ثورة مصر

بالوقائع والصور: شتائم وتهديدات انصار الانظمة واخلاق ابناء الحرية

محمد منصور
بالوقائع التي تنقلها الصورة التلفزيونية الحية، أثبتت أحداث تونس ومصر أن الشعوب أرقى من أنظمتها، وأكثر تحضراً من أجهزة حكمها، وأشد نقاء في مشاعرها الوطنية وإحساسها بالانتماء، من كل الشعارات الكاذبة التي كانت ترفعها تلك الأنظمة، عن حماية حقوق المواطن وصون أمن الوطن والحرص على خيراته وثرواته؛ فيما هي تمارس العكس النقيض على أرض الواقع.
كانت هذه الأحداث مع ثورة الإعلام والاتصالات الحديثة، ومع شبكات التواصل الاجتماعي على الانترنت، فرصة مثالية ممتازة لإثبات هذه الحقيقة، وتأكيدها بالصور الحية التي تقلع عين كل مكابر وكل مداهن وكل منافق، وكل من ارتضى لنفسه أن يكون بوقاً، وحذاء ينتعل في أرجل أنظمة داست كرامة الجميع.
عندما أبلغ الديكتاتور المخلوع زين العابدين بن علي أن مواطنا من سيدي بوزيد اسمه محمد البوعزيزي أحرق نفسه، قال: (فليمت). لم تتحرك فيه ذرة إحساس.. ولم يشعر بأدنى درجات المسؤولية كراع مسؤول عن رعيته. وعندما اشتدت الاحتجاجات والإضرابات، قام بن علي بزيارة البوعزيزي في المستشفى.. جامعاً أعتى مشاعر الإجرام مع أشد درجات النفاق والتظاهر الإنساني الكاذب.. أما الناس الشرفاء فقد تأثروا لمأساة هذا الشاب الذي أهينت كرامته وأغلقت سبل الرزق الشريف في وجهه… وثاروا مدفوعين بالشعور بالظلم، لم يسرقوا ولم ينهبوا، وتحملوا القتل والتعذيب والاستهداف بالرصاص الحي، وسقط منهم الشهداء، لكنهم ظلوا مؤمنين بحقهم في الحرية والحياة. فمن كان الأرقى: (الزين) الذي أسف الأخ القائد معمر القذافي لرحيله… أم الشعب (الهمجي) الذي لم يقدر جميل حكامه؟
***
كافأ الشعب المصري قناة (الجزيرة) في وقفتها المشرفة مع ثورتهم، بتوجيه الشكر لها، ورفعوا اللافتات في ميدان التحرير، التي تحيي هذه القناة وتقدر جهودها… وحرصوا على التعاون معها في مدها بالصور والمعلومات ما أمكنهم ذلك بصورة حضارية، ولم يعاتبوها لأنها كانت تستضيف ممثلين عن النظام كي ينقلوا وجهة نظرهم. أما النظام المصري فرغم كل ما قدمته له قناة (العربية) ورغم السلوغونات الشاعرية التي صنعتها من خطاب مبارك، ورغم الأكاذيب والأضاليل التي روجت لها بحق المتظاهرين الشباب، متماهية مع خطاب الإعلام المصري الرسمي، فإن النظام المصري وبلطجيته، لم يحتملوا أن تنقل (العربية) جزءاً من الحقيقة لحفظ ماء الوجه… فكافأها بإهانة طاقمها وإطلاق كلابه للتهجم على مكتبها، من دون مراعاة لأي قيم في التعامل مع الإعلام… فمن كان الأرقى.. الشعب (الغوغائي) الذي يريد للجزيرة أن تكون صوته، أم النظام (المتحضر) الذي يهين حلفاءه، لأنهم قرروا أن يكونوا (نصف أتباع) لا أتباعاً كاملين؟
***
ظهر الرئيس مبارك في خطابين متلفزين، يعلن احترامه لحق التظاهر السلمي، ولمطالب الشباب المشروعة، لكنه في فجر الأربعاء الدامي، أطلق بلطجية وزارة الداخلية والحزب الوطني، كي يحاصروا المتظاهرين، ويقذفوهم بالحجارة وقنابل المولوتوف، واعتلى هؤلاء سطوح المباني المطلة على ميدان التحرير في نهاية المطاف، مستخدمين الرصاص الحي لترويع المتظاهرين.. وكانت (الجزيرة) في ذلك الفجر الدامي تنقل نداءات المتظاهرين، وتحذير الناشطين المتضامنين معهم من حدوث مجزرة… لكن النظام المتحضر الذي يحمي مصر، ويدعو تلفزيونه المواطنين كي يحافظوا عليها، لم تتحرك فيه ذرة إحساس بحق المواطنة لدى هؤلاء.. وسقط تسعة شهداء من شباب مصر العظيم الذي يصنع ثورة الحرية، والذي لم يروعه هذا الرصاص الغادر، بل أكد: لن نخرج من ميدان التحرير سوى جثث هامدة. ولقن شباب مصر العالم درساً في الشجاعة والثبات على المبدأ حتى الموت، أما النظام المصري فلقن العالم درساً في الغدر والخسة وخيانة المواثيق والتفريط بشرف الوعود الرئاسية، وبدم مواطنيه… فمن كان المتحضر ومن كان الهمجي؟
***
أهدر النظام المصري على مر السنوات الأخيرة آلاف الساعات التلفزيونية في برامج (التوك شو كي) يتحدث عن الفتنة الطائفية بين المسلمين والأقباط، وصنعت أفلام وأغنيات وأوبريتات، وحُشد فنانون وعزفت أبواق ودق النفير.. حتى ظن الأخوة الأقباط أنهم مستهدفون في عقيدتهم ووجودهم فعلاً، وجاء تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية ليؤجج تلك المشاعر، وكان الأقباط محقون في غضبهم بعد أن رأوا أبناءهم أشلاء وضحايا… واستنفر النظام المتحضر كي يطبطب على أهالي الضحايا ويوهمهم أنه حاميهم… واندلعت ثورة الحرية، واختفت شرطة النظام وأمنه المركزي كي تترك الشارع للفلتان… لكن أبناء الحرية كانوا هم حماة الوحدة الوطنية الحقيقيين. فلم تفجر كنيسة، ولم يمس قبطي واحد، ووقف الأقباط المصريون الشرفاء يوم الجمعة الماضي يحمون أشقاءهم من المسلمين وهم يؤدون صلاة الجمعة… وأقيم يوم الأحد قداس الشهداء في ساحة التحرير، فلم ينسحب أحد من المسلمين على اعتبار أن هذا (طقس مسيحي) بل وقفوا يحملون الشموع بكل احترام وإجلال… فمن كان المتحضر الذي يحمي الوحدة الوطنية في مصر: النظام الذي حدثت في ظل قبضته الأمنية المشددة حادثة تفجير كنيسة القديسين والكثير من الاشتباكات الطائفية في مدن عدة… أم هذا الشعب الذي أكد حلم الحرية نقاءه ووحدته الوطنية الحقيقية؟
***
والآن قولوا لنا من هو الذي ليس أهلاً للديمقراطية وليس جديرا بالحكم: الشعوب العربية التي تتوق للحرية والتغيير بكل هذا الرقي، وهذا النبل، وهذا الطهر في بذل دم الشهداء… أم هذه الأنظمة الفاسدة التي تطمح الى المزيد من الثراء والفساد والاستبداد، ولا تريد أي رقابة عليها؟
من الذي كان يسرق الأغذية والمواد الطبية، ومن كان يمنعها عن الجرحى والمصابين: شباب ميدان التحرير… أم بلطجية النظام؟ من الذين نظف الشوارع من الزبالة التي لم يعرف النظام المتحضر حلا تقنياً لها في كل سنوات حكم حكومة (نظيف)… أولئك الذين كانوا يلقون الحجارة وقنابل المولوتوف على المتظاهرين العزل… أم شباب ميدان التحرير الذين شكلوا لجاناً لتنظيف الميدان والشوارع المحيطة به من الشباب الجامعي المثقف، الذي لم يخجل من أن يفعل ذلك بشكل تطوعي وأمام كاميرات التلفزيون، لأنه كان يقدم صورة متحضرة عن ثورته، ولأنه كان يقول للجميع: هذا بلدي ويجب أن تروا شوارعه نظيفة!
***
لقد كشفت أحداث تونس والجزائر أن الشعب العربي ليس مجموعة من الرعاع والهمج الذين لا يمكن أن يحكموا إلا بالسوط والبسطار وأجهزة أمن متوحشة… فقد كشف حلم الحرية النبيل المعدن الحقيقي لتلك الشعوب، ولأولئك الرجال… وحتى على صفحات الفيسبوك، يرى العالم الآن اللغة التي يستخدمها أبناء الحرية والتواقون للتغيير في بلدان عربية أخرى تتململ، واللغة التي يستخدمها أنصار الأنظمة من شتائم مقذعة واتهامات بالعمالة والتخوين، وشتم للأم والأب وتهديدات بالدوس والسحل والحرق، بما يفصح عن الثقافة المتحضرة التي تتبناها تلك الأنظمة، والتي تعبر عن الطريقة التي تحكم بها شعوبها.
أجل… بعدما حدث، وبعدما رأينا، وبعد تلك الصورة المشرفة والناصعة التي اكتشف بها الشباب العربي نفسه، لا يستطيع أحد أن يدعي أننا لسنا أهلا للديمقراطية… وعلى الأنظمة التي تريد أن تبقى أن تغير أخلاقها كي تتماشى مع رقي وتحضر شعوبها، من دون أن تراهن على مشاعر الخوف والحذر التي لن تعيش إلى الأبد فيمن رأى شعوباً أخرى تتحرر بالدم أمامه. فهل يعي أحد الدرس… أم سيعاند حتى يفوت زمن استخلاص الدروس؟
القنوات الأجنبية تنتعش: توجه جديد أم طفرة؟
صحت القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية مثل (بي بي سي عربي) و(فرانس 24) و(الحرة) من كبوتها الإعلامية، وقدمت لها أحداث تونس ومصر مادة جيدة لعمل إعلامي يستطيع أن يصل إلى المشاهد العربي ويثير اهتمامه… وتألق الزميل أكرم خزام على وجه الخصوص في تغطية أحداث مصر لصالح قناة (الحرة) بشكل مهني وحار ومؤثر… بعيد بطبيعة الحال عن روح القناة التي عرفت بها وأدائها، لدرجة أنه بيض صفحة القناة السوداء لدى المشاهد العربي.
لقد حرضت تلك الأحداث القنوات الأجنبية على أن تلعب دوراً آخر، كانت قاصرة على إدراكه والإيمان بجدواه… فهل الأحداث الكبيرة هي التي تصنع الإعلام الجيد… أم الإعلام الجيد هو الذي يفجر الأحداث الكبيرة؟
سؤال ينبغي التوقف عنده طويلاً… لأن أحداث تونس والجزائر تغير من توجهات الرأي العام العالمي ونظرته للشارع العربي، مثلما تغير في طريقة تفكير الإعلام الذي ينبغي أن يتواصل المشاهد العربي معه، بعد أن يئس هذا المواطن يأساً مطلقاً من الإعلام الرسمي الحكومي، الذي أثبت أنه آخر القلاع الأمنية التي تسقط حين ينهار أي نظام… فهو يبقى حتى الدقائق الأخيرة من السقوط ملكيا أكثر من الملك.. لأنه ـ بحكم علميات التدجين- نظيف من أي إعلاميين أحرار، وهو يضم بقايا إعلاميين فاشلين، وانتهازيين منتسبين للأحزاب الحاكمة بهدف جني المكاسب، وأشخاصاً مدجنين تجرعوا لقاحات فعالة ضد الإحساس بالحرية والتوق للكرامة.
ناقد فني من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى