رحيل زمن “البلطجية”
فخر الدين فياض
نُخب “الزعران”
“البلطجي” (وأيضاً يمكن تسميته بالأزعر) هو الشخص الذي يستخدم الترهيب والمكر للحصول على ما يريد.. بمعنى هو الذي يعتدي على حقوق الآخرين بالقوة والحيلة ولا تردعه قيمة أو مبدأ ما خلا مصلحته الخاصة.. “البلطجي” أو الأزعر هو من لا أخلاق عنده ولا ضمير يردعه عن ارتكاب أية جريمة ما دام له مصلحة بذلك..
ووفق هذا المعيار فالبلطجية تنطبق على كثير من الفئات الحاكمة في العالم العربي وما يتفرع عنها من “شلل أمنية” تسمى شرطة هنا ومخابرات هناك وبوليس سري و”رجال” حزب حاكم.. وأحياناً كثيرة هناك تنظيمات وأحزاب بكاملها مارست “البلطجة” على إرادة شعوبها ومستقبلها وتاريخها.. فضلاً عن بلطجة الدول الكبرى على ثروات الشعوب الأخرى وإراداتهم السياسية والثقافية.
والبلطجية أو الزعران مارسوا في التاريخ العربي المعاصر دوراً كبيراً في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.. في ظل إمساك النخب الحاكمة بالقوة والسلطة والثروة وإشاعة جو من الإرهاب والفساد ومحاربة شرفاء هذه البلدان..
وسيذكر التاريخ أنه في مصر العظيمة تم دحر زمن البلطجية وهزيمتهم في الواقع والوعي العربيين إلى الأبد..
ثمن البلطجي بالعملات العربية
كان منظراً مؤثراً للغاية ونحن نرى “مؤيدي” الرئيس مبارك يهجمون على ظهور جمالهم وخيولهم على شبان “الفيس بوك” و”التويتر” في ميدان التحرير.
الشبان الذين خرجوا بالملايين يعيدون التاريخ إلى صورته الحقة: واقفاً على قدميه، من خلال تأكيد وحدة مصر الوطنية، مسلمين وأقباط، شيوعيين وأخوان مسلمين، رجالاً ونساءً، اتحدوا تحت راية الحرية العظيمة ومقاومة الظلم والفساد والبطالة والفقر..
هؤلاء الشبان الحضاريون تمت مهاجمتهم بالقضبان الحديدية وقنابل المولوتوف والخناجر والرصاص الحي.. والأدهى كان المهاجمون على ظهور الجمال والخيل!!
هو منظر يؤكد أن كل جهة تستخدم أدوات العصر (الثقافي) الذي تنتمي إليه.. الشبان المتظاهرون يستخدمون النت ويطالبون بالحريات المدنية والمهاجمون يستخدمون السيف والجمل ويدافعون عن “الحاكم بأمره”!!
لا شك أن هؤلاء البلطجية هم “مؤيدي” حسني مبارك ونظامه حقاً، وهم “الزعران” الذين يديرون أقسام الشرطة والمباحث ويحركون العملية الانتخابية وغيرها في مصر..
في ميدان التحرير تم فضح هؤلاء، ليس في مصر وحدها، وإنما في جميع ميادين العرب..
في ميدان التحرير تبرأ المجتمع المصري (حتى القادة الجدد والقدامى) من هؤلاء.. وتبين أن ثمنهم بخس للغاية..
وهو الثمن الذي سيدفع لهم اليوم بجميع العملات العربية وفي جميع المدن العربية.
أوباما وخامنئي
ولكن ألا يوجد بلطجية دولية أيضاً؟!
على مدار العصور والتاريخ كان هناك “بلطجة” دولية..
وبغض النظر عن الموقف من باراك أوباما وإدارته.. وعن موقفه اليوم مما يجري في مصر، إن كان سلباً أو إيجاباً.. لكن دعوة الكونغرس الأميركي للانعقاد والخروج بقرارات تحدد مستقبل مصر في الأيام والشهور القادمة.. هو ضرب من بلطجة لا تقل عن بلطجية “مؤيدي” حسني مبارك..
رغم أن جميع ما صدر عن الإدارة الأميركية في الأحداث الأخيرة هي أمور ينادي بها المجتمع المصري ويطمح لها.. فلقد خاطب الرئيس أوباما الرئيس حسني مبارك قائلاً: “استمع إلى رأي الشارع.. وانتبه إلى سمعتك”.. وهي نصيحة لا تخفى مضامينها على أحد.
المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، علي خامنئي، لم تقل خطبته _في يوم “جمعة الرحيل” المصرية_ عن بلطجة “مؤيدي” مبارك.. إن لم تكن قد تجاوزتهم جميعاً..
يقول خامنئي أن ما يحصل في مصر وتونس هو “بوادر لنهضة إسلامية” وأن الشعب الذي خرج في مصر يقول لمبارك أنه يحتقره ويحتقر تاريخه.. وغير ذلك من “المواعظ والنصائح والحِكم”!!
لماذا يعتدي خامنئي على ثورة شبان مصر، التي لا تمت إلى الإسلام أو المسيحية أو أي دين آخر بصلة.. سوى صلة الأفراد الروحية والمحايدة والبريئة بالخالق؟!
هو يعرف أن الثورة المصرية العظيمة هي ثورة حريات مدنية وتطلع لبناء مجتمع مدني حضاري بعيد عن العقائد والآيديولوجيا.. وعن أية عمائم شمولية، عمائم تدعي العلمانية (مثل معظم النظم العربية) أو عمائم تماثل في شموليتها وإرهابها عمامته..
هو يعرف أنه لم يُرفع أي شعار”إسلامي” في تلك التظاهرات.. والأهم أنه حتى الأخوان المسلمين في مصر، كانوا من الشفافية بحيث أن قياداتهم اعترفت أن هذه الثورة ليست ثورتهم.. وإنما انضموا إليها وساندوها بوصفهم مواطنين مصريين حريصين على التخلص من الظلم والاستبداد.. وأجمل ما صرح به الأخوان المسلمين أنهم يرفضون الترشح لأي منصب رئاسي أو حكومي في مصر..
أما في تونس فالجميع يدرك أن “الإسلاميين” يعيدون النظر في برامجهم السياسية على ضوء قانون مدني علماني بعيداً عن أي تطلع ديني أو مذهبي..
خامنئي يدرك أنه يعتدي على ثورة مصر العظيمة وشبانها..
أما التأكيد على أن هؤلاء الشبان يحتقرون حسني مبارك ونظامه فهي الحقيقة التي يراد بها باطل.. لأنه يدرك أن المصريين يرفضون مثل هذه الأقاويل عن قادتهم ورؤسائهم من الغرباء..
هم يثورون عليهم ويغيّرونهم وقد يشتمونهم لكن أن تأتي الشتيمة من الخارج فهو أمر مرفوض ويأتي بمفعول عكسي على صعيد الحركة الشعبية في مصر.. فما بالك إن كانت الشتيمة من علي خامنئي..
الرجل تناسى في سياق بلطجته على شبان ميدان التحرير أن نفس الشبان الإيرانيين، الأبطال الذين خرجوا بالملايين يهتفون ضده وضد بطانته الفاسدة، في ثورتهم الخضراء العظيمة، قد رفعوا نفس شعارات ميدان التحرير.. وقد تم الاعتداء على شبان إيران وشاباتها بأسوأ أنواع التعذيب والاعتقال والقتل والاغتصاب.. ومن قبل نفس بلطجية مبارك لكنهم في إيران يسمّون بالحرس الثوري.. وما ظهر أن بلطجية مصر بدوا “أبرياء” إزاء بلطجية إيران..
لا أدري إن كان قد تناسى علي خامنئي أن رجاله اغتصبوا شبان وشابات ميدان التحرير الإيراني.. في حين أن حسني مبارك نفسه، ونائبه عمر سليمان، ورئيس وزرائه الجديد أحمد شفيق تحدّث عن شبان التحرير بأنه شباب (بريء ونزيه وطاهر)!!.. وجميع هؤلاء اعتذروا علناً عن أي أذى لحق بهؤلاء الشباب ووعدوا بمحاسبة الفاعلين.
شباب “ميدان التحرير الإيراني” كُمت أفواههم واضطهدوا ولا بد من عودة لهم.. لأنهم مستقبل إيران المدنية وأملها.. أما شباب ميدان التحرير المصري والتونسي فسيقودون بلادهم بعد أن حرروا شعوب المنطقة من الخوف والتخويف وأثبتوا أن هذه الأنظمة لا تتعدى أن تكون أنظمة من الكرتون والقش.. وأن إرادة الشعوب ويقظتها المدنية القائمة على المواطنة الحقة ستدحرها لا محال..