أيـــام الثـــورة والجنـــون الخـــلاّق!
منصورة عز الدين
أكاد أزعم أن الأيام منذ بدء ثورة الغضب المصرية وحتى كتابة هذه السطور شهدت أحداثاً وتطورات وتحولات أكثر مما عشناه طوال عهد مبارك الممتد على مدى ثلاثين عاماً والمتسم بالركود والموات. مع كل لحظة ثمة ما هو جديد. الغموض يكتنف المشهد، والأمل يدفع القلوب للتقافز من الفرحة والترقب.
كأن المصريين اكتشفوا في أنفسهم فجأة طاقات كامنة لم يتوقعوها يوماً. يتعرّضون لعنف مجنون، وقنابل مسيلة للدموع، ورصاص مطاطي وحي يحوِّل القتل المجاني إلى تفصيلة من تفاصيل الحياة اليومية، فلا يزيدهم ذلك إلاّ إصراراً على مطالبهم. تنقلب عليهم الشرطة، وتنسحب تاركةً البلد للفوضى والخراب ودافعةً إليه، فيتدافع الأهالي بشكل عفوي مكونين لجاناً شعبية للدفاع عن أملاكهم ضد عصابات السلب والنهب المكونة من البلطجية والمجرمين الهاربين والشرطة السرية. بل حتى يقومون بتنظيم المرور وتكوين لجان في الشوارع للتأكد من هوية العابرين.
يدركون معنى خيانة أجهزة الأمن لهم وتخلّيها عن مسؤوليتها تجاههم فينضم المحايدون منهم إلى الثائرين، وقد فهموا أنهم في لحظة فارقة ملكوا فيها زمام أمورهم وكسروا حاجز الخوف إلى الأبد.
أثبت بسطاء مصر وشبابها أنهم أكثر وعياً من سياسييها المخضرمين الباحثين عن ثمار ثورة لم يكونوا في طليعتها. كما برهنوا (أي البسطاء والشباب) باستبسالهم أمام الرصاص ورقيهم في التظاهر، وإصرارهم على تنظيم أمورهم الحياتية في أصعب الظروف، أنهم أكثر حرصاً على وطنهم من مسؤوليه الغارقين في الفساد والمتشبثين بكراسيهم حتى آخر لحظة ولو أدى هذا إلى غرق الجميع.
الحياة اليومية للمنتفضين
تفاصيل الحياة اليومية في مصر الآن مرسومة على إيقاع الثورة الشعبية الهادرة التي امتدت من القاهرة إلى السويس والأسكندرية، ومن المحلة وطنطا، إلى بورسعيد والإسماعيلية حتى وصلت إلى كل مدن مصر ومحافظاتها.
الرجال من مختلف الفئات والطبقات يناوبون في مجموعات ليلاً لحماية البنايات من هجوم عصابات السلب والنهب المسلحة، والجميع يقوم بتخزين ما يستطيع الحصول عليه من مواد غذائية. طائرات الـ «إف 16» تحلق نهار الأحد بأصواتها المفزعة فلا يفهم المواطنون ما يعنيه هذا، لكنهم يحضّرون أنفسهم للاحتمالات والسيناريوهات كافة. كل وسائل الاتصال بالعالم تُقطع باستثناء الهواتف الجوّالة التي تم التشويش عليها بحيث لا تقوم بمهمتها على الوجه الأكمل، فيشعر المصريون بأنهم اُخذوا كرهائن لدى نظام فقد عقله تماماً وبالتالي يُتوقع منه أي رد فعل مهما بلغ من جنون، ويبدأون فوراً في التخلي عن أي رفاهيات يظنّ النظام، الراغب في الانتقام، أنه يمكنه إذلالهم بقطعها عنهم.
المشهد المستقبلي في مصر، كما هو معلوم للجميع، مفتوح على كل الاحتمالات. لكن أياً كانت هذه الاحتمالات والنتائج فثمة فائزون وخاسرون ولن يغير من هذا أي شيء. الفائز الأول هو الشعب الذي قهر خوفه وصمته وأدرك مكمن قوته، فحتى لو تمّ الالتفاف على الثورة من جانب النظام وهو أمر لا نتمناه، أو سرقتها من جانب قوى معينة تلعب لمصلحتها فقط، فالمؤكد أن الشعب المصري الآن ليس هو نفسه قبل أسبوعين مثلاً. وهو ما لخصه أحد المتظاهرين بعفوية ولماحية حين قال: «خلاص وصف شعب فرعون أتلغى من مناهج مصر».
أما الخاسر الأكبر إلى جانب مبارك الذي فقد نظامه «شرعيته»، فهم رجال الشرطة الذين تلطخت صورتهم بعار من الصعب محوه، وأدى إلى فقدان أي ذرة ثقة كانت متبقية لدى الشعب فيهم، والمفارقة أن هذا العار حدث في يوم عيدهم الموافق 25 يناير. لا يتوقف العار فقط على عنفهم الدموي تجاه المتظاهرين، إنما يمتد لانسحابهم المفاجئ بمجرد نزول الجيش إلى الشوارع، وتورط الكثيرين منهم في أعمال تخريب هدفها ترويع الشعب كي يتراجع عن ثورته، وهو السيناريو الذي فشل تماماً، بل على العكس أتى بنتيجة عكسية. حكى لي كثيرون ممن اتصلوا بالشرطة لنجدتهم مساء السبت الذي شهد أعلى درجات الفوضى وانعدام الأمان، كيف أن الرد كان واحداً: «خلّوا الجيش ينفعكم»!!
الخيانة هي الوصف الوحيد الملائم لما حدث، ولا بد من عقاب. ولا أحد يعرف كيف سيمكن رأب الصدع الذي حدث بين الشعب وأجهزة الأمن حتى بعد تنقيتها من الجزارين والفاسدين والبلطجية.
على كل مصري الآن، أن يدوِّن تجربته/ شهادته عمّا حدث. أن يشحذ ذاكرته كي لا تهرب منها تفاصيل الأحداث التي تتالت بإيقاع لاهث. علينا ألاّ ننسى ما مررنا به.. ألاّ ننسى من سقطوا من الشهداء، ولا من خانوننا سواء بالتورط في العنف والقتل والنهب، أو بالصمت، والتواطؤ والتدليس وتشويه الثورة كما هو حال التلفزيون المصري وغيره من المحطات الخاصة والصحف «القومية».
من مجموع هذه الشهادات قد يمكننا رسم المشهد كاملاً بحيث لا يقتصر فقط على ميدان التحرير، إنما يمتد كي يضم أصغر قرية مصرية تم ترويع أهلها بإطلاق النار أو التهديد أو السرقة من جانب بلطجية ومسجلين خطر يركبون عربات البوليس ويحملون أسلحة حصلوا عليها من أقسام الشرطة، كما وصلني من شهود عيان في قرى ومراكز نائية.
فثورة الغضب المصرية، لم تعد ثورة الشباب فقط، إنما أصبحت، بدون أدنى مبالغة، ثورة مصر بكل فئاتها وأطيافها. ونتمنى أن يرتفع قادة المعارضة المصرية، إلى مستوى الحدث، وأن يرتقوا عن هذا التصارع المخزي على المكاسب الممكنة من ثورة الشعب العفوية والهادرة والتي فرضت نفسها وأضفت الحيوية والحراك والجنون الخلاّق على مشهد سياسي ساهمت قوى المعارضة التقليدية عبر حساباتها الضيقة، وخطاباتها الشعاراتية الرثة، جنباً إلى جنب مع النظام السلطوي، بنصيب وافر في تكلّسه وجموده على مدى سنوات طويلة.
أخيراً نؤكد أن «القائد» الجيد ليس فقط من يعرف الطريق إلى النصر، لكنه أيضاً من «يجيد» الخسارة، بحيث يعرف متى ينسحب معلناً عن هزيمته، وامتثاله لإرادة شعبه حين يستشرف النهاية. لكننا نستسلم للسذاجة إذا توقعنا من الطغاة أن يتصرفوا على هذا النحو. إذ بدلاً من هذا رأينا بأعيننا كيف تتسبّب السلطة المطلقة في جنون العظمة المطلق، واحتقار إرادة الشعوب، والرغبة في أن تنتهي الدولة والوطن بنهاية «الزعيم» ونظامه المهترئ. صدق المتظاهر الذي كتب على لافتة يحملها «أمامك 80 مليون شهيد لتبقى زعيم الطغاة»!! فالمصريون قرروا المضي قدماً في ثورتهم حتى آخر رمق. تعلمنا منذ الطفولة أن لا غضب يشبه غضب الحليم، ولا ثورة تماثل ثورة اليائس إذ ليس لديه ما يخشاه أو يخاف عليه، فما بالكم حين يجتمع الحلم واليأس في شعب واحد؟!
(كاتبة مصرية)