ثــورات الكــرامــة
ياسين الحاج صالح
إلى روح خالد سعيد
كيف يمكن أن نفهم انتفاضتا التونسيين والمصريين؟ تدافع هذه المقالة عن فكرة أنهما انتفاضتا الكرامة، أنهما تردّان على شعور عميق بالمهانة وفقد الاعتبار، وأنه يحركهما معا طلب الاحترام الفردي والجمعي.
ليس الجوع هو ما حرّك التونسيين ولا المصريين، وليست أي منهما ثورة جياع أو ثورة خبز. لا ريب أن مطالب تتصل بالعمل والمعيشة كانت حاضرة بقوة، وربما في تونس أكثر من مصر، رغم أن متوسط دخل الفرد التونسي أعلى من نظيره المصري، وأن أشكال الحرمان الفاحشة المميزة لمصر غير معروفة في تونس. بل لعل إحباط توقعات أعلى من الحياة عند التونسيين بفعل الصيغة الفظة من جشع الطغمة الطرابلسية ومحاسيبها كانت وراء ثورة تونس، حسب تحليلات متواترة، غير أن علو التوقعات يحيل إلى مطالب تقدير للذات والاعتراف والجدارة التي بدا أن النظام السياسي الاقتصادي التونسي عاجز عن توفيره لغير نسبة محدودة من السكان. والواقعة التي فجرت ثورة تونس، حرق محمد بو عزيزي نفسه، تتصل مباشرة بجرح الكرامة لا بالحاجة المادية وحدها، أو لنقل بتكشف أن الحاجة المادية محددة سياسيا بصورة مباشرة، الأمر الذي ربما يفسر سرعة تحول الاحتجاجات التونسية من مطالب العمل والدخل إلى مطالب الحرية والكرامة.
وظاهر أنه في مصر، كما في تونس قبلها، يتكون جمهور الاحتجاجات من أطياف واسعة من الطبقة الوسطى المتعلمة والمستقلة ماديا، وهذه الأطياف أقوى شعورا بفرديتها وأكثر حساسية لمطالب الاحترام والجدارة، وأحدّ شعورا بالعار من الشكل الفظ للسلطة، ومن قسوتها البهيمية، ومن جشعها البهيمي بدوره، ومن تفاهة أربابها وسقم ذوقهم، وانحطاط مستواهم الفكري والسياسي والأخلاقي.
قد يمكن القول، تاليا، أن ما فجّر انتفاضة التونسيين والمصريين هو ضآلة ما يستطيع النظامان توفيره من اعتراف بمواطنيه ومن احترام لهم وتقدير لإنسانيتهم. أو لنقل هو احتكار نخبة السلطة العليا للكرامة والحرية والاحترام، ومثابرتها على نمطٍ من ممارسة السلطة بدائي، متصفٍ بالعضلية والفظاظة والاحتقار لغير المحميين من عموم السكان.
ولعل في تطلب الاحترام في مصر عنصرا جمعيا ووطنيا أكبر مما في تونس. أهان نظام مبارك مصر وحطّ من شأنها، وجعلها بلدا لا معنى له ولا قضية ولا كيان، فوق إهانته المصريين أفرادا. لقد «أهدر آدميتهم» حسب حسن نافعة، ويعامل شبابهم «زي البهايم» حسب الموسيقي عمار الشريعي (معلقا على قطع خدمات الهاتف المحمول والانترنت، وهي مثل الهواء والماء اليوم حسب الشريعي). وربما من هنا النبرة الملتاعة في احتجاجات المصريين، وربما من هنا يستمد غضبهم المستعر طاقة استمراره في مواجهة النظام (أكتب مساء الثلاثاء، في اليوم الثامن للانتفاضة المصرية). وتواتر استخدام كلمة الغضب في تسمية المصريين احتجاجاتهم يكشف بوضوح عن اتصال الأمر بالكرامة واحترام الذات. أما في تونس، حيث مستوى التعليم والدخل أفضل، فقد يكون مطلب الاحترام والتقدير فردانيا أكثر. النظام هنا لم يبلغ في تحطيم أسباب احترام التونسيين لبلدهم المبلغ الذي حققه نظام مبارك. نعلم، مع ذلك، أن عبارة الكرامة الوطنية كانت متضمنة في شعارات الانتفاضة التونسية.
ومما يرجح هذا التقدير أكثر، المحدودية المستغربة للوهلة الأولى لمساهمة الإسلاميين في احتجاجات البلدين، بخاصة في مصر حيث لهم وزن كبير، وحيث يبدو المجتمع ذاته أشد تدينا بكثير. يبدو أن الاحتجاج الإسلامي المعاصر يلبي تطلبا للتطهر والانضباط، موجها ضد شعور بالتلوث والفوضى قد يتفجر بصورة عدائية ضد من قد يعتبرون مصادر خطر وعدوى من غير المسلمين أو غير المؤمنين أو غير الإسلاميين (عقيدة «الولاء والبراء» السلفية تستجيب بكفاءة لهذا التطلب). وهو أيضا ذو طابع جمعي قوي لا يتيح ظهورا لشخصية الفرد وأناه المستقلة وذاته غير القابلة للذوبان في كلٍّ ما. والحال أن الشخصية والاستقلال والفردانية هي بالضبط محركات انتفاضات الكرامة. ومنذ أن نتكلم على كرامة نتكلم حتما على حرية، وعلى سيادة على الذات، وعلى تفكير شخصي مستقل، وعلى إرادة فردية حرة، مما لا توفره الاحتجاجات الإسلامية، بل لعلها تقمعه. لكن هناك اليوم مساحة اشتراك واسعة بين صنفي المطالب، تتمثل في مخاصمتهما معا للنظام، وتحيد التوترات المحتملة بينهما (إلى حين؟). ذو دلالة على كل حال أن الفلتان الأمني في مصر لم يشهد أبدا اعتداءات على مسيحيين مصريين أو على كنائسهم وممتلكاتهم. لا ريب أن نوعية الروحية المسيطرة اليوم والمتعلقة بالكرامة والاحترام مضادة لاحتمال كهذا، بقدر ما إن الاعتداء على مسيحيين اقترن على الدوام بشعور بالمهانة الوطنية عند المصريين. هذا فوق أن تطلب الاحترام تحرري ومواطني، مقترن بأخلاقية الضمير الفردي، ويتعارض تماما مع الاعتداء على أقلية أدنى حصانة.
حين لا يأمن أحد لأحد
ثم أن غياب الأحزاب السياسية والعناوين الإيديولوجية يشير إلى هيمنة «مستقلين» وغير حزبيين في هذه التحركات الاجتماعية الواسعة. ومخاطرة شباب تونسي ومصري بأمنه، وربما بحياته، ومبادرتهم إلى حماية ممتلكات عامة وخاصة، ومحاولاتهم ضمان أمن مواطنيهم وحماية النظام العام، يؤشر بدوره إلى ارتفاع في تقدير الذات وحبِّها والشعور بالكرامة الشخصية. فهذه هي ما تدفع إلى التضحية والفداء، فيما لا يدفع الذل واحتقار النفس إلى غير الأنانية والجبن وشح النفس. يضحي بنفسه من يملك نفسا، ونفسا كبيرة. موتى النفوس لا يفعلون.
والواقع أن مشكلة العالم العربي ككل تتمثل في ضآلة ما يوفره من كرامة واحترام للذات لسكانه. ما يجرح جمهورا عربيا واسعا هو فقدان الكرامة الفردي والجمعي، والمهانة العميقة التي يتشاطرها العموم، باستثناء النواة الصلبة للنظم الطغموية. حين يقول محمد الغنوشي رئيس الوزراء التونسي: نحن أيضا كنا خائفين، يعني أيام بن علي، يجدر بنا تصديقه (هذا لا يبرر الوثوق به سياسيا). هذه نظم لا تأمن على نفسها إلا بأن لا يأمن أحد فيها على نفسه، ولا يأمن أحد لأحد. ينبغي أن يكون الجميع، أعوان الحاكم قبل غيرهم، أذلاء، بلا شرف، ومعدومي الشخصية، كي يكونوا أدوات صالحة. ومعلوم أن رئيس الوزراء في أي من بلداننا ليس الرجل الثاني في الدولة، وأن الاستغناء عنه وعن أي وزير لم يشكل صعوبة يوما لأي حاكم. ولقد صرف حسني مبارك حكومة أحد نظيف من دون أن تسمع همسة تململ من أحد شاغلي المناصب فيها أو حتى دفاع عن نفسه. لا نفوس لهم.
وبينما تصلح تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية مؤشرا عاما لمستوى الذل في بلداننا، فإنها لا تستنفده بحال، بل ولا تشير إلى مداه ونطاقه لانحصار رصدها المتأصل في أوساط نخبوية، سياسية وثقافية. ليس القنوط المنتشر، وليست المجاهرة بالخوف من قبل كثيرين، وليس الحضور الكثيف للخوف في الحياة اليومية لكل الناس، وليست الهجرة التي يحلم بها كثيرون حتى إذا تحققت لهم لم يعد لهم من حلم غير العودة، وليس مستوى الكراهية المرتفع في الأوساط النخبوية في مجتمعاتنا، وليس الشعور الشائع بالتفاهة وضآلة الشأن، وليست طقوس الزراية بالعرب يكررها دونما ملل عربٌ، غير أوجه متعددة لفقدان عميق للشرف واحترام النفس. ولقد تسنى لي أن ألحظ أن غير قليل من مدمني هذه الطقوس انقلبوا عليها بصورة شبه فورية إثر الانتفاضتين التونسية والمصرية. وأن يُقرَّ كثيرون، بينهم كاتب هذه السطور، أنهم كانوا يبكون وهم يشاهدون شباب تونس ومصر يكسرون قيودهم، لمؤشر إضافي على جوع إلى الكرامة عريق، يعتمل في النفوس المهانة. هل أهين أحد أكثر منا، أفرادا وشعوبا؟
ليست مطالب مادية
وظاهر على كل حال من التعليقات على صفحات الفيسبوك أن دافع الكرامة والشرف هو الأقوى في التفاعل مع تونس ومصر. هذا دال لأنه يُعتقَد (بصورة مبالغ فيها في تقديري) أن لمواقع تواصل مثل فيسبوك وتويتر ضلع في الثورة التونسية. وهو مفهوم أيضا. فجمهور الفيسبوك ينحدر عموما من الطبقة الوسطى المتعلمة، وربما الأرفع تعليما، والأكثر إحساسا بشخصيتها وتطلبا للكرامة.
لكن يلزم استدراك كبير هنا. ليس صحيحا بحال أن هناك مطالب أساسية، «مادية»، هي الخبز والسكن والصحة… ومستوى الحياة، هي ما تهم عموم الناس، الأفقر منهم بخاصة، وأخرى أقل أساسية، معنوية وثانوية، هي الكرامة واستقلال الشخصية وحرية الإرادة والاعتداد بالنفس، تهم أناسا من مراتب اجتماعية أعلى. ما يهين الفقراء في الفقر هو دلالته على فقدان الاعتبار، وعلى أنهم لا شيء ولا أحد، وليس الجوع بذاته. يتحمل الناس حرمانات متنوعة لو أمكن إدراجها في رؤية عامة، يشاركهم فيها آخرون. بالعكس، إن الكفاية المادية من دون احترام تثير شعورا بالاغتراب وازدراء النفس، وتشكل دافعا للثورة بدرجة قد تفوق الحرمان المادي وحده. على أنه يصح القول إن الكرامة والتقدير الذاتي تشغل موقعا متقدما في مطالب الطبقة الوسطى المتعلمة والمستقلة.
والواقع أن اعتبار مطالب الكرامة والحريات ثانوية يصدر عن تصور ميكانيكي أو مادّوي للطبيعة الإنسانية، كانت قامت عليه الاشتراكية السوفياتية وأشباهها، واستحقت عليه المآل المعلوم. ولعل النظامين التونسي والمصري ووجها بانتفاضات الكرامة والغضب لأنهما جمعا بين إنكار الكرامة الفردية لأكثرية موطنيهما، وبين فقدان كل منهما لأي مبدأ أو معنى عام كان من شانه أن يضفي قيمة نسبية على حرمانات مواطنيهما، الأمر الذي أدى إلى اكتساب هذه الحرمانات قيمة مطلقة، أي اعتبارها عارا وذلا صميميا، لا مناص من الخلاص منه. وما يعزز من ذلك أن طغمتي النظامين تميزت بالتفاهة المطلقة والجشع المطلق.
بالمقابل، ربما تتمتع نظم عربية أخرى بهامش ضيق ومزوّر من مبدأ عام، «قومي» أو «إسلامي»، تسوغ به إدامة ذل رعاياها. لكن هذا يزدادا هشاشة وانكشافا. والمزيد من هتكه وكشف زيفه واجب مُلزِم اليوم للمثقفين. على كل حال، لا تعول النظم هذه على ذلك الهامش وحده. فهي لا تكف عن تعزيزه بسورين عاليين: الخوف، تتولاه أجهزة مختصة ذات اسم أورويلي: أجهزة الأمن، وقد ظهرت صورتها الحقيقية بجلاء تام في تونس بعيد سقوط بن علي، وفي مصر بين يومي جمعة الغضب والاثنين التالي؛ ثم «الطائفية» باعتبارها اسما عاما لخوف السكان من بعضهم وانعدام ثقتهم ببعضهم، وكدفع لهم إلى التخلي عن أناهم المستقلة وتفكيرهم الشخصي وإرادتهم الحرة لمصلحة روابط موروثة.
والخلاصة، أن انتفاضات اليوم هي انتفاضات الكرامة وبروز الفرد المستقل، وأنها ثورية حقا لكونها تسجل تعطشا للحرية والذاتية، متحديا الأجهزة السياسية القامعة، وكاسرا للقوالب الإيديولوجية الخانقة، الناطقة باسم كائنات جمعية لا وجه لها.
(كاتب سوري)