تخبط أمريكا في خطاياها
فواز تللو
سيناريو واضح ومتتالي من الخطايا (وليس الأخطاء)، تخبطت بها الإدارة الأمريكية مؤخرا بعد أن فاجاتها أحداث مصر، سواءا من حيث حجم الإصرار الشعبي على رحيل النظام وعلى رأسه مبارك، أو من حيث عجز أجهزة القمع والفساد النظام التي بناها النظام خلال عقود، وفي خضم هذا السيناريو تكشفت خطايا أمريكا وتخبطها وقصور فهمها للمنطقة واوضاعها.
سيناربو الخطايا هذا الذي قرأناه بين السطور، بدأ بتقدير الإدارة الأمريكية أن ما جرى في تونس لا يمكن أن يتكرر في المنطقة فقد استوعبت جميع الأنظمة الدرس، وهي أنظمة تؤيد الإدارة الأمريكية استمرارها مع علمها بفسادها واستبدادها وقمعها للشعوب، والدرس الذي رأت الإدارة الأمريكية أن الأنظمة قد استوعبته لم يكن في الإحساس بالحاجة الملحة للإصلاح السياسي بل في أخذ الدروس الأمنية لاستيعاب وقمع أي تحرك ممكن من قبل الشعوب، وهو الدرس الذي تفضل أمريكا أن تتعلمه الأنظمة. لكن المحظور بمنظور هؤلاء جميعا قد حصل، وبسرعة كبيرة جدا، وفي أكبر وربما أهم بلد في المنطقة بالنسبة الإدارة الأمريكية ومن ورائها إسرائيل.إنها مصر التي تصور هؤلاء أن شعبها قد استسلم بلا قيد أو شرط للقمع والجوع والإذلال من ناحية، وان أجهزة قمع النظام وأدواته السياسية المليونية في عددها، والمحتكرة لكل مقدرات البلد الاقتصادية والأمنية والسياسية، أن هذه الأجهزة راسخة قادرة على السيطرة على الشعب وخاصة من خلال ذراعها الأمنية البطاشة من ناحية أخرى. سقطت كل توقعات أمريكا وامتدت ثورة الحرية من تونس إلى مصر ومنها قد تنتشر عدوى الحرية في المنطقة لتخرج للسلطة قوى لم تفصلها أمريكا على قياسها ولم تحسب إسرائيل حسابها.
الخطيئة الثانية للإدارة الأمريكية تمثلت في الاستماتة، حتى الساعات الأخيرة لثورة الحرية في مصر (والتي لا زالت قائمة ساعة كتابة هذا المقال)، الاستماتة في دعم استمرار النظام بأكثر من طريقة، حيث اقنعها رئيسه أنه قادر على استيعاب الأحداث وتجاوزها بتغييرات شكلية بدأت مساء جمعة الغضب بإقالة حكومة شكلية الصلاحيات، تلاها يوم السبت تعيين سليمان نائبا له، اما يوم الأحد فقد تعهد الرئيس بإصلاحات مبهمة، أما يوم الإثنين فقد فوض نائبه بالحوار لمناقشة أكثر تحدبدا للإصلاحات، أما في الثلاثاء المليوني فقد اعلن انه سيبقى حتى نهاية فترة رئاسته مستعطفا الناس من جهة ومتهما الكثير من المحتجين بالتخريب في تعال غريب يعبر عن حالة نفسية تصيب الديكتاتور الذي تعوَد لعقود على التملق والتصرف كإله، ليجد نفسه فجأة محل كراهية واحتقار علني هائل دون خوف عمل جاهدا على تغذيته طوال عقود. وعلى الضفة الأخرى، وفي هذا اليوم المليوني فقط، بدأت الإدارة الأمريكية بالكلام بشكل شبه مباشر عن رفع الغطاء السياسي عن الرئيس بعد ان كانت الإدارة الأمريكية تحاول في الأسبوع الأول لثورة الحرية، وبالتعاون مع الرئيس، تحاول الالتفاف على التغيير الحقيقي الذي يطلبه الناس وذلك بغض النظر عن التصريحات المراوغة التي صدرت في ذلك الأسبوع الأول، وكل ذلك في محاولة لاستمرار الرئيس في السلطة ولو لفترة أشهر تضمن فرصة لاستمرار النظام بشكل آخر وبرئيس آخر وبوجه آخر على أقل تقدير.
اما الخطيئة الثالثة للإدارة الأمريكية فقد تمثلت في موقف هذه الإدارة، المتغير والمتطور بشكل يومي، والذي جاء دائما متأخرا خطوة أو أكثر مما أفقد هذا الموقف معناه لدى المصريين الثائرين، مع ان الموقف الواضح الذي ستصل له الإدارة الأمريكية في النهاية هو الاستسلام للأمر الواقع الجديد في مصر الجديدة بعيدا عن كل النظام الذي كان قائما، وتأييدها علنا وفورا عزل الرئيس لتأمين فترة انتقالية قصيرة يلعب فيها سليمان مع قوى المعارضة دورا متكافئا للوصول إلى مصر الجديدة. إن هذا الموقف الأخير لو صدر مبكرا، مساء الجمعة او السبت على أبعد تقدير، كان سيمثل فرصة لأمريكا لإصلاح بعض من صورتها المنهارة في نظر المصريين ومعهم كل شعوب المنطقة التي ترى فيها الداعم لهذه الأنظمة المستبدة، ومع ما سيخفف ذلك من دماء وخسائر يتكبدها المصريون في كل يوم تطول فيه الأزمة، مع أن النهاية لم يعد فيها شك منذ صباح السبت على الأكثر، طبعا بإذن الله، وكل ما تلى ذلك كان خسائر للمصريين لن تغير النتيجة المحتومة لمن يحسن القراءة.
الخطيئة الرابعة للإدارة الأمريكية كانت في موافقة الرئيس على لعبته في محاولة الرحيل في الوقت الذي يحدده هو على حساب كرامة وطلب المحتجين حتى لا يتكرر ما حصل مع الرئيس التونسي المخلوع الذي غادر بمهانة وسرعان ما اصبح وعائلته وحاشيته مطلوبون للعدالة، وكأن الهدف من ذلك هو حفظ ماء الوجه وتطمينه هو وأقرانه المستبدين من أن البقاء في السلطة حتى آخر لحظة ممكنة بعد اندلاع الانتفاضة إن حصلت، مهما كلفت هذه الانتفاضة من ثمن، ومهما ارتكب بحق الشعب أثناء حكمه، من أن كل ذلك لن يحرمه من خروج آمن مشرف من السلطة ليبقى في بلده متمتعا بما نهبه وليموت لاحقا بهدوء وكرامة، وهو ما عمل هو على أن يحرم منه الملايين من أبناء الشعب طوال فترة حكمه. وهي رسالة أيضا لأقرانه بأن يستمروا ما استطاعوا في استبدادهم لأن العقاب لن يطالهم في النهاية. إن هذا يوجه رسالة خاطئة لتشجيع للاستبداد وليس دعوة للإصلاح وهو أمر يزيد صورة الإدارة الأمريكية سوءا لدى هذه الشعوب ويفقدها مصداقيتها لدى هذه الشعوب عندما تقول بدعمها الحرية والديموقراطية. ولابد من الإشارة هنا أنه وحتى لحظة كتابة هذا المقال عشية الثلاثاء المليونية، أتاح المصريون للرئيس الخروج الآمن لكنه رفضه بعناد وهو ما قد يندم عليه لاحقا. إن أي خطوة إن فات أوانها فقدت قيمتها فهنا قد لا تنفع مقولة “أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي أبدا”.
الخطيئة الخامسة للإدارة الأمريكية تمثلت في الإصرار وحتى اللحظة الأخيرة، على وضع كافةالإسلاميين في سلة واحدة باعتبارهم متطرفين مهما اختلفت مشاربهم، والعمل على استبعادهم وبالتالي استعدائهم سلفا، وذلك في نفس السياق الذي كان يروج له النظام المصري ويطرحه كأحد مبررات ضرورة دعمه من قبل الغرب على حساب الحرية مع ان التجربة التركية ومن ثم بوادر التجربة التونسية والمصرية تثبت عكس ذلك، حيث أن ما صدر من مواقف عن هؤلاء الإسلاميين في تونس ومصر حتى الان، وعلاقتهم بالمعارضات الأخرى تثبت خطء هذه النظرية. وهكذا بدلا من أن يطلب من هؤلاء الإسلاميين مواقف واضحة معلنة في قضايا الحرية وتداول السلطة والعملية الديموقراطية واحترام الحقوق الأساسية للإنسان من تعبير واعتقاد وغيرها من حقوق بما فيها حقوق الأقليات والمرأة، بدلا من ذلك تغلق الأبواب في وجههم بشكل قطعي وهو ما أنتج حالات تطرف نافرة في زمن الاستبداد تم استغلالها ضد غالبية الإسلاميين الذين لا يتسمون بالتطرف لينتج عن ذلك مزيد من حالات التطرف في حلقة مفرغة لن تخرج منها المجتمعات إلا بسيادة الحرية. وهكذا وحتى اللحظة ظل النظام المصري يكيل التهم الكاذبة للإسلاميين ويتهمهم بالتخريب الذي قامت به أجهزته، مغازلا المحتجين المصريين والإدارة الأمريكية في آن والتي بدورها لم تحسم امرها بعد في هذا الشأن، مما استغله ويستغله المتطرفون ليصوروا هذا الموقف في أنه عداء مطلق للإسلام والمسلمين، بينما كسر هذه الحلقة يحتاج إلى تبني رؤية جديدة متقدمة كليا مبنية على تواصل حقيقي مع اصحاب الشأن الحقيقي سواءا كانوا حركات إسلامية معتدلة أو كانت الشعوب التي، وإن كانت لا تميل للإسلام السياسي كخيار، لكنها شعوب متدينة على المستوى الشخصي وتتعاطف مع هؤلاء الإسلاميين المعتدلين لأنهم يتعرضون للظلم.
الخطيئة السادسة للإدارة الأمريكية تمثلت في عدم الاتعاظ بالدرس التونسي القريب، حيث اتاح خروج بن علي السريع نسبيا، ودون اعتبار لصورته، أتاح فرصة لإعادة ترتيب الأوراق بهدوء ولكن بعقلية أخرى،وبهذا الصدد فإن هذا التأخير في خروج رئيس النظام يحرق تدريجيا ورقة عمر سليمان كمرحلة انتقالية، وهي الورقة التي بدأت تحترق منذ اللحظة التي عين فيها نائبا للرئيس، وهكذا يضعف موقفه كل يوم جديد دون رحيل الرئيس، مما قد يوصل الأمور إلى لحظة لن يعود بإمكانه بعدها تأمين هذه المرحلة الانتقالية الجديدة، وهنا تجدر الإشارة إلا أن المصريين كالتونسيين لم تعد تنطلي عليهم الحيل للاتفاف على انتفاضتهم كما فعل الرئيسين التونسي والمصري في أول عهدهما لتلميع صورتهما، ومن الواضح ان كل الشعوب باتت واعية لذلك، وبالتالي فأن أقصى ما سيحققه عمر سليمان والغنوشي هو مرحلة انتقالية لبضعة أشهر تنتظم خلالها الحياة السياسية الجديدة شاملة الجميع بما فيهم الإسلاميون الذين سيكون عليهم الفبول بلعبة الديموقراطية والحرية بكل أبعادها في مناخ سياسي وإعلامي جديد حيث ستطلق الحريات في أثناء المرحلة الانتقالية وتنظم الأحزاب الجديدة نفسها، بما فيها ما قد يتبقى او ينشق عن حزب النظام، تمهيدا لدستور وانتخابات سيسفر عنها نظام ديموقراطي حقيقي جديد، وعندها على الإدارة الأمريكية أن تتكلم لغة دبلوماسية جديدة مع هذا النظام الجديد في تونس ومصر، لغة مبنية على المصالح الحقيقية للشعوب لا لعبة صنع واحتواء رأس النظام ومخاطبة مصالحه الخاصة للاستمرار في الحكم على حساب كل قيم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، لا بل على حساب المصالح الوطنية أحيانا.
والخطيئة السابعة للإدارة الأمريكية، تكمن في تصورهم للنظام الجديد الذي سيقوم في تونس ومصر على انه نظام معاد للغرب بشكل عام، وهو تصور خاطىء حيث لم يجرب الغرب حتى الآن التعامل مع هكذا أنظمة ديموقراطية جديدة في المنطقة، بل اعتمد على الصورة النمطية المسبقة الخاطئة التي صنعها بنفسه وغذاها قلة من المتطرفين وكثير من الأنظمة من جهة، كما غذاها هاجس وجود وأمن إسرائيل باعتبارهما امرا مطلقا فوق كل القيم والحقوق الأخرى، فسحقت حرية الشعوب وكرامتها وصودر مستقبلها كرمى لعيون أطماع إسرائيل التي لا تقف عند حد. إن ما ستأتي به هذه الديموقراطيات الجديدة هو أنظمة تتتكلم لغة المصالح ولكنها مصالح الشعب لا الحاكم، بالتالي فإنها لن تكون أنظمة انتحارية ولن تكون جزءا من بدعة أطلق عليها البعض “الشرق الأوسط الإسلامي الجديد”، تماما كما لم ترضى الشعوب أن تكون جزءا من “الشرق الأوسط الجديد” الذي طرحته الإدارة الأمريكية السابقة. إن هذه الأنظمة الديموقراطية الجديدة وفي مصر كمثال عليها، ستكون أنظمة عقلانية تبحث عن تسويات لا حلول انتحارية مدمرة، ستبحث عن السلام لا الاستسلام ولا الحرب أيضا، تسويات قد لا ترضي الغرب ومن امامه إسرائيل وتحقق لها كل ما تتمناه من جهة، لكنها من جهة اخرى، لن ترضي المصريين الذين قد يتقبلونها على مضض أيضا، فهذا حال التسويات، فلن يرمي احد اليهود في البحر كما يشيعون في إسرائيل، ولن تستباح دماء أطفالهم كما يدعون فهذه ليست صفات مصر الجديدة، ولكن بالمقابل، لن يسمح لإسرائيل أن تستبيح دماء الآخرين دون حسيب أو رقيب. لا أعتقد أن مصر الجديدة مثلا، سترضى أن تحاصر غزة وتخنق كما يجري الآن، ولكنها أيضا لن تدجج غزة بالسلاح. أعتقد أيضا (وهو تحليل شخصي)، أن اتفاقية السلام مع إسرائيل لن تلغى لكن العلاقات ستكون باردة بانتظار حل مقبول للقضية الفلسطينية. أعتقد أيضا أن مصر لن ترسل جيشها للحدود لكنها ايضا لن تسمح باستباحة الدم الفلسطيني في غزة كلما راق ذلك لإسرائيل وبالمقابل فإنها ستنجح في تمديد التهدئة مع حماس. أيضا أعتقد أن مصر الجديدة ستشكل رافعة لمحور جديد في المنطقة سيلعب أدوارا أقليمية إيجابية ومهمة جدا في الملفات الإقليمية والدولية تماما كما تفعل تركيا أردوغان الآن، وربما بالتعاون معها. وبالنتيجة فإن مصر الجديدة ستعرف كيف تمسك العصا من المنتصف (بشكل نسبي) وهو ما سيعني عامل استقرار حقيقي في المنطقة لا عامل صراع في المحاور الإقليمية القائمة. أيضا، إن مصر الجديدة ستتصدى بإسلامييها المعتدلين وبعلمانييها لكل تطرف أو طائفية لتحاصر من قبل معظم المصريين لا من اجهزة قمع كانت تطيح بالصالح والطالح وتتلاعب بهذه الملفات.
هذه بعض من خطايا الإدارة الأمريكية ومن خلفها أوروبا، خطايا لا زالت تتخبط فيها منذ عقود وقد فشلت بشكل كبير في إيجاد الإجابة الحقيقية على سؤال “لماذا يكرهوننا؟”، بينما لو وعت الإدارة الأمريكية و أوروبا لهذه الخطايا واستطاعت أن تفتح بصيرتها على التصور المقابل الذي عرضناه، هذا التصور لما حصل في تونس ويحصل الآن في مصر، لرأت أن مصر الحرة ستكون دولة راشدة عقلانية لأن أهلها كذلك وستعود لمكانتها الرائدة في نشر ثقافة الحضارة والمدنية والتحضر والكرامة والحرية والعدالة كما كانت على مر العصور، ولتعود “أم دنيا الأحرار” كما يحلو للمصريين الأحرار أن يسموها، هؤلاء الأحرار الذين أعطوا العالم الدرس الثاني بعد الدرس التونسي، وهي دروس لا يرفضها إلا الفاشلون ومنهم بعض ممن يرسمون سياسة الإدارة الأمريكية حاليا، ولما كانت ارتكبت الإدارة الأمريكية السابقة أيضا ذلك الخطأ الرهيب، عندما قررت دعم الحرية والديموقراطية ونشرهما عن طريق الاحتلال العسكري كما حصل في تجربة العراق الفاشلة بامتياز.
كاتب سوري
القدس العربي