسبان، على أنها إلى حدَّ ما، رُقية صوفية تدفع علماء السياسة للهجرة إلى أرض العجائب. (نقد العقل السياسي، ترجمة عفيف دمشقية، ص 43).
إن نظرية دوبريه تذهب باتجاه إعطاء «اللاوعي السياسي» الدور الجوهري في تفسير السياسة، وهو يكمن في ثنايا الواقع الاجتماعي أكثر مما يكمن في الوعي السياسي أو في المؤسسات السياسية… بيد أن ذلك يفضي أيضاً من زاوية ما إلى التخفيف من قيمة ما يبدو أنه ظواهر ظاهرة، لصالح عوامل أكثر غوراً وأكثر غموضاً، تجعل من التحليل عملية شاقة أكثر مما نظن…
هذه التساؤلات المنهجية الشائكة، نجد لها بدورها إجابات سهلة لكن عميقة في المقاربة الدينية للتحليل السياسي والاجتماعي، لأنه «لا يعلم جنود ربك إلا هو»، وبالتالي فالعوامل الغيبية تتكفل دائماً بتفسير ما لا يمكن تفسيره من تحولات فجائية، وهي تتآزر جنباً إلى جنب مع العوامل الأخرى التي تكمن في صلب الواقع الاجتماعي… والتي قد يتحول الثانوي فيها إلى أساسي في لحظة، أو قد تتضافر بعضها إلى بعض في توليفة زمنية استثنائية غير مفهومة مما يُفجَّر لحظة التغيير…
ولنعد إلى المباشر مجدداً، هل نحن أمام سقوط مريع للنظرية السياسية، أم نحن أمام إعادة الاعتبار لها؟ وفي حالة النموذجين المصري والتونسي اللذين تعاقبا وتزامنا في آن زمنياً، ثمة فرصة نادرة للمهتمين بعلم السياسة وعلم الاجتماع وللناشطين المثقفين ولكل المتورطين بإنتاج الأفكار لاختبار المفاهيم والأطر النظرية وإعادة تقييمها وتكييفها أو تصحيحها وابتكار الجديد منها.
على أي حال يمكن القول هنا، إن النظرية تستعيد مكانتها بالضبط من حيث يُظن أنها فقدتها، ذلك أن الاستقرار في ظل الاستبداد هو استقرار كاذب ومقَّنع، وأن ما يطفو على سطح الواقع الاجتماعي لا يعكس أبداً ما يكمن في القعر، وكل علاقة ما بين الحاكم والمحكومين لا تقوم على الرضى والقبول الطوعي إنما هي علاقة مضطربة، قد تتمَّوه بأشكال مختلفة من الاستقرار الكاذب، لكن في حقيقة الأمر تنتظر لحظة الانفجار، هذا هو الدرس التونسي الأساسي.
ثمة تهديد لا يمكن إخفاؤه مهما جرت محاولات تمويهه، من قبل الاستبداد للكرامة الإنسانية، التي تظهر كذلك كمفهوم كلي، يتداخل فيه المعنوي بالسياسي والاجتماعي، ثمة مصادرة للحريات، التي كان يقول عنها «جون لوك»: «إن أسوأ الشرور هو فقدان الحرية»، وإذا ما اقترن ذلك، بتهديد للقمة العيش ووطأة البؤس الاقتصادي وخيبة الرهانات السياسية في الاستقلال والسيادة ومحاباة العدو أو التحالف معه، أو الارتهان للإرادة الخارجية… يصبح الانفجار مسألة وقت.
في الأغلب، إن الاستبداد يقترن مع آليات توليد الفساد، بهدف إنتاج طبقة منتفعة تؤدي دور الطبقة الحارسة للنظام. مما يفاقم أزمة الفوارق الاجتماعية داخل المجتمع ويرفع مستوى التوتر والاستفزاز، ولأن الاستبداد يشعر دائماً بالتهديد، فإنه يندفع باتجاه علاقات خارجية تأخذ منحى ارتهانياً، طلباً للحماية والتوازن.
كما أن ثمة جوانب أخرى تنطوي عليها اللحظة الراهنة. لا بد من أخذها بعين الاعتبار، نحن نشهد ذروة المأزق الذي بلغته الحقبة النيوليبرالية في العالم العربي، والحال، أنه لا تنجو من آثار هذا المأزق أية دولة من دول العالم العربي، وإن كان حجم المأزق يختلف بين قطر وآخر، وحتى الدول التي سجلتَّ معدلات نمو مرتفعة، فإن ازدياد معدلات الفقر وتآكل الطبقة الوسطى وتراجع مستويات التعليم وتدهور الصناعة والزراعة هي مؤشرات مشتركة في معظم الأقطار العربية…
إن ذلك يجري في ظل مناخ إقليمي والى حد ما دولي، يشهد ارتخاءً في القبضة الأميركية، وتراجعاً في قدرة أميركا على ضبط إيقاع الأحداث والتطورات، حيث ترتسم حدود صارمة حول قدرة أميركا على تحديد مصائر المجتمعات الأخرى.
كما أن هذا المناخ الإقليمي ينطوي كذلك على خيبات عاصفة لدى المجتمعات العربية من وعود الدولة العربية المعاصرة. لقد نكثت هذه الدولة بكل وعودها التي تتصل بالكرامة العربية من السيادة إلى الحرية إلى التنمية والتحديث وسيادة القانون. والى الإحساس العربي اليومي بالذل والمهانة جراء ما تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين من دون أن يكون للأنظمة العربية أي دور فاعل سوى ما يقوم به البعض من تآمر ومضي في مساعدة العدو.
لا يخلو من دلالة صارخة أن تنفجر الثورة في بلدين عربيين، احدهما أكثر البلدان بعداً عن احتمال أن يشهد ثورة، وهي تونس، والثاني أكثر البلدان ترجيحاً لهذه الثورة، نظراً لتوفر شروطها الاجتماعية والسياسية كافة، وهي مصر. إنه قوس الأزمات والانفجارات الذي يغطي العالم العربي برمته، فالبنية الضمنية الكامنة في صميم الواقع الاجتماعي العربي هي بنية أزمة، قد تتلاقى مع البنية الاجتماعية الظاهرة، كما في حالة مصر، وقد تختلف عنها كما في حالة تونس، لكن ذلك لا يغير في الحقيقة شيئاً، المجتمعات العربية، هي مجتمعات غير مستقرة ومأزومة، وما يؤجل الانفجار هو القمع أو الشرعيات التعويضية التي تحاول من خلالها الأنظمة التعويض عن غياب علاقة الرضى والقبول الطوعي بين الحاكم والمحكومين، كما هي الحال على سبيل المثال، في الوظيفة التي تؤديها سياسات الإغراق في الرفاه الاقتصادي في بعض دول الخليج العربي… لكن ذلك يؤجل الأزمة ولا يوفر لها حلولاً.
إن البنية الفعلية هي بنية مأزومة ومهيأة دوماً للانفجار الاجتماعي، لكن أيمتى تحين لحظة الانفجار، فتلك مسألة عصية على التوقع والتقدير، هذا «سرٌ من أسرار الله»، أي متى تولد «لحظة البوعزيزي» …؟ التي يجدر أن تتحول إلى مبدأ في علم الاجتماع السياسي، تلك اللحظة التي تعبر عن فعل بسيط بحد ذاته، هو فعل لا يشكل بحد ذاته ذروة التحول في البنية المأزومة، لكنه يعبر عن حجم أزمتها والمدى الخطير الذي بلغته، ويؤدي دور المفجَّر لها.
قد يصح القول إن شروط الثورة باتت أكثر يسراً، إذ إن الدرسين المصري والتونسي، قد كشفا في حدود كبيرة، أن دور التحشيد والتواصل والتضامن النضالي، لم يعد حصراً على الأحزاب، كما أن إشاعة الأفكار والمفاهيم وربما إنتاجها لم يعد حكراً على النخب. ثمة عالم من التواصل والتضامن الذي يقيمه جيل الشباب فيما بينهم والذي تشكل الإنترنت أداته الرئيسية، إنه عالم قائم بذاته، شديد الحيوية والتجدد والحركية، وخارج إمكانيات الضبط والسيطرة، وهو عالم يجري مسرعاً على الدوام، وعلى التشكيلات التقليدية في العمل السياسي أن تجهد للحاق به.
يبقى علينا أن ننتظر فعلياً ما سيؤول إليه الحدث المصري، الذي خفتت أمامه كل الاستحقاقات الأخرى وبدت باهتة جداً. لأننا سنكون عندها كما ذكرنا أمام زمن آخر. زمن أكدنا فيه أن إسرائيل قابلة للهزيمة وهنا نحن نؤكد أن التغيير ممكنٌ في هذا العالم العربي الذي يستحق أن نضع حداً لمعاناته.
[ نائب وأستاذ جامعي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى