إنهم يتسلّون حقاً!
ميشيل كيلو
يتحدث الجميع اليوم عن طابع التمرد الشعبي العربي المباغت، الذي عرفته تونس ومصر ويرجح العارفون العرب والأجانب امتداده إلى غيرها من بلدان العرب القائمة.
لا شك في وجود أشياء مباغتة جدا في معظم ما عرفته تونس وتعيشه مصر، أهمها إطلاقا هذه القوة الهائلة التي أظهرها المجتمع هناك، وكان أهل الفكر والرأي الذين يحبون شعوبهم ويسعون لإيقاظها يعتقدون أنها ليست موجودة وتحتاج إلى وقت طويل كي تتراكم. ولم يظنوا حتى مجرد ظن أنها كامنة في مواطن البلدين المهمش والمقهور، الذي يعامل كقاصر لا حق له في المسؤولية حتى عن نفسه. كان أهل الفكر والرأي هؤلاء يشعرون بالقهر لأن مجتمعات العرب «الحديثة» ضعيفة ومشتتة وهاجعة بين أيدي من يقهرونها ويسرقونها، مع أنهم كانوا واثقين، من جانب آخر، بأن وضعها عابر مهما طال، وأنها لا بد مستيقظة ذات يوم، وأن استيقاظها سيحمل جدة لن تنضوي تماما في منظورهم الفكري والسياسي، الذي حفظوه عن ظهر قلب، وغدا مخططا ثابتا لعب رسوخه في عقولهم دورا أفضى إلى قيامهم بمقايسة الواقع من خلال مسطرة لا تنطبق عليه، جعلتهم عاجزين عن التفكير بوجود وجه آخر للتهميش والإذلال، أظهره تيار بينت أحداث تونس ومصر أنه كان يتخلق في مسارات الحياة العميقة، في شروط تجهلها خبراتهم، وحواضن هي مجتمعات تأخرت أبنيتها عن أبنية مجتمعات المتقدمين، جعلتهم نواقصها وعيوبها يعتقدون أنها سبب خروج الشعب مما كانوا يسمونه بكثير من التجاوز «الشأن العام»، ويؤمنون بأن عودته إليه لغز لا يعرف أحد بعد تضاريسه، حتى أيقظتهم صرخة شخص مجهول من مذلي تونس، لم يسبق لأحد أن شعر بوجوده من قبل، اسمه محمد البوعزيزي، الذي توجه إلى قلة من مواطنيه تحلقوا حوله في ساحة صغيرة من ساحات بلدة سيدي بوزيد، وهو يسدد سبابته إليهم ويصرخ بيأس أخير، قبل دقائق من إحراق نفسه: «يا توانسه علاش ساكتين، يا توانسه علاش صابرين؟»، فإذا بصرخته تجتاز حدود بلدته إلى تونس، ثم تعبر حدودها إلى الوطن العربي الكبير، حيث شرعت تتردد في كل مكان، وأخذ «توانسة» كل قرية ومدينة وقطر ومصر عربي يخرجون من الصمت والصبر!
لا أريد أن ألوم من لم يحسوا بهذا الجديد الغامض، فالواقع أغنى من تمثيلاته في الوعي البشري، كما كان هيغل يقول. المهم أن لا يفوت هذا الجديد أهل الرأي والفكر، الذين يعيشون بدلالة حرية شعوبهم وكرامتها، وأن يدرسوه بعقل مفتوح، لا لكي يصلوا منه إلى «مخطط» جديد للنظر والعمل، بل لكي تبقى عيونهم مفتوحة عليه كواقع لا بد من أن يذكرهم بما كانوا قد نسوه، وهو أن الواقع كان وسيبقى أغنى من تمثيلاته، أي من فكرهم وفنهم، وكي يضيفوا ما أظهره من جديد، على صعيدي القوى المجتمعية، وخاصة منها القوى الشبابية، والممارسة العملية، إلى معارفهم وفكرهم، ويوسعوا نظراتهم لتواكب تاريخ يصنعه اليوم من يستجيبون لصرخة ذلك المقهور، محمد البوعزيزي، الذي أفهمهم أنه لم يعد لديهم من خيار، إن ظلوا صامتين صابرين، غير حياة جعلها القهر تخلو حتى من الموت بسلام!
لم يفهم الجديد
لم يفهم النظام المصري هذا الجديد، لاعتقاده أن موتى القبور لا يبعثون حتى بمعجزة، وأن مجتمعا غدا مقبرة لا يخيف، وهل يخاف أحد مقبرة، فضلا عن أنها محروسة أشد ما تكون الحراسة؟ نام النظام في العسل، فاليد الحديدية والإذلال أثمرا ركون الشعب «الميت» إلى هوانه وقبوله العيش فيه باعتباره ساحته الآمنة، التي يعيش فيها بعيدا عما سيصيبه من فتك وبطش، إن فكر بالخروج من شرنقة خوفه إلى ساحة «شأن عام» قاتلة، تقلصت إلى حد يقارب حدود الاختفاء التام. لا عجب أن هذا الاطمئنان الرسمي أعقب فشل المطالبة بالإصلاح، التي نشأت مطالع القرن في البلدان العربية عامة ومصر خاصة، واستخلص الحكام منها أن مجتمعاتهم، التي تجثو على ركبها تستجدي رحمتهم وعدلهم، ضعيفة لا تستحق غير التجاهل، فأمعنوا في ازدرائها وزادوا جرعات الظلم، التي كانوا يعرضونها له، وتركوا الحبل على غاربه، فعم الفساد وصار إفسادا منظما طاول كل شيء، وبلغ الاستهتار بالمحكومين حدا السخرية العلنية ـ لنتذكر جملة مبارك الهازئة والمفعمة بالاحتقار حول البرلمان الشعبي، الذي أسسه قرابة مئة نائب في برلمان مصر السابق: خليهم يتسلوا! «وتعاظم الانقسام بين المنعمين الذين تزايدت صعوبة فهم سلوكهم المستهتر، والمحرومين إلى حدود لا تحتمل، وتزايد التناقض بين من هم فوق وتحت، وأخذ صورا استفزازية عصفت بأسس العيش المشترك والتواصل المجتمعي والإنساني، وتجاوزت أي منطق، وإلا كيف نفسر إصرار الرئيس مبارك على التمسك بالسلطة، وحديثه عن شرعيته رغم ما تعيشه مصر من تمرد شعبي يكاد يشمل كل مواطن فيها، وهل يستمد سيادته شرعيته من نفسه أم من الشعب؟ وكيف يبدي هذا القدر من عدم الاكتراث بالصوت الجماعي الذي يطالبه اليوم بالرحيل، لأنه رفضه عندما طالبه البارحة بتزعم الإصلاح؟ وهل يعقل أن يراهن من جديد على صمت وصبر شعبه، رغم أنه لم يعد لديه ما يمكنه من إرغامه على التراجع؟ أليس سلوك مبارك هذا دليلا على سقوط شخصه والطبقة الحاكمة، التي يبدو أنها عاجزة عن الخروج من عقلية عاشت فيها لفترة طويلة، جعلتها واثقة من أن الشعب لن يقوى على مبارحة وضعه ككتلة لا تحس ولا تعي، ستقبل دوماً بامتنان ما تعيش فيه، فلا ضير على مبارك وجماعته أنهما وضعا نفسيهما فوق التاريخ والواقع، وفقدا القدرة على فهم ما يجري اليوم، بعد أن أمعنا بالأمس في إنكار وجود مشكلات في مصر وتحدثا عن فائض الحرية الذي يرتع فيه مواطنوها، ونفيا أن يكون شعبها غير راض، أو أنه يطالب بالإصلاح، وكيف يطالب بإصلاح من يغرق في النعيم!
قال مبارك قبل أقل من شهرين في خطبة ألقاها أمام مجلس الشعب المزور، تعقيباً على واحدة من حركات الاحتجاج الكثيرة: خليهم يتسلوا. يبدو أن مواطنيه قرروا تلبية دعوته، وأنهم صمموا على أن يتسلوا حقا، ولكن بمبارك ونظامه!
هل يفهم سادة النظام العربي هذا، ويبدأون بحل مشكلات شعوبهم ونظمهم، كي لا تتسلى مجتمعاتهم بهم ذات يوم، كما تسلت بالأمس بزين العابدين بن علي، وتتسلى اليوم برئيس مصر ونظامه!
(كاتب سوري)