ثورة مصر

صورة مصر (1860 ـ 2011): الفوضى في عريها الرائع

جوزف الحاج
لحظة تدفق الصور الصحافية أمام أعيننا بالتزامن مع حدث ما، يتدفق سيل آخر منها، لا يمت إلى زماننا هذا بصلة، إنما هو من أزمنة أخرى ماضية. ربما مرد ذلك خوف دفين على هذه الصور الأولى من حجب الحاضر لها ولو موقتاً.
لا بد لصور ساحات مصر المرسلة اليوم من الوكالات وعبر الشبكات الإلكترونية من أن تنسينا، لوهلة صور مصر منذ فجر ولادة الفوتوغرافيا مروراً بتواريخ عديدة. فللصورة ومصر قصة طويلة.
عندما جاء الفرنسيان مكسيم دو كامب وغوستاف فلوبير في تشرين الثاني 1849 (استمرت رحلتهما حتى حزيران 1851) إلى مصر في فجر ولادة الفوتوغرافيا مزودين بأول آلة تصوير، لم تكن الفوتوغرافيا قد قررت بعد أن تتحول وسيلة اتصال إعلامية، ولم يكن أحد قد افترض أنها ستشهد على أحداث مصيرية، في العالم أو في مصر بالذات، لتصوّر الثورات والحروب، من ثورة “الضباط الأحرار” في 1952، إلى تأميم قناة السويس وحروب 1948، 1967، 1973 والنكسات وصولاً إلى ما يحدث اليوم.
“النيل العظيم ذاك النهر الفولاذي الهائم” قيل عن صور مصر آنذاك.
بعد مكسيم دو كامب جاء إلى مصر أوائل مصوري الكالوتيب التقنية التي حلّت في ما بعد: فيليكس تينارد، جون غرين، تيودول دو فيريا، إميل بريس دافين، ويليم دو فامار، أوغست سالزمان، لوي دوكليرك…
إنه الإفتتان بـ”الشرق”، هذا البعد الرمزي الذي اختلف جذرياً عن التسمية الأولى المريبة “الصليبية”. فالشرق فجر الحضارات وتوق إلى الفضاءات الساحرة، و”صورة الفوضى في عريها الرائع” حسبما قال مكسيم دو كامب.
صور مكسيم دوكامب التي صدرت في كتابه “مصر، النوبة، فلسطين وسوريا: رسومات فوتوغرافية” انتقدها الصحفي مرسلين قائلاً: “شجرتا نخيل، إنها مصر. أحجار قليلة تلك هي النوبة، وأحجار أقل هي طيبة. والسماء رمادية مثل هولندا. هذا هو الشرق بعظمة أعمدة هياكله مرسوماً على الأفق اللازوردي في عزلته تحت الشمس الحارقة”.
ما كان يخشاه منتقدو الفوتوغرافيا هو ما تحجبه على حساب دقة ووضوح صارمين يفوقان ما لقماشة اللوحة.
ردَ رحّالة- مصور آخر: “الشرق ليس مطلياً بالذهب مثلما هي صورته في أخيلة الغربيين”. وقال تيوفيل غوتييه بعد زيارته مصر لمناسبة تدشين قناة السويس في 1869: “لا شيء يشبه سماء النورماندي مثلما تشبهه سماء مصر!”.
وقال فامار تيستا الذي رافق الرسام جيروم في رحلته المصرية في 1868: “كنا نصرخ إعجاباً. إنه شيء لا يصدّق. الصور التي التقطناها أو اشتريناها للقاهرة رائعة لا تحبط الرحّالة أو السائح. إنها ذكريات مرئية للأزمنة الآتية، فقط أولئك الذين لم يغادروا أماكنهم في أوروبا سيقولون عنها أنها صور متواضعة”.
أبعد من غياب الألوان المتنوعة، فتّشت العيون في الصور الفوتوغرافية عن المعارك التاريخية والمآسي وقصص العشق الأسطورية وكل ما كان صنع مجد فن الرسم في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
صورة الشرق ظلّت مطلباً لكل من زار مصر وشاهدها بأم العين لا تلك التي قرأ عنها في الكتب التاريخية. في تشرين الأول 1869 كتب فرومانتين من القاهرة إلى زوجته: “اشتريت العديد من الصور الفوتوغرافية للقاهرة بالرغم من أنها لا تقدم سوى فكرة غير مكتملة عن جمالها، غير أنها من دون شك تسعف ذاكرتي وتثبت فيها الأشكال التي من المؤكد أنها ستفوت حتى الذاكرات الواثقة من نفسها”.
تمثيل الشرق بالفوتوغرافيا تم عبر مواجهة نظرة الرسامين والكتّاب. في هذا الخضم، لم تقدم الفوتوغرافيا الأولى سوى القليل، لكن هذا القليل هو أساسي، إذ إنه أتاح لنظرة أخرى مغايرة أكثر حداثة تجاه الناس والأمكنة والأشياء. كان شرق الفوتوغرافيا بلون واحد، اختصر كل ألوان دولاكروا وفرومانتين وغوتييه.
مصورون آخرون قدموا إلى مصر: بونفيس، زانغاكي، روبرتسون، سيبوه، لوغراي وآخرين… وتمتعت صورهم بمزايا جمالية نادرة عدا عن قيمتها الوثائقية.
“مصر والصورة كم من زمن مضى عليهما؟ الصورة دليلنا إلى الأمكنة التي عرفناها وشاهدناها أو تخيلناها. الصورة مرشد في صحراء تسبر الأسرار وتحاول فك لغز الزمن العابر”. كتب المصري نبيل نعوم عن صور الأميركي رالف غيبسون الصادرة في كتابه “أنوار فرعونية. 1987- 1997”. وقال عنها أيضاً بطرس بطرس غالي: “إنها تحكي تاريخ بلادي وهي على ارتباط بين مصر القديمة ومصر المعاصرة. إنها بمثابة الرحلة حيث تجري عملية كيميائية بين الفيلم والضوء والفنان. تسرد هذه الصور قصصاً قليلة عن الأماكن التي تمثلها غير أن العين المجردة والخيال بإمكانهما سماع الكثير منها إذا ما ارتادا تلك الأماكن التي تعلّم سكانها العيش مع الماضي الذي لا يزول. تدعونا صور رالف غيبسون إلى إبداع حكاياتنا الخاصة”.
ومن صور البولوني دايفيد سايمور، الملقب بـ”تشيم”، المولود في فرصوفيا سنة 1911 والذي قضى أثناء تغطيته العدوان الثلاثي على السويس في 1956 برصاص الجيوش المهاجِمة، إلى صور اللبناني فؤاد الخوري الرائعة عن مصر والتي جمعها في كتابه “Suite Egyptienne: Sur les traces de Gustave Flaubert et Maxime Du Camp”، منشورات “أكت سود”، تشرين الأول 1999. إلى صور المصري ياسر علوان عن بلده في يومياتها الاعتيادية…
نتذكر نظرات كل هؤلاء في وقت تتدفق فيه أمام أعيننا صور مصر الآن. في كل مرة يشهد العالم حدثاً استثنائياً، تخرج إلى العلن تساؤلات تتناول الصورة الصحافية المأزومة منذ سنوات بفعل منافسة الإعلام المرئي. تفيض الأسئلة: في ظل هذا الفيض من الصور ستكون هناك حتماً صورة واحدة تُختار لتكون أيقونة هذا الحدث. مهرجانات الصورة الصحافية والجوائز العالمية الممنوحة لها سوف لن تبحث عن حدث سوى ما يجري اليوم في مصر.
صور أخرى ونظرة مختلفة تلتقطها الهواتف المحمولة في أيدي المتظاهرين، مغايرة للصورة الصحفية التقليدية التي غالباً ما تكون محايدة. صور الثورات والأحداث التي يلتقطها المحترفون متشابهة، لا تزال تحمل سمات رومانسية صور التحقيق المصور في الخمسينات والستينات الذي تخلى عن دوره لحساب التلفزيون. ونتساءل: أي الصور أقوى تأثيراً، الصورة المحترفة الملتقطة بمهنية بارعة أم تلك التي سجلتها هواتف المشاركين في التظاهر والاعتصام؟
نقطة أخرى، بتنا نترك الصورة الصحافية لما بعد الحدث، فالحدث المباشر انتزعته الشاشات الفضائية. الفوتوغرافيا في زمن الفضائيات، ونظراً إلى أزماتها المتتالية، سئمت الحدث المباشر فاختارت “ما بعد الحدث” أي العودة إلى مكانه بعد وقت على مروره. تنازلت الفوتوغرافيا عن مباشرتها وصراحتها لتنصرف إلى هذا النوع الفوتوغرافي المحدث.
“تصوير الثورات أقسى وأصعب من تغطية الحروب” قالها المصوّر دايفيد بورنيت الذي صوّر المظاهرات التي سبقت إسقاط شاه إيران، سرد كل شيء عنها في يومياته التي جمعها في كتابه (50 يوماً في طهران). يضيف بورنيت: “كنت أخرج من الفندق مع كمية من الأفلام كنت أعتقدها كافية غير أنني كنت أستهلكها كلها ولولا لقائي صدفة ببعض الزملاء الذين كانوا يعطونني بعضاً منها لكنت فوتت التقاط الكثير من المشاهد”. كان هناك أيضاً عباس وريزا الإيرانيين.
صور الثورات وقمعها متشابهة وربما الفروق الأساسية في ما بينها وبين صور اليوم هو غياب رومانسية صورة الخمسينات والستينات الملتقطة بالأسود والأبيض. انقلابات أميركا اللاتينية وسقوط ديكتاتورييها، تشيكوسلوفاكيا، ربيع براغ وصور جوزف كودلكا، أيار 1968 في فرنسا أو الثورة الطلابية، بولونيا، سقوط تشاوشيسكو… إلى ثورة تونس الأخيرة فمصر.
لم تغير وسيلة تقنية في الثقافة البصرية مثلما غيّرت الفوتوغرافيا عبر الصحافة الجماهيرية. مع الفوتوغرافيا الصحفية فتحت نافذة جديدة نحو العالم الأوسع وأحداثه ولو كان هذا العالم بعيداً عن الحدود القريبة. لقد حولته الصورة إلى قرية صغيرة جداً. لقد ساهمت العلاقة بين الصورة وجمهورها المتلقي في ولادة نظرة شاملة. لقد جعل هذا الدور الصورة الصحفية إحدى أهم الخطب الفوتوغرافية المتسلطة.
هناك فرق بين صور مكسيم دو كامب غوستاف فلوبير والآخرين الذين تذكرناهم، وبين صورة مصر اليوم في ثورتها. الصور مرايا عاكسة، باقية لتؤرخ لحظات حاسمة من تاريخ الشعوب وتوقها إلى الحرية.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى